لأني أسد
قصة للأطفال
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــــــــ
عندما أعود الآن بذاكرتي إلى الوراء ، وأراجع
علاقتي بأبي الأسد ، ملك الغابة ، لا أذكر أن علاقتي به كانت جيدة في يوم من الأيام
.
وعلى العكس من أبي ، كانت أمي
اللبؤة ، ترعاني رعاية خاصة ، وتحبني حتى أكثر من أختيّ اللبؤتين الصغيرتين
المدللتين .
ورغم ذلك ، لم أشعر بأن أبي
الأسد ، ملك الغابة ، كان يكرهني ، أو لا يريدني إلى جانبه ، حتى وقفتُ ذات يوم ،
فوق المرتفع المطل على الوادي ، وكما يفعل أبي الأسد ، زأرتُ بأعلى صوتي :
آآآآآ .
وبقدر ما بدا الفرح والزهو على
أمي ، أمامي حماسي وزئيري المرتفع ، لاح أبي عابساً ، مستاء ، وقال لي غاضباً :
كفى ، لا تنهق هكذا .
لم أفهم ما قصده أبي ، فالتفتُ
إلى أمي ، وسألتها : ما معنى .. تنهق ؟
وكتمتْ أمي ضحكتها ، ثم قالت :
دعكَ من أبيك ، إن زئيرك مرتفع ، قويّ ، جميل .
وبعد أن غادرت الأجمة ، التي
ولدت فيها ، والتي يعيش فيها أبي الأسد ، ملك الغابة ، ومعه تعيش أمي اللبؤة
الحبيبة ، وأختاي المدللتين ، عرفت أنّ معنى كلمة " تنهق " ، التي قالها
لي أبي ، كانت صوت .. ليس الأسد أو النمر أو الفيل بل صوت .. الحمار .
" 2 "
ــــــــــــــــــــ
قبيل منتصف نهار اليوم التالي ، جاءت أمي
بغزال ضخم ، وتوقفنا أنا وأختايَ ننظر إليها ، وقد بدأت بطوننا تقرقر من الجوع ،
فنحن لم نأكل شيئاً منذ يومين ، لكن أمي اقتربت من أبي " ملك الغابة " ،
الرابض تحت الشجرة الضخمة ، ووضعت الغزال أمامه ، وانسحبت بهدوء لتجلس إلى جانبنا
.
وأكل أبي " الأسد " ،
حصته من الغزال ، ويا لها من حصة ، لا عجب فهي حصة أسد ، وللأسد " ملك الغابة
" حصته الخاصة ، التي لا يحدها حدود ، ولا يناقشه فيها أحد مهما كان .
وبعد أن امتلأ ، ولم يعد في
جوفه متسع للقمة أخرى ، ألقى نظرة سريعة علينا ، ثم مضى مبتعداً ، وتمدد تحت شجرة
قريبة ، فالتفتت أمنا اللبؤة إلينا ، وهمست قائلة : هيا نأكل ، لكن بهدوء ، فأبوكم
سيغفو قليلاً .
وربما لأني أسد مثل أبي ، رغم
صغر سني ، كما تراني أمي ، وهذا ما لا يراه أبي " ملك الغابة " ، زاحمتُ
أختيّ على الطعام ، ويبدو أن أبي " ملك الغابة " كان يراقبني ، فزأر
قائلاً : آآآآآ .. دعهم يأكلون ، انظر إلى نفسكَ ، صرت ضخما كالثور ، لكنك مازلت
تعتمد في طعامكَ على أمكَ .
توقفت عن تناول الطعام ، ونظرت
إلى أبي " ملك الغابة " ، فنهض واقفاً ، وحدجني بنظرة غاضبة ، وقال :
اغرب عن وجهي ، اغرب ، لم تعد صغيراً ، ومكانك لم يعد هنا بيننا .
أشحتُ بعينيّ عن أبي " ملك
الغابة " ، وتراجعت متألماً ، ثم مضيت بعيداً عن الأجمة ، وأويت إلى شجرة
ضخمة ، تطل على الجدول ، وربضت في ظلها ، ودمائي تغلي من الغضب .
غربت الشمس ، وحلّ الظلام ،
وقبيل منتصف الليل ، ولم أكن قد نمت ، وكيف أنام والحزن والغضب لم يفارقاني لحظة
واحدة ، وتناهى إليّ دبيب أقدام خفيفة تقترب مني ، ورغم ضياء القمر الشحيح الشاحب
، عرفت أنها أمي ، ولاحت أمي قادمة ، وجلست على مقربة مني ، دون أن تتفوه بكلمة
واحدة .
ورفعت عينيّ ، ونظرت إلى أمي ،
وبدا لي أنها حزينة ، فقلت لها : لا أفهم ما يجري ، يا أمي .
فردت أمي قائلة : أبوك لا يكرهك
، يا بنيّ .
وبشيء من التأثر ، قلت : أنتِ
ترين موقفه مني في الفترة الأخيرة .
وربتت أمي على لبدتي ، التي
بدأت تظهر مؤخراً حول عنقي ، وقالت : أنت أسد الآن ، يا بنيّ ، لقد كبرت ، ولم تعد
شبلاً صغيراً .
ولذت بالصمت لحظة ، ثم قلت :
مهما يكن ، لن يراني أبي هنا بعد الآن .
" 3 "
ــــــــــــــــــــ
طوال اليومين التاليين ، تجولتُ في محيط
الأجمة ، ورغم حنيني إلى أمي ، وإلى أختيّ المدللتين أيضاً ، إلا أنني لم أفكر ،
ولو لحظة واحدة ، في الاقتراب من العرين ، لقد قلت لأمي ، إنني لا أريد أن أرى أبي
ثانية ، ولن أراه أبداً .
وتوقفتُ أكثر من مرة ، فوق تلّ
مرتفع ، عند طرف الغابة ، وتطلعت عبر سهل واسع ، إلى الأفق البعيد ، حيث تأوي
الشمس ، وتختفي طول الليل .
وقبيل غروب شمس هذا اليوم ،
أويت إلى شجرة ضخمة ، وربضت تحتها أنظر إلى قرص الشمس ، وهو يغيب شيئاً فشيئاً
وراء الأفق .
وانتبهت إلى وقع أقدام خفيفة
ورائي ، أهي أمي ؟ ونهضت واقفاً ، والتفت نحو مصدر الصوت ، نعم ، إنها أمي نفسها ،
تحمل بين أسنانها قطعة كبيرة من لحمل عجل فتيّ .
وتقدمت أمي مني ، ووضعت قطعة
اللحم الكبيرة أمامي ، وقالت بصوتها الأمومي : كلْ أيها الأسد .
ونظرت إليها صامتاً ، فتابعت
قائلة : اصطدت هذا العجل اليوم ، واشتهيت لك هذه القطعة .
لم أمدّ يدي إلى قطعة اللحم ،
وقلت : شكراً ، يا أمي ، إنني شبع .
وتساءلت أمي فرحة : اصطدت !
أجبتها قائلا : نعم ، اصطدت
أرنباً .
وابتسمت أمي ، وقالت مازحة :
لابدّ أنه أرنب عجوز ، خوّاف ، زأرت في وجهه ، فتهاوى على الأرض مغشياً عليه .
ارتحتُ لمزاحها الأمومي ، وقلت
لها : كلا ، كان أرنباً ضخماً ، ناضجاً ، وقد طاردته و .. واصطدته .
ولاذت أمي بالصمت ، فنظرت إليها
، وهممت أن أسألها عن أختيّ ، لكني سكت حين قالت : أختاك تسألان عنك ، وتسلمان
عليك .
أطرقتُ رأسي ، وقد دمعت عيناي ،
فنهضت أمي ، وهي تقول : الوقت متأخر ، نم يا عزيزي ، أنت بحاجة إلى الراحة .
ونهضتُ بدوري ، وقلت : أشكرك ،
يا أمي ، على قطعة اللحم ، لا تبحثي عني بعد اليوم ، فقد لا أبقى هنا غير هذه
الليلة .
" 4 "
ـــــــــــــــــــ
غداً أو بعد غد ، قد تأتي أمي إلى هنا بحثاً
عني ، بل ستأتي حتماً ، ولن تعود حتى تجدني ، وبين أسنانها قطعة دسمة من اللحم ،
اقتطعتها من حصتها وحصة أختيّ المدللتين ، فأبي لن يتنازل ، ولو عن عظمة صغيرة ،
لأي واحد منّا ، وخاصة لي .
وقد قالت أمي لي مرة ، وربما
كانت غاضبة من أبي ، لسبب من الأسباب ، إنها كانت تخبئنا في صغرنا عن أبي ، وتنقلنا
من مكان إلى آخر ، خوفاً علينا من أن يفتك بنا ، أو يفترسنا ، ولعل خوفها هذا لا
أساس له ، فمهما كان الأمر ، فنحن أبناؤه .
ربما عليّ أن أبقى في الجوار ،
لن أقرب أبي " ملك الغابة " ، بل لن أقرب العرين ، فقد أحتاج إلى رؤية
أمي ورؤية أختيّ ، ولو من بعيد ، لا أدري ، إنني أحسدهما ، فهما ستبقيان إلى جانب
أمي ، وحتى أبي ، لن يطلب منهما ، في يوم من الأيام ، أن تغادرا العرين ، يا للأسف
، قدري وحدي أن أغادرهم ، فأنا وإن كنت وحيداً .. أسد وليس لبؤة .
لا أدري متى غفوت ، ولكن حتى في
منامي ، رأيتني أنهض مع الفجر ، وأشدّ الرحال بعيداً ، حيث تأوي الشمس ليلاً ، بعد
أن سارت طول النهار ، فوق الجبال والتلال والسهول والبحار والبحيرات ، لتهوي
أخيراً في فراشها وراء الأفق ، وتستغرق في نوم عميق .
" 5 "
ــــــــــــــــــ
مع الفجر ، وكما في المنام ، استيقظت وكأن
أحداً أيقظني ، وبدأت مسيرتي بعيداً عن الغابة ، التي ولدت فيها ، وترعرعت بين
أحضانها ، ودربتني أمي على الصيد وسط طرائدها ، الكثيرة اللذيذة .
وسرت قدما ، لا ألوي على شيء ،
واجتزت تلالاً ومرتفعات صخرية وجداول وأجمات كثيفة الأشجار ، ورأيت الكثير من
الطرائد الشهية ، رأيت أرانب وغزلاناً وطيوراً مختلفة ، لكني لم ألتفت إليها ، ولم
أفكر في صيد أحد منها ، رغم حاجتي إلى الطعام ، فأمامي هدف ، وعليّ أن أصل إليه .
وعند غروب الشمس ، أويت إلى
شجرة ، وتمددت قريباً منها ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، ولعل السير طول
النهار ، قد أنهكني ، ونال من قواي ، وأحوجني إلى الراحة والنوم .
وحوالي منتصف الليل ، أفقت على
وقع أقدام خفيفة تقترب مني ، وفتحت عينيّ المثقلتين بالنعاس ، وإذا لبؤة في عمر
أمي تقريباً ، تقف على مقربة مني ، وتتطلع إليّ بعينين أموميتين ، واعتدلت قليلاً
، وعيناي تراقبانها ، فمالت عليّ ، وقالت : عفواً بنيّ ، أخشى أن أكون قد أيقظتك
من النوم .
واعتلت في جلستي ، وقلت : لا
عليكِ .
وابتسمت لي ، وقالت : لستَ من
هنا ، يبدو أنك قادم من مكان بعيد .
وهززت رأسي ، وقلت باقتضاب :
نعم .
وصمتت اللبؤة قليلاً ، وهي
تتأملني بعينيها الأموميتين ، وقالت بصوت حزين : لو بقي شبلي على قيد الحياة ،
لكان الآن في عمرك تقريباً .
وصمتت ثانية ، ثم قالت بصوت
تبلله الدموع : فتك به أسد شرس ، وافترسه .
لذت بالصمت ، ولاحت لي عينا أبي
الغاضبتين ، يبدو أن الأسود كلها متشابهة ، وتراجعت اللبؤة ، وهي تقول : إنني في
الجوار ، قريبة منك ، يا بنيّ ، نادني إذا احتجت إلى شيء .
لم أناديها ، ولو أني كنت بحاجة
إليها فعلاً ، فقد شعرت معها ، وكأن أمي إلى جانبي ، وتمددت ثانية ، وأغمضت عينيّ
، وسرعان ما رأيتني ألهو مع أختيّ المدللتين ، وأمي تنظر إلينا فرحة .
" 6 "
ــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، استأنفتُ طريقي ، لعلي
أصل مغيب الشمس في حدود هذا اليوم ، لكني
كلما سعيت للوصول إليه ، في حدود هذا اليوم ، لكني كلما سعيت للوصول إلى مغيب
الشمس ، ابتعد عني ، حتى بدا لي أن
الوصول إلى المغيب أمر مستحي .
وعند حوالي منتصف النهار ، رأيت غزالة يتقافز
صغيرها لاهياً ، بعيداً عنها ، ورحتُ أراقب ما حولي ، وقد بدأت بطني الفارغة تقرقر
، إنني جائع ، وهذا صيد لذيذ ، ووثبت راكضاً بسرعة صوب الخشف ، وما إن رآني حتى
انطلق نحو أمه ، وهو يصيح : ماما .
وأسرعت أمه إليه ، واحتضنته ،
وهي تصيح مستنجدة : بنيّ ..بنيّ .
وعلى حين غرة ، شعرت برأس صلب ،
قويّ ، مسلح بشبكة من القرون ، ينطحني بقوة ، ويطرحني على الأرض .
ونهضت بسرعة ، وإذا ذكر غزال
ضخم ، يسدد قرونه المتشعبة القاتلة نحوي ، وهو يقف بيني وبين الغزالة وخشفها
الصغير .
وعلى الفور تراجعت بسرعة ،
وعيناي الغائمتان متعلقتان بالغزال الذكر وقرونه القاتلة ، هذا هو الأب وإلا فلا ،
واستدرتُ بحذر ، ثم مضيت مبتعداً .
وقبيل المساء ، انقضضتُ على أرنب
عجوز ، كان يقضم جزرة في طرف أحد الحقول ، فافترسته وأسكت به جوعي ، ثم أويت إلى
شجرة قريبة ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق .
" 7 "
ـــــــــــــــــــ
أخيراً ، وبعد مسيرة عدة أيام ، انتهيتُ إلى
أرض فسيحة ، معشبة ، بعضها مغمور بالمياه الضحلة الرقراقة ، تتقافز فيها الأرانب ،
وترعى الغزلان ، وتسبح في مسطحاتها المائية مجموعات من البط والإوز والطيور الأخرى
.
وتقدمت وسط الأعشاب المتطاولة
الندية ، وخضت في المياه الضحلة الرقراقة ، وما إن شعرت الأرانب بوجودي ، حتى
تقافزت خائفة ، واختفت بين الأعشاب ، وتوقفت الغزلان عن تناول الأعشاب ، ورفعت
بعضها رؤوسها ، وراحت تنظر إليّ ، وسرعان ما اندفعت نحو المسطحات المائية ، ولاذت
بالفرار .
أما البط والإوز والطيور الأخرى
، فقد سبحت بسرعة مبتعدة عن الخطر ، وفتح
البعض منها أجنحته ، وانطلق محلقاً في السماء ، ثم حط مطمئناً بعيداً عني .
وخرجتُ من الأرض المغمورة
بالمياه ، ووقفت في بقعة مرتفعة بعض الشيء ، ونفضت المياه عن جسدي ، وانتبهت إلى
الغزلان ، في الأرض المقابلة للأرض المغمورة بالمياه ، تنطلق هاربة ، ما الأمر ؟
ولمحت لبؤة فتية تمرق بين الأعشاب كالريح ، تطارد أحد الغزلان ، لكنها سرعان ما
توقفت لاهثة ، وعيناها مازالتا تطاردان الغزال الهارب ، الذي واصل هربه ، حتى
التحق بالقطيع .
واتجهتُ نحو اللبؤة ، لعلي
أتعرف إليها ، لكنها ما إن رأتني ، حتى استدارت ، ومضت مبتعدة ، حتى غابت عني بين
الأعشاب المتطاولة ، وتوقفت منصتاً بحذر ، فقد تناهت إليّ أصوات نخير غاضب منزعج ،
إنها مجموعة من الخنازير البرية ، ترعى في الجوار ، فاستدرتُ مبتعداً ، وتراءت لي
أمي تقول لي : بنيّ ، لا تحاول وأنت في هذا العمر ، أن تقترب من أي خنزير ، مهما
كان عمره .
" 8 "
ــــــــــــــــــ
تناهى إليّ ، وأنا أغالب النعاس ، تحت الشجرة
، التي آوي إليها كلّ يوم ، أصوات متداخلة ، ميزت بينها أصوات خنزير غاضب هائج ،
مختلط بأصوات لبؤة متوجعة ، تبدو مغلوبة على أمرها .
وخشيت أن تكون هذه اللبؤة ، هي
اللبؤة التي صادفتها مراراً ، وكانت تتجنبني دائماً ، وتسارع بالابتعاد عني ، كلما
حاولت الاقتراب منها ، فنهضت من مكاني على عجل ، ومضيت صوب مصدر الصوت .
وتأكد لي ما خشيته ، فقد رأيت
ذكر خنزير ضخم ، هائج ، غاضب ، ينهال ضرباً على اللبؤة برأسه الضخم الشائه ،
ويطرحها على الأرض ، ويوسعها نطحاً وعضاً بأسنانه البارزة الحادة وكأنها الخناجر
.
وتراجع الخنزير الضخم قليلاً ،
ثم انقض على اللبؤة ثانية ، يريد الفتك
بها ، وقد أثخنها بالجراح ، وعلى الفور ، أسرعت وقطعت عليه الطريق ، ولطمته على
وجهه ، وأنشبت فيه أنيابي ومخالبي ، فتراجع والدماء تنزف منه ، ثم استدار ، ولاذ
بالفرار .
وحاولت اللبؤة جهدها أن تعتدل ،
وتقف على قوائمها ، وهي تئن وتتوجع ، دون جدوى ، ومن الواضح أن الخنزير الضخم ، قد
أثخنها بالجراح ، ولو لم أهب لنجدتها ، لربما كان قد فتك بها ، وأرداها قتيلة .
ومددت يديّ لأساعدها على النهوض
، لكنها تراجعت عني ، وهي تقول بصوت واهن : لا ، دعني ، مازلت أقوى على النهوض .
وثانية حاولت النهوض ، وثانية
لم تستطع ، فأطرقت رأسها لاهثة ، ونظرتُ إليها مليّاً ، ثم قلت : في اليومين
الماضيين ، صادفتكِ أكثر من مرة ، لكنك دائماً كنت تتجنبينني ، وتبتعدين عني .
لم ترفع عينيها إليّ ، وصمتت
قليلاً ، ثم قالت : إنني أكره الأسود .
وقلت كأنما أحدث نفسي : أبي لم
يحبني ، لأني أسد .
ورفعت عينيها إليّ هذه المرة ،
وقالت : في العام الماضي ، كان لي شبل ، كأنه القمر ، وذات يوم مرّ أسد غريب بهذا
المكان ، وقد ملتُ إليه ، لكنه في إحدى الليالي ، تسلل إلى المكان ، الذي أخفيت فيه
شبلي ، وفتك به دون رحمة .
لذت بالصمت ، فتحاملت اللبؤة
على نفسها ، ثم مضت مبتعدة ، وهي تئن وتتوجع ، حتى غابت بين الحشائش المتطاولة ،
ولبثتُ فترة في مكاني ، ثم مضيت إلى الشجرة ، التي اتخذتها مأوى لي .
" 9 "
ــــــــــــــــــ
بيني وبين نفسي ، قررتُ أن لا أقترب من تلك
اللبؤة ثانية ، فأنا أراها مخطئة تماماً ، فليس كلّ الأسود سواء ، وكذلك اللبؤات
لسنا جميعاً سواء ، فأمي الحبيبة نفسها لبؤة ، وأي لبؤة ، أم بكل معنى الكلمة .
لكني شيئاً فشيئاً ، تراجعتُ عن
قراري ، وبعد يومين لا أكثر ، رحت أحوم في المنطقة ، التي طالما رأيتها تتردد
عليها ، لتقنص ما تسكتْ به جوعها ، إلا أني لم أرها في أي مكان من تلك الأماكن .
وفكرتُ أن الجروح البليغة ،
التي أصابها بها الخنزير الضخم الشرس ، ربما منعتها من مغادرة مأواها ، وهذا يعني
أنها لم تصطد شيئاً تسكتْ به جوعها ، هذا إذا كانت قد استطاعت الخروج إلى الصيد .
وتسللتُ قبيل غروب الشمس ، إلى
مأوى اللبؤة الفتية ، وتوقفت على البعد
منها ، وراحت عيناي تمسحان المكان ، فلمحت اللبؤة متمددة تحت شجرة ضخمة ، وتناهى
إليّ ، أو هذا ما تراءى لي ، صوتها وهي تئن وتتوجع ، نعم إن جراحها بليغة ، وهذا
يعني أنها لم تخرج إلى الصيد فعلاً ، وأنها بالتالي تتضور جوعاً ، وبحاجة إلى ما
تسكت به جوعها .
واستدرتُ مبتعداً عنها ، دون أن
تحس بوجودي ، وعند غروب الشمس ، اصطدت خشفاً ، وبالأحرى اختطفته وهو يرضع من أثداء
أمه ، وأخذته تحت جنح الظلام ، وزحفت به نحو الشجرة الضخمة ، التي كانت اللبؤة
الفتية تتمدد على مقربة منها .
وتوقفتُ على مسافة قريبة ،
وحدقت فيها على بقايا أضواء الغروب المتلاشية ، وبدا لي أنها مستغرقة في نوم عميق
، فاقتربت منها بهدوء ، ووضعت الخشف إلى جانبها ، ثم تراجعت بهدوء أيضاً ، وقفلت
عائداً إلى مأواي ، تحت الشجرة .
" 10 "
ــــــــــــــــــــ
أويتُ اليوم إلى شجرتي مبكراً ، وتمددت في
مكاني ، وأغمضتُ عينيّ ، لم أكن أريد أن أنام ، رغم أنني كنت متعباً ، وتراءتْ لي
أمي وأختاي المدللتان ، كما تراءت لي اللبؤة الفتية ، وتمنيت أن تكون قد انتبهت إلى
الخشف ، وأسكتتْ به جوعها .
وبزغ القمر في داخلي ، وأضاء
أعماقي بضوئه الدافىء ، آه من هذا القمر ، وفتحتُ عينيّ ، ها هو القمر يضيء من
الأفق ، ويزحف شيئاً فشيئاً بضوئه الشاحب البارد في قبة السماء المعتمة ، لا أدري
لماذا يذكرني هذا القمر بوجه اللبؤة الفتية ، ترى ماذا تفعل الآن ؟
وأغمضت عينيّ ثانية ، فلأبعد
القمر واللبؤة الفتية ، لعلي أنام ، وأرتاح بعض الوقت ، فعليّ غداً أن أصطاد
غزالاً أو حماراً وحشياً ، أو أي شيء ، فأنا لم أتناول لقمة واحدة ، منذ يومين وربما أكثر .
لم أغفُ ، بل استيقظتْ حواسي
كلها ، لكني لم أتحرك ، فقد تناهى إليّ وقع أقدام خفيفة ، تقترب مني بهدوء شديد ،
أهي أمي ؟ أم إحدى أختيّ المدللتين ؟ أم
.. ؟ مهما يكن فهذه ربما خيالات ما قبل النوم ، ومن الأفضل أن لا ألتفت إليها ،
وأستغرق في النوم .
وعلى حين غرة ، بزغ القمر
مضيئاً في أعماقي المظلمة ، ولفحتني أمواج رقيقة من الدفء ، أللخيالات أنفاس ؟
وحتى لو كان لها أنفاس ، فإن أنفاسها ليست دافئة كلّ هذا الدفء ، والتفت نحو مصدر
الأنفاس الدافئة ، وفتحت عينيّ ، وإذا قلبي يخفق بشدة ، إنها هي ، القمر .. اللبؤة
الفتية .
وتطلعت اللبؤة إليّ ، وقالت :
أشكركَ .
لم أجبها ، فتابعتْ قائلة :
كنتُ بأمس الحاجة إلى ذلك الخشف ، الذي جلبته لي .
وصمتتْ لحظة ، ثم نظرت إليّ ،
وقالت : الجو بارد ، إنني أرتجف .
فقلتُ لها : اقتربي مني ،
وستدفئين .
واقتربت اللبؤة الفتية ، اقتربت
مني ، اقتربت ..
وفي ليلة كهذا ، بعد حوالي عام
، والقمر نفسه يطل علينا من أعالي السماء ، كنّا متمددين جنباً إلى جنب ، أنا
ولبؤتي ، دون أن يتفوه أيّ منّا بكلمة واحدة ، وعلى مقربة منا ، كان ثلاثة أشبال
يغطون في نوم عميق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق