اليمامة البيضاء والجرافة
طلال حسن
لم يشفع لها اسمها
لم
تشفع لها جنسيتها
وحتى
زيها البرتقالي ، لم يشفع لها .
اسمها
راشيل ، هذا الاسم أعطته لها جدتها ، ثم رحلت ،
وفي قلبها بغداد .
هاجرت
الجدة من العراق ، بل ـ كما تقول أمها ـ أجبرت على الهجرة ، وبدل أن تذهب إلى
إسرائيل ، جاءت إلى امريكا ، حاملة معها العراق ، وظل العراق معها حتى رحلت .
ويبدو
أن في راشيل ـ كما تقول أمها ـ شيء من جدتها الراحلة ، فهي تثور وتغضب للحق ،
وتدافع عنه ، مهما كان الثمن .
وهذا
ما كانت أمها تحاول التخفيف منه ، كلما قرأت مقالة في جريدة أو مجلة ، عما يعانيه
الفلسطينيون ، أو حين ترى على شاشات التلفاز ما يجري على الأرض الفلسطينية ، من
هدم للمنازل ، وقلع للأشجار ، وطرد الأسر من بيوتها ، لكي تبني إسرائيل المزيد من
المستوطنات .
وفقدت
راشيل السيطرة على أعصابها مرة بحضور أمها فصاحت : ماما ، كيف نسمح للعالم أن يكون
بتلك البشاعة ؟
وعلقت
أمها قائلة : من يسمعك ، يا راشيل ، يظن أنك تدافعين عن الفلسطينيين .
فقالت
راشيل منفعلة : نعم ، أنا أدافع عنهم .
وقال
الأم : لكنك يهودية .
فغادرت
راشي الغرفة ، وهي تقول : أنا إنسانة .
وطالما
تمنت راشيل ، أن تزور الفلسطينيين ، في قراهم ومخيماتهم ، وتقول لهم ، أنا راشيل ،
يهودية من أمريكا ، لكني معكم ، وسأبقى معكم ، ما دمتم على حق .
وجاءت
الفرصة ، عندما تم اختيارها لتكون عضواً
في وفد " التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني " الذي سيزور رفح
الفلسطينية .
وجاءت
راشيل إلى رفح ، وتجولت في الشوارع والأزقة ، وعاشت في بيوت الفلسطينيين البسطاء ،
وتقاسمت معهم الخبز والماء ، وصحبت الأطفال ، بنين وبنات ، وصورتهم وهم يرجمون
بالحجارة جند الاحتلال ، فكتبت إلى أمها :
"
لا أدري كم من الأطفال هنا عاشوا في بيوت لا تمزق جدرانها شظايا القنابل ، ومن غير
أبراج مراقبة على مرمى البصر ، يراقبهم من خلالها جيش احتلال " .
واستمرت
راشيل ، في معايشة الفلسطينيين ، وخاصة الأطفال ، وبدأت أوضاعهم تنعكس على نفسيتها
، فكتبت إلى أمها تقول : " أرى في كوابيسي دبابات وبلدوزرات حول منزلنا ،
وأنا وأنت في الداخل " .
وفي
حديثها مع الأطفال ، همست لها فتاة صغيرة ، وهي تشير إلى صورة طفل في حدود الثامنة
من عمره ، ملصقة على الجدار : علي .
وسألتها
راشيل بكلماتها العربية المضطربة : علي ، إنه طفل صغير جميل ، ما به .
فقالت
الفتاة بصوت حزين : قتلته دبابة إسرائيلية قبل عدة أيام .
وبدا
الانفعال والغضب على راشيل ، وقالت للفتاة الصغيرة : خذيني إلى بيتهم .
وذهبت
راشيل ، مرتدية الزي البرتقالي ، زي وفد التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني ، بصحبة
الفتاة الصغيرة إلى بيت علي ، وعلى مقربة من البيت ، رأت راشيل امرأة شابة ، متشحة
بالسواد والغضب ، وتوقفت الفتاة الصغيرة ، وأشارت إلى المرأة ، وقالت : تلك هي أم
علي .
وتقدمت
راشيل منها ، وقالت بلكنتها الامريكية : مرحباً أم علي .
وحدقت
أم علي فيها ، وقالت بجفاء : انكليزية ؟
أجابت
راشيل : أمريكية ..
وتراجعت
أم علي خطوة ، فأضافت راشيل قائلة : يهودية .
وفوجئت
راشيل بأم علي تصيح بها : أنتم قتلتم .. ابني الصغير .. علي .
وقالت
راشيل ، وكأنها تفسر موقفا : أنا عضو في وفد
التضامن مع الشعب الفلسطيني .
وتوقفت
أم علي ، وقد جحظت عيناها ، وتمتمت بغضب وانفعال : الجرافة .
والتفتت
راشيل ، وإذا جرافة ضخمة تقبل نحوهم ، كأنها وحش كاسر ، وأسرعت راشيل ، منفعلة
غاضبة ، تعترض الجرافة ، وصاحت أم علي ، وكأنها تحذرها : راشيل .
وحملق
سائق الجرافة فيها ، دون أن يتوقف ، وصاح : أيتها الحمقاء ، ابتعدي .
لكن
راشيل لم تبتعد ، فالسائق يعرف أنها يهودية ، أمريكية ، وزيها البرتقالي يقول ،
إنها عضو في وفد التضامن مع الشعب الفلسطيني ، لم يلتفت السائق إلى كلّ هذا ،
وداست الجرافة فوقها ، فصاحت راشيل : إن عظامي تتكسر .
وقبل
أن تنهي راشيل كلامها ، رجع السائق بالجرافة قليلاً ، ثم داسها مرة أخرى .
لم
يشفع لها اسمها
لم
تشفع لها جنسيتها .
وحتى
زيها البرتقالي ، لم يشفع لها .
فسحقتها
تماماً جرافة صهيونية ، على أرض رفح الفلسطينية .
تنويه :
راشيل
كوري
شاعرة
ورسامة يهودية أمريكية ، قتلتها جرافة صهيونية في رفح الفلسطينية ، عام "
2003 " ، وماتت عن عمر يناهز الثالثة والعشرين ، سماها الشاعر الفلسطيني
هارون هاشم رشيد .. اليمامة البيضاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق