الصرصار
بقلم : طلال حسن
أفقتُ من النوم متأخراً ، وقد
ذهب الجميع ، بابا ذهب إلى الدائرة ، وسهام ذهبت إلى المدرسة ، ولؤي ذهب إلى
الروضة ، ولم يبقَ في البيت سوى .. أنا وماما .
وكأن " ماما " هذه ذكرتني بأني جائع ، فصحتُ بأعلى صوتي : ماما .
ولعل أمي عرفت معنى صيحتي ، فردت عليّ من المطبخ : حمودي ، تعال ، أنا هنا
في المطبخ .
وأسرعتُ إلى المطبخ ، وصحتُ : أريد بيضة .
وابتسمت ماما ، وقالت : لا تصح هكذا ، أجلس .
وجلستُ إلى المائدة ، فوضعت ماما أمامي بيضة مقلية ، وقالت : هذه .. البيضة
.
ثم جاءتني بكوب من الحليب ، وأضافت قائلة : وهذا حليب ، اشرب ، حتى تصير
مثل طرزان .
وأخذتُ قطعة من البيضة المقلية ، ودسستها في فمي ، وقلتُ : ماما ، احكي لي
حكاية .
وانصرفت ماما إلى عملها ، وقالت : كل الآن ، الحكاية لا تُحكى إلا في الليل
.
لم أقتنع بما قالته ماما ، فما الفرق بين الليل والنهار ؟ ودسستُ قطعة أخرى
من البيضة المقلية في فمي ، وقلتُ : احكي لي حكاية .. النملة والصرصار .
وردت ماما ، دون أن تلتفت إليّ : حكيتها لك مائة مرة ، يا حمودي ، ومع هذا
سأحكيها لك ، لكن ليس الآن ، بل في الليل .
ودفعتُ الطبق ، طبعاً بعد أن أنهيتُ البيضة ، ونهضتُ قائلاً : لن أشرب
الحليب .
ونظرت ماما إليّ ، لكني مضيتُ قدماً ، وخرجتُ إلى الحديقة ، آه الجو بارد
هنا ، رغم وجود الشمس ، وقفلتُ عائداً إلى المطبخ ، ووقفتُ محدقاً في ماما ، ثم
قلتُ : إنني أعرف حكاية النملة والصرصار ، سأدخل إلى الغرفة ، وأرويها لنفسي .
وابتعدت ماما بوجهها عني ، دون أن تردّ عليّ ، يبدو أنها تغالب ضحكتها ، آه
إنني أسمعها تضحك بصوت خافت مكتوم ، لابد أنها تظن أنني مازلتُ صغيراً ، كلا ،
فبعد أيام ، سأحتفل بعيد ميلادي الثالث ، فلأمض ِ .
ومضيتُ خارجاً من المطبخ ، لكني بدلاً من أن أدخل الغرفة ، وأروي لنفسي
حكاية .. النملة والصرصار .. ، أخذتُ أدور في أرجاء البيت ، حتى تعبت ، وهممتُ أن
أعود إلى المطبخ ، وإذا بي أراه ، وتوقفت ، وقد اتسعت عيناي ، لستُ واهماً ، إنه
صرصار، نعم صرصار ، صرصار عجوز ، متعب ، لا يكاد يقوى على السير .
وبصوت متردد ناديته : أيها الصرصار .
وجفل الصرصار، وهرب متعثراً باتجاه المطبخ ، فأسرعتُ في أثره قائلاً : توقف
.. توقف .
لم يتوقف الصرصار ، وتخبط حائراً على أرضية المطبخ ، ثم أسرع نحو الطباخ ،
واختفى وراءه ، واقتربتُ من الطباخ ، وخاطبتُ الصرصار المختفي وراءه قائلاً : أيها
الصرصار ، أخرج ، إنني حمودي ، سأساعدك ، فأنا لستُ قاسياً مثل النملة ، أنت جائع
، أخرج ، سأقدم لك ما تحتاجه من الطعام ، أخرج لا تخف ، اخرج ، أخرج .
وانتظرتُ ، انتظرتُ طويلاً ، لكن الصرصار لم يخرج ، هذا الأحمق ، سيموت
جوعاً ، ماذا يظنني ؟ ديناصوراً ؟
وأسرعتُ إلى ماما صائحاً : ماما .. ماما .
وردت ماما ، دون أن تلتفت إليّ : خيراً .
وصحتُ مستنجداً : الصرصار .
وعندئذ التفتت ماما إليّ ، وقالت متسائلة : صرصار ؟
وتابعتُ قائلاً : سيموت من الجوع إذا لم نساعده .
وتساءلت ماما ، كأنها لم تسمعني : أين هو ؟ أين الصرصار ؟
لم أرتح للهجة ماما ، وخفتُ على الصرصار ، فقلتُ متردداً : أعطني قطعة خبز
، وسأقدمها أنا للصرصار .
وردت ماما غاضبة : ماذا ! تقدم قطعة خبز للصرصار؟ هذا جنون .. جنون .
صدمتني كلمات ماما ، فلذتُ بالصمت ، يا لغرابة هؤلاء الكبار ، إن ماما تدمع
عيناها ، ويتهدج صوتها ، حين تتحدث عن معاناة الصرصار ، في تلك الليلة الشتائية ،
التي لجأ فيها إلى النملة ، ورفضت مساعدته ، وها هو صرصار يلجأ إلينا ، فترفض ماما
مساعدته .
وبلهجة حازمة ، خاطبتني ماما : دلني عليه ، إنه حشرة ضارة ، وعلينا أن
نتخلص منه .
وجلستُ إلى المائدة ، وأخذتُ كوب الحليب ، وقلتُ : لا أدري أين هو ، دعيك
منه ، لابد أنه هرب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق