لقاء مع .. ليث
بقلم : طلال حسن
سمعتُ حركة داخل الغرفة ، التي أقرأ وأكتب فيها ،
وانتبهتُ إلى أنني لم أسمع الباب يُفتح ، نحن في ساعة متأخرة من الليل ، تُرى من
يكون ؟
ورفعتُ رأسي إلى
الباب ، وعبر نظارتي الطبية السميكة رأيتُه مغلقاً ، يبدو أنني متعب ، وبدأتُ
أتوهم أشياء وأشياء ، وقاطع أفكاري المضطربة ، صوت طفل يقول لي : مساء الخير .
وعلى الفور أدرتُ
نظري إلى مصدر الصوت ، ورأيت ـ ويا للعجب ـ طفلاً في حدود الخامسة من العمر ، ذا
هيئة غريبة ، يقف في منتصف الغرفة ، ويحدق فيّ بعينيه الطفلتين الجميلتين .
داخلني شعور بأني
أعرف هذا الطفل ، الذي لا أدري من أين جاء ، ولا كيف دخل غرفتي ، وبدا لي أنني
رأيته من قبل ، لكن أين ؟ ومتى ؟ هذا ما لا أعرفه ، وتمنيتُ لو أعرفه .
رفعتُ النظارة الطبية
السميكة عن عينيّ ، ووضعتُ القلم جانباً ، وتساءلتُ : من أنت ؟
وبدل أن يردّ عليّ ،
قال : ألا تتذكرني ؟
وتساءلتُ ثانية ،
وأنا أدقق النظر فيه : هل أعرفك ؟
أجاب : طبعاً .
وحدقتُ فيه صامتاً ،
فقال : أنا ليث .
وتساءلتُ ، لكن
التساؤل لم يكن موجهاً للطفل بقدر ما كان موجاً لي أنا بالذات : ليث !
وفتح كفه ، ولاحت فيه
علبة ثقاب ، لا أدري من أين أتى بها ، أهو ساحر ؟ ورفعها أمام عينيّ ، كأنه يلوّح
إلى أمر ما ، وهو يحدق فيّ .
لم أفهم ما يرمي إليه
، يبدو أن عقلي قد " ثخن " ، وأخرج عود ثقاب من العلبة ، وحكه بجانب
العلبة ، فاشتعل ، وارتفع اللهب منه ، فصحتُ به : أطفىء عود الكبريت وإلا أحرقت ..
فقال مبتسماً : ليس
هنا كومة قش .
وصمت الطفل ، دون أن
يطفىء عود الثقاب ، فصحتُ : ليث ..
قال الطفل : نعم ،
بطل قصتك .. ليث وملك الريح .
فقلتُ له : آه كم هي
جميلة تلك القصة .
وأطفأ الطفل عود
الثقاب المشتعل ، وقال : آه لقد عرفتني أخيراً .
ونهضتُ من مكاني ،
واقتربت من الطفل ، وعيناي لا تفارقانه ، ثم قلت : أنتَ لم تكبر ، يا ليث ، لقد
مرت أكثر من خمس وثلاثين سنة ، منذ أن نشرتُ تلك القصة ، التي رسمها الفنان الكبير
طالب مكي .
وألقى الطفل عود
الثقاب المشتعل في المنفضة ، ورفع عينيه الجميلتين إليّ ، وقال : لا تنسَ ، إنني
بطل قصة خيالية ، وأبطال القصص لا يكبرون ، إن علاء الدين ، بطل قصة علاء الدين
والمصباح السحري ، الموجودة في كتاب ألف ليلة وليلة ، مازال طفلاً .
قفلتُ راجعاً إلى
مكاني ، وجلست وراء منضدة الكتابة ، وأعدت النظارة فوق عينيّ ، وقلتُ : أنت محق ،
يا ليث ، إن أبطال القصص لا يكبرون ، فمن يكبر ويشيخ هو كاتب تلك القصص وحده ، و
..
وسكتّ ، فقد شعرتُ أن
شيئاً ما قد تغير في الغرفة ، نعم ، لقد دفع الباب بغير رفق ، وأطلت زوجتي ،
والنعاس يغشى عينيها ، وقالت : هيا ، لقد انتصف الليل ، وأنت تكتب ، لا تنسَ نصيحة
الطبيب ، قال لك ، لا تتعب نفسك ، لا تسهر ، لا ..
رفعت نظارتي الطبية
السميكة عن عينيّ ، ونهضتُ من مكاني ، وقاطعتها قائلاً : لا تطيلي ، ها أنا قادم .
ومررتُ بها ، متجهاً
نحو الباب ، فقالتْ : سمعتُ صوتك ، مع من كنت تتحدث ؟
أجبتها دون أن أتوقف
: كنتُ أتحدث م ليث .
وهتفت مذهولة ، وقد
تحولت إلى علامة استفهام وتعجب : ليث ! لم يكن أحد معك في الغرفة .
وواصلت طريقي إلى
غرفة النوم ، دون أن ألتفت إليها ، من الواضح أنها تظن أنني أهلوس ، إن لم أكن قد
جُننتُ تماماً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق