عرقسوس
العم سعيد
صبحي سليمان
ـ هيه ... يا رب أرزقني يا كريم برزقي ورزق أولادي ...
فهذه ثاني قرية أخرج منها دون أن أبيع أي كوب ... وها هي قرية جديدة ... اللهم
ارزقني فيها يا رزاق ...
هكذا حدث العم سعيد
بائع العرقسوس نفسه ... فهو مُنذ الصباح حاملاً قدر العرقسوس ولم يشتري منه أحد؛
ولا يدري السبب : فالعرقسوس لذيذ؛ وجو الصيف حار كعادته؛ ولكن لم يشتري أحد من
عرقسوسه؛ وبدأ الثلج الموضوع فوق القدر بالذوبان من حر الصيف؛ وبدأ الخوف يدق باب
قلبه بسبب ذوبان الثلج؛ فإذا انتهي الثلج لن يكون العرقسوس مُثلجاً؛ وقد يفسد
العرقسوس بدون الثلج ...
ما أن دارت كُل تلك
الأفكار في ذهن العم سعيد حتى حمل قِدر العرقسوس بقوة؛ ونظر نظرة للسماء وهو يقول
: ـ أكرمنا يا كريم ... بسم الله الرزاق ...
وما أن دخل العم سعيد
القرية حتى التف حوله الصغار؛ ونظروا إلي قِدره الزُجاجي المملوء بهذا السائل
الأسود العجيب؛ فسأله أحدهم : ـ ما هذا يا عماه ...
فأجابه مُبستماً : ـ إنه عرقسوس يا صغيري ... وهو لذيذ
الطعم ...
فابتسم الصغير وأخرج قرشاً من جيبه وهو يقول : ـ حسناً
أعطني بقرش أيها العم ...
فابتسم العم سعيد وأمسك القرش وقبله ووضعه في جيبه وهو
يقول : ـ استفتحنا بإذن الله ...
وصب له كوب من العرقسوس ...
هُنا نظرت أعين الأولاد
جميعها إلي الغُلام الصغير الذي شرب العرقسوس بتلذذ وهو يقول : ـ أممم ... يا له
من شراب لذيذ ... أعطني كوب آخر يا عماه ...
وقبل أن يُعطي نقوده
للعم سعيد تهافتت عليه جموع الأطفال التي قالت بصوت واحد : ـ ونحن أيضاً أعطنا كوب
يا عماه ...
فتهللت أسارير العم
سعيد الذي زرفت عيناه دمعة رقيقة من فرط سعادته بكرم خالقه عليه ... وسريعاً
سريعاً ... انتهي قدر العم سعيد من العرقسوس ... ولكن مازال عدد كبير من الأطفال يُريدون
الشراب ... فقال لهم : ـ
ـ إن شاء الله غداً يا أبنائي سأحضر لكم المزيد ...
وستكونوا أول من يأخذ ...
حمل العم سعيد قدره
الفارغ؛ وخرج من القرية وهو يحمل قوته وقوت أولاده ... فشكر خالقه واتجه تجاه بيته
ليُطعم الصغار ويُبشرهم بالخير الذي رزقه الله به ...
وفي عصر اليوم التالي أتي العم سعيد بعرقسوسه
اللذيذ؛ وفي هذه المرة زاد من مقدار العرقسوس؛ لأن الطلب عليه كثير ... وسريعاً
سريعاً ... أنتهي العرقسوس؛ وأيضاً ما زال عدد من أطفال القرية يُريدون العرقسوس ...
فطمأنهم مُبتسماً : ـ
ـ إن شاء الله غداً سأزيد الكمية ... وستكونوا أول من
يأخذ ...
واستمر العم سعيد ينشر
السعادة في قلوب الصغار طوال الصيف بعرقسوسه اللذيذ؛ وفي آخر أيام الصيف قال
أحد الصغار للعم سعيد : ـ سنشتاق إليك يا عماه ... وسنشتاق إلي عرقسوسك اللذيذ ...
فالشتاء قادم؛ وقال لي أبي أن العرقسوس مُثلج ولا يصح مع برد الشتاء؛ لذا لن نشرب
عرقسوسك في الشتاء ...
دمعت
عين العم سعيد عندما شعر أنه سيُفارق الأولاد؛ فصب أحد الأكواب قائلاً : ـ اليوم
العرقسوس مجاني يا أولادي ... فغداًَ أول بدايات الشتاء ولن نتقابل حتى الصيف
القادم ...
شرب الأولاد العرقسوس؛ وما كادوا أن ينهوا
الأكواب؛ فإنهم يُريدون أن يظلوا مع العم سعيد أطول فترة مُمكنه؛ ولكن أقترب
الشتاء؛ وحان موعد الفُراق؛ فالعم سعيد لا يعيش في قريتهم ولن يرونه إلا مع بداية
الصيف المُقبل ...
وبدء الشتاء ببرده المُعتاد؛ وبكآبته التي
أعتادها الأولاد في قريتهم الصغيرة؛ وافتقدوا العم سعيد كثيراً؛ إلا أنهم شعروا
بشيء غريب في قريتهم ... فهناك في وسط القرية شيء ما يحدث ... فعلم الصغار أن العم
سعيد قد أشتري دُكاناً يبيع فيه حُمص الشام ... ففرح الصغار؛ وألتفوا حول الدكان
الجديد وهم يشترون منه حُمص الشام بسعادة ... إنه حُمص العم سعيد الذي يُشعرهم
بالدفء في الشتاء ...
هُنا علم الصغار أنه ليس حُمص الشام ولا
العرقسوس الذي يُحبونه في العم سعيد ... بل إنهم يُحبون قلب العم سعيد الذي أسعدهم
صيفاً وشتاًء ... فالشيء الذي تشربه أو تأكله من يد تُحبك هو ألذ وأطعم شئ في الدُنيا
... فعاش العم سعيد بالقرية هو وأولاده مع أهل القرية في سعادة دائمة؛ وحُب لا
ينقطع ...
تمت بحمد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق