لنْ يَعُودَ الجَبَلُ
أحمد زغلول
كَانَ هنَاكَ لأبي قِردَان صَدِيقٌ اسْمُهُ ناصِرٌ ، وَكَانَ أبُو قِردَان
اسُمَهُ " قــَرقــُور " ، بَعْدَ أنْ أنَهَى أبُو قردان عَمَلهُ فِي أحَدِ
حُقُولِ الأرْزِ فِي بِلادِ الصَّعِيدِ ، قرَّرَ زِيَارةَ ناصِرا .
كانَ ناصر يَعيِشُ فَي وَسْطِ المَدِينةِ مَعَ
أسْرةِ مُتوَسِطةَ الحَالِ بِإحْدى قـُرَى مُحَافَظةِ الجِيزةِ ، وكــَان تِلمِيذا
فِي الصَّفِ الخَامِسِ الابْتِدَائِي ، لهُ
شَعْرٌ نـَاعِمٌ ، وَوَجْهٌ أسْمَرٌ ونحِيفٌ ، عِندمَا يتكلمُ تشْعرُ بأنَّ فمَهُ
مُبْتسمٌ.
بـَدَتْ القِريَةُ التِي يَسْكنُ
فِيها ناصر في الظهُورِ ، البيوتُ مُتلاصِقة ، والشَّوارِع ضَيّقة .
وعَلـَى أطْرافِ القريةِ أبْصَرَ " قرقور " جَبلاً يَرتفِعُ
إلى السَّمَاء ، فقالَ :
مَا هَذا الجَبل؟ وكيْفَ ظَهر فَجأة لم يكن مَوجُودا منذُ شَهرين ؟
اقترب " قرقور " من الجَبل ، فانتشرتْ رائِحَة عَفِنة ، فطارَ عَاليا
، لم يُطِق رائِحة ذلك الجَبلَ ، فقالَ مُتألمِا :
إنَّه جَبَلٌ من القـُمَامَة .
هبَّت عَاصِفة قويِّة فطَارت أكـَياسُ الحَلـَوى والبَطاطِسِ
والأتربةِ وقشرِ البُرتقالِ
كادت أن تصدم " قرقور " فقال " قرقور " منزعجا :
ابتعدي عنى أيتها الأشياء القبيحة ..
ابتسمت أكـَياسُ الحَلـَوى
والبَطاطِسِ وقشرِ البُرتقالِ وقالت :
ومَا ذنِبنا نحنُ ، الذنبُ ذنبُ ابنُ آدم ؟
وقالت أكـَياسُ الحَلـَوى لأكياس البطاطس فى سُخريّة :
سَمِعتُ مرَّة اثـْنين من أبَناءِ آدم يَقول أحدُهما للآخر :
إذا وَجدتَ الأرضَ قبيحَة لا تقلـَقْ وانـْظرْ إلى السَّماءِ ستجدُها صَافِية
..
انفجَرَ كيسُ البطاطس وقال ضَاحِكا
:
مِسكينٌ ابْنُ آدمَ ، لم تـَعُد السَّماءُ زرْقاءَ ، ولو نظر إلى أعْلى سيَرى ذلك الجبَل َ القـَذر الذي يتمَددُ يَوْما
بَعد يَوْم عَاليا..
سَمِع " قرقور " هذا الحِوار وقـَال فى حَسْرَة :
ومَاذا نفعَلُ مَع ذلك الجَبلِ الذي
يَعُلو يَوْما بَعد يَوْما ؟
وصَلَ " قرقور " إلى
بيتِ ناصر حَزينا وكـَئيبا ، وعِندَه مِئات
من الأسْئلة حَول هذا الجَبل القبيحِ ، قال لنفسِهِ :
سَيَتبددَ حُزني فَور لقَائي بصَديقِي.
طَار " قرقور " إلى
السُّورِ المُطِلِ على النَّافذِةِ ، ومِن النَّافذِةِ رَأى ناصر مُنهمِكا فى المُذاكرَة
ِ، لفتَ انتباهَه بعضُ اللافتاتِ أمِامه ،فقد كانت ذاتَ ألوان مُختلفة حَمْراءَ وصَفراءَ وخَضَراء وزرقاء ..
دقَّ " قرقور " زُجَاجَ
النَّافذِة بمُنقاره وقال مُداعِبا :
ألا ترحمُ عَينيكَ ، المُذاكرةُ لا تنتهِي ؟
فتح ناصر النَّافذِة َ بـِسرعة وقال بلهَفة :
حَمدا على سَلامتك .
ابتسم " قرقور " وارتمى
فى حُضن صَديقه ناصر وقال:
كان موْسمَ عَمَل صَعَب بالنسبة لي
، لم أرْك مُنذُ شَهرين .
دَارت سَاعة من الحَديثِ حَكَى
" قرقور " لِصِديقه مَتاعبه فى العمل وأخبره أنه اصْطاد َ فى هذا الموسمِ آلافَ من الحَشراتِ والديدان ، وأنه هَربَ من آلاف الأحْجار التي صوَّبها عليه الأولاد الأشْقيَاء ..
قال " ناصر " مُبتسما :
أنت صديقٌ رائِع ، وعامِلٌ ممتازٌ ..
قال " قرقور " :
وأنا أول مرَّة أكونُ صَديقا لغير
فلاح ..
ضَحِكَ ناصر وقال :
ومن أدْراك أنني لستُ فلاحا ؟!
فى الغد سأكونُ مهندسِا زراعيَّا .
نظر" قرقور " على حُجرةِ
ناصر ، فوجدَ خريطة كبيرة عن مصرَ وألوانا بُنيِّة على الخريطَة فقَال:
ما هَذه الأشياء البُنيَّة التي
على الخَرِيطة ؟
قال ناصر وقد أشَار إليهَا:
إنها جِبالٌ مِصريةٌ : جَبل مُوسَى
وجبل السُّكرِي وجَبل العُويْنات ِ..
طـَار " قرقور " فى
الغـُرفة وقال وكأنـَّه يُدَارِي حُزنا :
حَسنا ، ولكني رأيتُ جَبلا آخر رأيتُه على أطـْرافِ القرية
لم يُجِب ناصر وسكت قليلا ، فأدركَ " قرقور " أن ناصر حِزينٌ
ومتألمٌ .
سَكتَ ناصر لـَحظـَات ثـمَّ قال :
يا صديقي ، يجب نـَسْفُ هذا الجبلِ يا صديقي .
توَّجَهَ ناصر إلى المَكتب وأمَسك اللافتاتِ قائلا :
تَعالَ وانظـُرْ مَاذا كتبتُ ؟
عرَض " ناصر اللافتات الحَمَراء والصَّفراء والخَضْراء والزَّرقَاء ، ثم قال بِسعَادة :
غدا سَوْف نـَنْسفُ هذا الجَبلَ الذي ظَهر فَجأة .
عرَض اللافتة بالعَرضِ وقرَأ بصَوَت عَال :
" احْترسُوا من خَطَر قادم أولَ المدينة " ..
وعلى البِطاقةِ الصَّفراء :
" الإنذارُ الأخير وإلا سَيندَمُ الجميع "
ثم قرأ ما كَتبه على اللافتة الزَّرقَاء
:
" هل ننتظر أن تسُوء صحتنا ونكون "كالزُّومْبي " زُرْقَ
الوجوهِ ..
وعلى الخَضْراء:
" النظـَّافة ُ من الإيمان ِ
"
وعلى لوْحَة بيضَاء :
" غدا سيكون العَمل ُ"..
قال " قرقور " وماذا
تفعل بهذه اللافتات يا ناصر ؟
رد بحزم:
سَنعلقها غدا ، وندعُو سُكانَ القرية ومن حَوْلها إلى تدْمِير ذلك الجبل ..
ثم أشار إلى صُندوق فى نهَاية الغُرفة
وقال :
هل تساعِدني ؟
قال " قرقور " مُتلهفا
:
طبعا ، يسرني أن أرى المكان بلا قمامة ..
عليك أن توزع هذه البطاقات الصغيرة على سكان القرية والقرى المجاورة فى الغد بعد الواحد ظهرا .
كانت الشَّمس تسْتمع إلى ذلك الحديث من النَّافذة
، وأخذت خيوطَها الصَّفراء وغربت وهى سَعيدة
وهى تقول :
ما أجمل الصَّديقين !
صَعد " قرقور " إلى الشَّجرة المُجاورة لبيت ناصر وقضى الليل
منتظرا الصَّباح الجميل .
فى الصَّباح أسْرع " قرقور
" إلى أحْد حُقول الذرةِ ، و بدأ يَلتقط
الديدان بمُنقاره البُرتقالي بمَهارة فائقة ..
احمر قرص الشمس وقال :
هيا يا " قرقور " كادت السَّاعة تقترب من الواحدة .
ابتسم " قرقور " وطار بيت
ناصر ، وما إن دخَل القرية َ حتَّى وجد
ناصِرا يقِف وسْط زملائه ..
رأى آلة قوية تهدِم الجبلَ
بذراع حديدي ، وذراع الآلة الآخر يَضعَ
القـُمامة َ فى عَربة ، أسرع عمال الحيِّ يضعُون
القـُمامة والنـُّفـَايات فى أكـْياس واسِعة سودَاء .
طار " قرقور " إلى
بيت ناصر وألقـَى البـِطاقاتِ الحَمراء
والزَّرقَاء والصَّفراء فى الهواء ، تسابق الناس إلى التقاطها وقرءُوا :
" الإنْذارُ الأخيرُ "
سَمَعَ " قرقور " طِفلين ، يقول أحدُهما بيأس :
سَوف يعُود جبلُ القـُمامة ثانية فلمَاذا يتعبُ النـَّاس أنفسهم ؟
ولكن رد عليه الطـِّفل الآخر بأمل:
لن يعود الجَبلُ يا صَديقي .
استمرت " قرقور " فى توزيع البـِطاقات بصبر وجلد ، وفى كلِّ مرَّة
كان يلقي نظرة على الجَبلِ من فوق وهو يَنخـَفـِضُ ..
يَنخـَفـِضُ ...
يَنخـَفـِضُ ..
حتَّى اخْتفى تماما ، وظَهر المَكان كما كان ، كانت أرْصِفة ُ الطَّريق ِ تعَانقُ نهر الشارع فى
ابتسِام وتقول :
َُ نـُسِفَ الجبلُ ..
نزل" قرقور " ووقف
على كَتف ناصر ، شَكر ناصر صَديقه " قرقور
" وقال :
لقد أدَّيتَ المُهمة بنِجاح .
قال " قرقور " بانْبهَار وقد رأى الأشجارَ
تزيِّنُ المكان :
ما أجَملَ المكانَ !
ابتسم ناصر قائلا :
غدا سيأتي مُهندسو الحي و يَبنون نَافورة ، و لن يَعود الجبلُ ثانية
تذَّكر" قرقور " كلمة
الطـِّفلِ وهو يقولُ :
" لنَ يعُودَ الجبلُ "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق