البطريق الفتيّ
بقلم : طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــ
هدأت العاصفة أخيراً ، بعد أن ظلت تعوي لفترة طويلة ، مذرية الثلوج فوقنا ،
نحن البطارق الفتية ، وكذلك البطارق الكبيرة .
وتطلعت ، عبر البطارق المتلاصقة ، إلى أمي ، التي أبعدتني عنها منذ مدة ،
كما أبعدت الأمهات جميع صغارهن .وكم عانينا في البداية ، من هذا الإبعاد ، فقد
فقدنا الدفء والشعور بالأمان، كما فقدنا تقريباً ، ما كنّ يقدمنه لنا من الطعام .
وغدا حلماً ، وأي حلم ، أن أجلس متكوماً فوق قدمي أمي ، وأغفو متدثراً
بريشها الناعم الدافىء . وكم كان يفرحني ، أن أطلّ برأسي ، فتفتح أمي منقارها على
سعته ، فأمدّ منقاري في داخله ، وأتناول منه طعاماً مهروساً دافئاً .
وتصايح بعض البطارق ، وهم يتململون وينوسون متحاشكين . وسرعان ما تحرك من
بينهم عدة بطارق ، وراحوا يسيرون الواحد بعد الآخر ، متجهين إلى جهة لا أعرفها .
وتلفت متسائلاً : ترى إلى أين يذهبون ؟
ولم يجبني أحد من البطارق الفتية ، وقصدت بطريقين ، يقفان وحدهما ،
وسألتهما : أرجوكما ، إلى أين يذهب أولئك البطارق ؟
وبدل أن يردا عليّ ، قال أحدهما للآخر : لنذهب نحن أيضاً إلى البحر ،
فالأسماك الآن كثيرة .
وردّ البطريق الآخر قائلاً : نعم ، أنا جائع ، فلنذهب ، هيا .
وسارا جنباً إلى جنب ، ينوسان فوق الجليد ، متأثرين البطارق التي سبقتهم
إلى البحر .والتي كانت تسير بانتظام ، الواحد بعد الآخر . وكأن أحدهم دفعني من
مكاني ، فتقدمت خطوات ، ثم وجدتني أسير على مسافة من البطريقين الكبيرين ، دون أن
ألتفت إلى رفاقي من البطارق الفتية .
" 2 "
ـــــــــــــ
سرت مسافة طويلة ، أنوس على
الجليد وراء البطريقين ، اللذين لم ينبس أحدهما بكلمة واحدة .وبدا الجليد في بعض
المناطق هشاً وزلقاً ، حتى إنني زلقت عدة مرات ، وسقطت على الثلج .
وتطلعت مراراً إلى البطارق ، التي سبقتنا بالسير ، وكانت تتابع سيرها ،
الواحد بعد الآخر ، في صفّ طويل منتظم .
وتوقفت البطارق ، التي في المقدمة ، وعلى إثرها توقفت البطارق الأخرى ،
وسرعان ما تحركوا ، وراحوا يختفون بطريقاً إثر بطريق ، يا للعجب ، ترى أين يختفون
بهذه السرعة الكبيرة ؟
وتقدمت من البطريقين ، اللذين وقفا هما أيضاً ، وقبل أن أسألهما عن السرّ ،
قال أحدهما للآخر : لنسرع ، هناك فتحة في الجليد ، ولابد أن أولئك البطارق قد نزلوا عبرها إلى البحر .
وردّ الآخر ، وهو يتأهب للسير : هيّا ، سنشبع ، فالبحر زاخر بالأسماك .
إنه البحر إذن .. والأسماك .. و .. وأسرع البطريقان في سيرهما ، فأسرعت
وراءهما ، متعثراً بالثلوج الهشة الزلقة. ولاحت فتحة في الجليد ، يترجرج فيها
الماء ، فقفز البطريقان عبرها ، وغاصا إلى الأعماق . وتوقفت متردداً ، ثمّ وبشكل
أخرق ارتميت في الماء ، عبر الفتحة ، ورحت أجذف بقدميّ وجناحيّ الصغيرين ، وبعكس
ما كنته على الجليد ، انطلقت بخفة ورشاقة إلى الأعماق .
ومن بعيد ، رأيت البطريقين يطاردان الأسماك الصغيرة ، ويلتهمان ما يصطادانه
منها . وأفلتت منهما سمكة صغيرة ، هربت باتجاهي ، دون أن تراني ، فأسرعت إليها
والتهمتها . ويبدو أن هذا حفزني على الصيد ، فرحت أطارد الأسماك الصغيرة بدوري ،
وألتهم منها ما أصل إليه .
وجمدتني فجأة صرخة ثافبة ، رجّت مياه البحر رجة عنيفة . والتفت نحو مصدر
الصرخة ، وإذا وحش ، عرفت فيما بعد أنه الفقمة ، يندفع في سرعة خارقة صوب
البطريقين .
وصعق البطريقان ، وهمّا بالهرب ، لكن الفقمة انقضت عليهما، وقد فتحت فمها
على سعته ، وأطبقت على أحدهما ، ولاذ الآخر بالفرار . وقبل أن يصلني البطريق الهارب
، انطلقت بأقصى سرعة نحو الفتحة ، ووثبت عبرها نحو الخارج ، ورحت أبتعد ، مجذفاً
على الجليد ، بقدميّ وجناحيّ الصغيرين .
والتفت لاهثاً مذعوراً ، ولمحت البطريق الهارب يتعثر مرعوباً، عند حافة
الحفرة ، وأدركته الفقمة ، وأطبقت عليه بفكيها الرهيبين ، وسحبته إلى الأعماق .
" 3 "
ــــــــــــــ
توقفت بعيداً عن الفتحة ،
متلفتاً حولي ، لا شيء غير الجليد والثلاجات والشمس والسماء الزرقاء . ورفعت رأسي
، وصحت بأعلى صوتي ، لعل أحداً يجيبني ، لكن لم يجبني غير الصدى .
يا لحمقي ، لقد أتيت في أعقاب البطريقين ، لأعود في أعقابهما أيضاً ، فلم
أنتبه إلى الطريق ، وهاهما البطريقان ينتهيان بين فكي الفقمة ، فما العمل ؟
وتناهت إليّ ضجة ، فالتفت نحو مصدرها ، وإذا الفقمة تخرج من الفتحة ، وتزحف
ببطء على الجليد . وخفق قلبي رعباً ، وتراءى لي البطريقين ، والفقمة تطبق عليهما
الواحد بعد الآخر، بفكيها القويين المتوحشين . وعلى الفور ، أسرعت راكضاً ،
واختبأت وراء كثيب من الثلج .
ورفعت رأسي بحذر ، متابعاً الفقمة ، التي سارت بعيداً عن الفتحة ، ثم توقفت
متلفتة ، وتمددت على الجليد ، تحت أشعة الشمس . اللعينة ، لقد التهمت عدداً من
البطارق ، حتى أتخمت، وهاهي ترتاح على
الجليد ، لتعاود مطاردتها للبطارق ، بعد قليل ، وتلتهم المزيد منهم .
وهنا رفعت الفقمة رأسها ، ونظرت وراءها مرعوبة ، ثم هبت مسرعة نحو الفتحة .
ونظرت حيث نظرت ، وإذا كائن ضخم ، ذو فراء ناصع البياض ، عرفت فيما بعد أنه الدب
القطبيّ، يركض مسرعاً صوبها . وقبل أن يمسك بها ، ارتمت في الماء عبر الفتحة ،
وغاصت إلى الأعماق .
وضرب الدب حافة الحفرة بيده غاضباً ، ثم استدار ، ومضى يسير متباطئاً ،
يبحث عن فقمة أخرى ، أو بطريق ، يفتك به ، ويفترسه .
" 4 "
ــــــــــــــــ
خرجت من وراء الكثيب ، وسرت حائراً ، ثم توقفت متلفتاً حولي ، لعلي أستدل
على الطريق ، الذي سلكناه في مجيئنا إلى هنا ، لكن دون جدوى . وسرت على الجليد ،
أنوس حذراً ، خشية أن تفاجئني فقمة ، أو ينقض عليّ دبّ .
وتناهى إليّ صوت صياح من الأعلى ، إنه من الكراكر ، هذه الطيور لن أنساها ،
فقد حاول واحد منها اختطافي ، عندما كنت صغيراً . ويبدو أنّ الطائر قد رآني ، فراح
يحوم حولي ، مطلقاً صيحاته الثاقبة البشعة . وسرعان ما هبط بجسمه الضخم ، وجناحيه
الكبيرين ، ومنقاره القاتل ، على مسافة منيّ .
وحدقت فيه ، نعم إنه كركر ، ومن يدري ، لعله الكركر نفسه ، الذي حاول
اختطافي .وتراءى لي كركر ذلك اليوم ، الذي حام حولنا ، نحن البطارق الصغار ، ثم
هبط على مسافة منّا ، رغم وجود البطارق الكبيرة إلى جوارنا.
وابتعدنا عنه بصورة غريزية ، قبل أن نعرف حقيقته ، وما الذي يريده . ومن
بين البطارق الصغيرة ، التي كنت أقف معها ، اتجه نحوي . وحاولت تجنبه ، لكنه مدّ
منقاره الضخم ، وأطبق به عليّ . وانتفضت صارخاً ، وانتزعت نفسي من منقاره ، الذي
لم يبق مني فيه إلا بضعة ريشات . وابتعدت عنه مندساً بين البطارق الكبيرة ، التي
لم تحرك ساكناً ، دفاعاً عني أو عن البطارق الصغيرة الأخرى . وبدل أن يطاردني
الكركر ، انقض على بطريق صغير آخر ، فأطبق عليه بمنقاره القاتل ، وطار به بعيداً .
وأفقت على الكركر يقترب مني ، لكن بحذر هذه المرة . وبدل أن أتراجع أمامه ،
أو أهرب منه ، ثبتّ في مكاني ، فأنا لم أعد بطريقاً صغيراً . وحين مدّ منقاره
ليطبق به عليّ ، انقضضت عليه ، وطعنته بمنقاري في صدره ، وإذا به يصرخ متألماً ،
ويتهاوى على الجليد . وشجعني هذا ، فتقدمت منه ، لكنه نهض مذعوراً ، وفتح جناحيه
الضخمين ، وولى هارباً .
" 5 "
ــــــــــــ
تملكني الفرح ، حين رأيت عن بعد ، عدداً من البطارق ، تقبل من جهة فتحة
الجليد ، إنني إذن على الطريق الصحيح ، ولم أته .
وتباطأت في سيري ، حتى أدركتني أولى البطارق ، ورغم أنّ أحداً منهم ، لم
يتوجه بالحديث إليً ، أو يبدي أيّ اهتمام بي ، إلا أنني أحسست بدفء انتمائي إليهم
، نعم ، إنني بطريق من هذه البطاريق ، ولست بطريقاً وحيداً ، أو تائهاً ، في هذه
المفازة الواسعة من الثلوج .
ومرت أيام الخريف ، ولاح الشتاء ببرده وثلجه وعواصفه ، التي تعوي طويلاً ،
في الليل الطويل الموحش . وراحت البطارق تتجمع ، الكبار في جهة ، ونحن البطارق
الفتية ، في الجهة الأخرى . وذات يوم ، تركنا الكبار قاصدين البحر ، بحثاً عن
الطعام .
ولم نلبث ، نحن أيضاً ، أن سرنا نحو البحر ، الواحد بعد الآخر، دون أن ينبس
أيّ منّا بكلمة واحدة . وما إن وصلنا البحر ، حتى رحنا نرتمي في أحضان مياهه
الدافئة ، وسرعان ما انطلقنا نحو الأعماق ، نطارد الأسماك الصغيرة ، ونلتهم منها
ما نصل إليه .
ويوماً بعد يوم ، كنّا نمضي إلى عرض البحر ، مبتعدين عن الجزيرة ، التي
نشأنا فيها . وإذا كان ما قالته لي أمي صحيحاً ، فإننا سنعود إلى الجزيرة ذاتها ،
بعد حوالي أربع سنوات ، فنقيم أعشاشاً خاصة بنا ، في المساكن ذاتها ، التي نشأنا
فيها .