شبلي
الجريح
طلال حسن
أفقتُ على صغيري الشبل ، يلعق وجهي ، بلسانه
الصغير الدافىء ، كأنه يريد أن يوقظني من النوم ، كما يفعل صباح كلّ يوم .
فتحتُ عينيّ
الناعستين ، ورأيته ، رأيتُ أسدي ، والد شبلي ، يحدق فيّ بعينيه القويتين
اللامعتين ، فضممت صغيري إلى صدري ، فها هو أبوه يعود إليّ ، ويحيا إلى جاني كما
في الماضي ، وكأن رصاصات الصيادين ، لم تصبه في قلبه المحب ، وتدميه .
وعلى عادتي
كلّ صباح ، رحتُ ألعق وجهه ، وأمرر لساني الرطب على قسماته الجميلة ، ها هو يكبر
يوماً بعد يوم ، وسرعان ما سأراه إلى جانبي ، أسداً فتياً ، قوياً ، شجاعاً ،
تماماً كما كان أبوه ، قبل أن يرديه الصيادون برصاصهم الغادر .
ووثب شبلي ،
واندس بين أثدائي ، وهو يصيح : ماما ، جائع .
وضحكتُ ، فهو
يصيح " ماما ، جائع " ، حتى وهو يرشف الحليب من أثدائي ، وأمسك أحد
الأثداء بأسنانه الصغيرة الحادة ، وراح يعضعضه ، ويرشف الحليب منه ، وهو يهمهم
" جائع .. جائع .
وتناهى من
بين الأشجار ، وقع أقدام ثقيلة ، ورفعت رأسي ، ورحت أنصت ، ها هو فطوري يأتي إليّ
بأقدامه ، ويبدو أنه فطور ضخم ودسم .
ونهضتُ بهدوء
، وحذر ، فصاح شبلي ، وقد أفلت ثديي من بين شفتيه : ماما .
همستُ له :
هُش .
لكنه لم
" يهش " ، بل صاح : لم أشبع بعد .
فأجبته بصوت
خافت ، وأنا أتجه بحذر نحو مصدر الصوت : لكي تشبع ، يا شبلي ، لابد أن أفطر .
وبين الأشجار
الكثيفة ، رأيتُ فطوري ، إنه حقاً ضخم ، ضخم جداً ، ولابد أنه دسم للغاية ، نعم ،
كان فطوري ثوراً ضخماً ، وكان منهمكاً في تناول الأعشاب الندية ، التي كانت تنمو بين
الأشجار .
ويبدو أنه
أحس بوجودي ، فرفع رأسه ، محدقاً فيّ ، وقبل أن يبدر منه أيّ شيء ، اندفعتُ نحوه ،
وأطبقت على أسفل عنقه بأسناني الحادة ، وحاولت بكل قوتي أن أطرحه أرضاً ، وأصرعه ،
لكنه انتفض ، هازاً رأسه الضخم بقوة ، واستطاع بذلك أن يفلت مني ، ويلقيني بقوة
على الأرض .
وبدل أن يلوذ
الثور بالفرار ، بعد أن أفلت مني ، اندفع نحوي هائجاً ، مشرعاً قرنيه الضخمين
القاتلين ، فنهضتُ متحاملة على نفسي ، وتراجعتُ بأقصى سرعة ، وفوجئت بصغيري الشبل
، يهرول نحوي ، وهو يصيح : ماما .. ماما .
وتجنبتُ
الثور الهائج ، المجنون ، لكني لم أستطع أن أجنب صغيري الشبل ، وأبعده عن الخطر
الداهم ، ورأيت الثور ، ربما من غير عمد ،
يدوس صغيري بحوافره الثقيلة القاتلة .
ومضى الثور
مندفعاً هائجاً ، حتى اختفى ، وأسرعتُ إلى شبلي ، وقلبي يخفق رعباً ، لم يمت شبلي
، ورفع عينيه المتألمتين المستغيثتين إليّ ، وقد اختفت منهما تلك اللمعة القوية ،
لكنه لم يستطع أن يرفع جسمه ، لقد داسه الثور ، وحطم أطرافه الخلفية تماماً .
جلستُ إلى
جانبه ، ورحت ألعق وجهه المعفر بالترب والدماء ، بلساني الرطب ، وتفطر قلبي ، وأنا
أرى أطرافه الخلفية مسحوقة ومدماة .
نظر إليّ
بعينين منكسرتين منطفئتين ، وتمتم : ماما .
وسكت ، لم
يضف كعادته .. جائع ، وتناهى إليّ من بعيد ، وقع أقدام متسارعة ، إنهم الضباع ،
ورفعتُ رأسي ، وعيناي تشتعلان غضباً ، نعم ، إنهم الضباع ، شموا رائحة الدم ،
فجاءوا إلى فريستهم .
وراحوا
يدورون حولنا ، أنا وصغيري ، وكلما اقترب واحد منهم ، وحاول أن ينهش الشبل ،
انقضضتُ عليه ، فيتراجع بسرعة ، وما إن يبتعد حتى يقترب آخر ، وقد كشر عن أنيابه ،
ولعابه يسيل ، ولاحقتهم وقد جننتُ غضباً ، وضربت أكثر من واحد منهم ، فاضطروا إلى
التراجع ، والابتعاد إلى ما خلف التل .
ومن بين
الأشجار ، ارتفع ثانية وقع أقدام ثقيلة ، فنهضت ودمي يغلي غضباً ، أهو الثور نفسه
، أم ثور آخر ؟ من يدري ، ومشيت بخطوات سريعة ، وأنا أتمنى أن يكون الثور نفسه ،
ورأيته ، يقف بين الأشجار ، كأنه ينتظرني ، نعم ، إنه هو نفسه ، وآثار أسناني
الحادة واضحة في عنقه ، واندفعت نحوه ، لم يهرب ، ولم أتردد ، جرّحني بقرنيه ،
ورماني أرضاً مرات ، لكني في النهاية استطعتُ أن ألقيه على الأرض ، وأصرعه .
مضيت إلى
شبلي ، في شيء من الفرح ، وكأني يمكن أن أراه يقبل راكضاً نحوي ، كما كان يفعل
دائماً ، وهو يصيح : ماما .. جائع .
لم أجد شبلي
في مكانه ، ورفعت عينيّ الغارقتين بالحزن والدموع ، ورأيت الضباع تقف فوق التل ،
تنظر إليّ من بعيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق