الملكة
طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــ
عند الصباح ، انطلقت العاملات
إلى الغابة ، الواحدة بعد الأخرى . ولم يبق داخل الخلية ، سوى الملكة ، والنحلة
العجوز، والصغار في حجرة التربية ، وكذلك التنابلة الذكور.
وتوغلت العاملات في الغابة ، وبينهن النحلة نون ، ورحن يتنقلن من زهرة إلى
أخرى ، يرتشفن الرحيق ، ويجمعن غبار الطلع ، في سلال صغيرة على أرجلهن .
ومضت النحلة نون ، مبتعدة عن رفيقاتها ، رغم أن النحلة العجوز ، قد حذرتهن
من التباعد ، خشية أن تضل إحداهن . أو تتعرض للخطر ، وخاصة من الزنابير .
إنها مهمومة ، ربما أكثر من غيرها ، فقد خرجت الملكة الجديدة من حجرة
التربية ، وبدا أن المواجهة بينها وبين الملكة القديمة ، أمرٌ يصعب تجنبه ، مما
يعرض الخلية نفسها للخطر .
وخفق قلبها بشدة ، حين لمحت زنبوراً ضخماً ، يمرق كالذئب الجائع ، بين
شجيرات الورد ، باحثاً عما يسكت به جوعه ، فانطلقت بسرعة ، واختبأت في وردة كبيرة
، كثيفة الأوراق .
" 2 "
ـــــــــــ
وانتظرت بعض الوقت ، ثم همت أن تخرج ، وتحلق مبتعدة ، فقالت الوردة : مهلاً
، ابقي الآن .
فردت النحلة نون قائلة : لقد تأخرت ، لابد أن أعود إلى الخلية.
وتلفتت الوردة حولها ، وقالت : دليل العسل في الجوار ، وقد يتبعك إذا رآك .
وانتظرت النحلة نون بعض الوقت ، ثم أطلت بحذر من بين الأوراق ، وقالت :
عليّ أن أذهب الآن ، وألحق برفيقاتي .
فقالت الوردة : كما تشائين ، لكن كوني حذرة ، فدليل العسل ماكر غدار .
وانطلقت النحلة نون مسرعة ، وبعد أن تجاوزت شجرة البلوط الضخمة ، شعرت
أنه يتبعها ، وخفق قلبها بشدة ، حين
التفتت إلى الوراء ، نعم ، إنه هو ، دليل العسل .
هذا اللعين ، يريد أن يتبعها خلسة حتى الخلية ، ثم يسرع إلى الغرير ، ويدله
عل مكان الخلية، وعندئذ يهاجمها الغرير ويدمرها ، وينهب ما فيها من شمع وعسل ،
ويتسبب في قتل الكثير من النحل .
وعلى الفور ، انحدرت النحلة نون إلى شجيرة ورد ، واختبأت بين أغصانها ،
وأوراقها الكثيفة . وحام دليل العسل، حول شجيرة الورد ، لعله يعثر على النحلة ،
لكن دون جدوى. وبدل أن يولي مبتعداً ، حطّ على غصن شجرة قريبة ، وراح ينتظر .
لم تتحرك النحلة نون من مكانها ، رغم مرور الوقت ،وداخلها خوف من أن يبقى
دليل العسل في مكانه ، حتى حلول الليل ، وتضطر للبقاء في العراء ، فيقتلها البرد .
" 2 "
ـــــــــــــ
توارت الشمس وراء الأفق ، وخيّم
الليل فوق الغابة .وشيئاً فشيئاً راح الضجيج يخفت قي الخلية ، حتى كاد يتلاشى ، ويسود الصمت .
وتمددت الملكة مجهدة ، ثم ألقت نظرة على النحلة العجوز ، وقالت : أرجو أن
تكون العاملات قد عدن من الغابة .
فردت النحلة العجوز قائلة : اطمئني يا مولاتي ، لقد عدن جميعاً عدا ..
النحلة نون .
وتنهدت الملكة ، وقالت : لا أدري ما الذي دهى هذه النحلة ، لقد كانت نشيطة
منضبطة .
ولعل النحلة العجوز ، أرادت أن تهون الأمر على الملكة ، فقالت : لا عليك يا
مولاتي ، سأتحدث إليها .
وأغمضت الملكة عينيها متأوهة ، وقالت : هذا إذا قدر لها أن تعود .
ولاذت النحلة العجوز بالصمت ، فقالت الملكة بصوت واهن : إنني متعبة ، سأنام
.
عندئذ تراجعت النحلة العجوز ، ومضت إلى الخارج . وبدل أن تقصد حجرتها ،
اتجهت نحو بوابة الخلية واقتربت من الحارسات، وقالت : أرجو أن لا يكون هناك ما
يقلق .
فردت إحدى الحارسات : اطمئني يا سيدتي ، كلّ شيء على ما يرام .
وتساءلت النحلة العجوز : والنحلة نون ؟
فردت الحارسة : لم تعد بعد يا سيدتي .
وتنهدت النحلة العجوز ، وقالت : لننتظر ، قد تعود بعد قليل.
ولاذت الحارسات بالصمت ، فاستدارت النحلة العجوز ، ومضت متثاقلة إلى حجرتها
. ولم تكد تخطو بضع خطوات ، حتى لحقت بها
حارسة ، وهتفت : سيدتي .
وتوقفت النحلة العجوز ، والتفتت إليها ، ورغم أنها حدست ما ستقوله ، تساءلت
: نعم ؟
فقالت الحارسة: جاءت النحلة نون ؟
وتنهدت النحلة العجوز بارتياح ، وقالت : حسن ، سأكون في حجرتي ، فلتأتي
إليّ .
وأقبلت النحلة نون ، بعد قليل ،على النحلة العجوز في غرفتها ، وقالت : نعم
، سيدتي .
وحدقت النحلة العجوز فيها ، وقالت : تأخرت اليوم أيضاً .
وردت النحلة نون : عفواً سيدتي ، هذا اليوم ..
وقاطعتها النحلة العجوز قائلة :الملكة سألت عنك ، إن همومها كثيرة ، ولا
نريد أن نضيف إليها هماً آخر .
فقالت النحلة نون : لاحقني دليل العسل ، وخفت أن يعرف موقع الخلية ،
فاضطررت أن أختبىء ، ووقف يترصدني على إحدى الأشجار ، ولم يغادرها حتى أوشكت الشمس
على الغروب .
ولاذت النحلة العجوز بالصمت ، ثم نظرت إلى النحلة نون ، وقالت : كوني حذرة
، لا نريد أن تتعرض خليتنا للدمار ، والآن اذهبي إلى حجرتك ، وأخلدي إلى الراحة
" 3 "
ـــــــــــ
استلقت النحلة العجوز في
فراشها ، وأغمضت عينيها ، لكنها لم تنم ، صحيح أن العاملات ، والصغار ، وكذلك
الذكور ، كانوا يشغلونها ، لكن ما يشغلها أكثر ، كانت .. الملكة .
وتقلبت في مكانها ، وقد استبد بها القلق ، ترى ما الذي تفكر فيه الملكة ؟
وما الذي يمكن أن تتخذه تجاه الملكة الجديدة ؟
ونهضت متثاقلة ، وخرجت من الحجرة ، ومضت تسير على غير هدى ، في ممرات
الخلية . ورأت النحلة نون ، تقف أمام باب حجرتها ، فاقتربت منها ، وقالت : لم
تنامي بعد .
وقالت النحلة نون : الجو خانق في الداخل .
وحدقت النحلة العجوز فيها ، وتساءلت : بنيتي ، ما الذي يقلقك ؟
فردت النحلة نون : ما يقلقك أنت يا سيدتي ، الملكة ، والملكة هي .. الخلية
برمتها .
وربتت النحلة العجوز على كتفها ، وقالت : عزيزتي ، أنت شابة، دعك من هذا ، اذهبي ونامي .
وتأهبت النحلة نون لدخول حجرتها ، وقالت : عمت مساء ، سيدتي .
ومضت النحلة العجوز مبتعدة ، وهي تقول : عمت مساء.
وأوت إلى فراشها ، لكنها لم تنم ، وكيف تنام وهي تعرف ، أن الملكة ربما
لم تنم ؟
وفي صباح اليوم التالي ، دخلت النحلة العجوز على الملكة ، وفوجئت بها تقف
شاحبة مجهدة وسط الجناح ، فاقتربت منها ، وقالت : عمت صباحاً يا مولاتي .
ورمقتها الملكة بنظرة خاطفة ، وقالت : أرجو أن تكون النحلة نون قد عادت
البارحة .
فردت النحلة العجوز قائلة : لقد عادت يا مولاتي ، ونبهتها أن لا تتأخر
ثانية .
وهمهمت الملكة بصوت واهن : هممم ، هذا جيد .
وتناهت إليها ضجة من الخارج ، فرفعت رأسها ، وقالت : يا للضجيج ، الخلية لم
تعد تحتمل .
فقالت النحلة العجوز : لا عجب يا مولاتي ، فالمواليد كثيرة ، وكلها صحة
وعافية .
وحدقت الملكة فيها ، وتساءلت : والملكة الجديدة ؟
ولاذت النملة العجوز بالصمت ، فقالت الملكة : لابد أنها قوية وجميلة و ..
وصمتت الملكة ، فقالت النحلة العجوز : جميلة ، تشبهك ، يا مولاتي .
وتغاضت الملكة عما قالته النحلة العجوز ، وتابعت قائلة : هذه الخلية بحاجة
إلى ملكة شابة ، وقوية .
وصمتت الملكة ثانية ، فقالت النحلة العجوز : إنها تشبهك في كلّ شيء .
وأطرقت الملكة لحظة ، ثم قالت بصوت متحشرج : عندما خرجت من حجرة التربية ،
لم أرد مواجهة الملكة الأم ، لكنها ، ولسبب لا أعرفه ، هاجمتني ، فحاولت أن أحمي
نفسي منها ، وإذا بها تسقط ميتة ، ربما بسبب الإجهاد ، فقد كانت مريضة ، ومتقدمة
في السن .
وأطرقت رأسها مرة أخرى ، ثم قالت : دعيني وحدي ، أريد أن أرتاح .
" 4 "
ــــــــــــ
أفاقت الملكة ، صباح اليوم
التالي ، وإذا الصمت يكاد يعمّ الخلية ، ماذا جرى ؟ ، وهبت واقفة ، وصاحت بأعلى
صوتها : أيتها النحلة العجوز .
وعلى الفور ، أقبلت النحلة العجوز ، وقالت : مولاتي .
وقالت الملكة منفعلة : أخبريني ..
واقتربت النحلة العجوز منها ، وقالت : مولاتي ، الوقت مازال مبكراً ، ليتك
تعودين إلى فراشك ، وترتاحين .
وحدقت الملكة فيها ، وقالت : إنني لا أسمع ضجيجاً في الخلية ، ماذا جرى ؟
وتطلعت النحلة العجوز إليها ، وقالت مترددة : الملكة الجديدة غادرت الخلية
..
وشهقت الملكة قائلة : ماذا !
واستطردت النحلة العجوز : وغادرت
معها أعداد كبيرة من النحل .
وصاحت الملكة : ماذا تقولين ؟
فردت النحلة العجوز قائلة : هذا ما
جرى يا مولاتي ، فقد فضلت الملكة الجديدة ، أن تغادر الخلية ، وتؤسس خلية جديدة ،
قرب شجرة البلوط .
وقالت الملكة بصوت مجهد حزين : يا إلهي ، أردتها أن تبقى، فلابد لهذه
الخلية من ملكة شابة وقوية مثلها .
وقالت النحلة العجوز : مولاتي ، أنت مازلت ..
وقاطعتها الملكة قائلة : كلا ، أنا عجوز ، ومريضة ، وأنت تعرفين ذلك .
وأطرقت رأسها ملياً ، ثم رفعت رأسها إلى النحلة العجوز ، وقالت : أمرتك أن
تبقي على ملكة جديدة واحدة ..
ولاذت النحلة العجوز بالصمت ، فقالت الملكة : أعرفك حكيمة ، محنكة ،
اصدقيني ..
وانحنت النحلة العجوز أمامها ، وقالت : مولاتي ، أنت تعرفين ، أن بعض
الملكات ، ولأسباب خارجة عن إرادتنا ، تموت داخل حجراتها .
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : أعرف هذا ، تكلمي .
واستطردت النحلة العجوز : عفواً مولاتي ، لقد خالفت أمرك ، وأبقيت على ملكة
أخرى .
وتنهدت الملكة بارتياح ، وقالت : حسناً فعلت ، أشرفي على العناية بها بنفسك
، أريدها ملكة شابة ، قوية ، معافاة .
فانحنت النحلة العجوز ، وقالت : أمر مولاتي .
" 5 "
ــــــــــــــ
اعتكفت الملكة في جناحها ، ولم
تسمح لأحد بزيارتها ، عدا النحلة العجوز .
واستبد القلق بالنحلة العجوز ، فالملكة قلما كانت تنام أو تأكل ، وكانت
كلما زارتها في جناحها ، حدقت الملكة فيها ، وسألتها : كيف حال الملكة الجديدة ؟
فتجيبها النحلة العجوز : بخير يا مولاتي .
حتى كان يوم ، سألتها فيه كالعادة عن الملكة الجديدة ، فقالت النحلة العجوز
: بخير يا مولاتي ، لكن ..
وتطلعت الملكة إليها مستفسرة ، قلقة ، فأضافت النحلة العجوز قائلة : النحل
يتجمعون حولها يوماً بعد يوم ، وأخشى أن ..
وقاطعتها الملكة قائلة: فهمت ، حسن ، دعيني وحدي .
وهمت النحلة العجوز أن تتكلم ، فتابعت الملكة قائلة : لا أريد أن يزورني
أحد الليلة في جناحي .
وتطلعت النحلة العجوز إليها مذهولة ، فقالت الملكة بشيء من الحدة : حتى أنت
، لا أريد أن تزوريني ، والآن اذهبي .
ورغم هذا قالت النحلة العجوز : مولاتي ..
وقاطعتها الملكة بحزم : قلت لك
اذهبي .
وانحنت النحلة العجوز ، وقالت : عفواً مولاتي ، كما تشائين ، عمت مساء .
لم ترقد الملكة في فراشها ، رغم مرضها ، وشعورها بالإجهاد ، وراحت تذرع
جناحها ذهاباً وإياباً ، بخطوات مثقلة متعبة . وعند منتصف الليل ، فتحت الباب ،
وغادرت جناحها ، ومضت عبر ممرات الخلية متجهة نحو البوابة الخارجية .
ويبدو أن النحلة العجوز ، قد خمنت ما ستقدم عليه الملكة ،فلم يغمض لها جفن
، وراحت تراقب باب جناح الملكة .
وحالما رأتها تغادر الجناح ، وتسير متثاقلة عبر الممرات ، تبعتها عن بعد ،
لتتأكد مما قد تقدم عليه .
وعلى مقربة من البوابة الخارجية ، اقتربت النحلة العجوز من الملكة ، وقالت
: مولاتي .
وتوقفت الملكة ، وهمست بصوت خافت : هش .
ثم التفتت إلى النحلة العجوز ، وقالت : ما الذي أيقظك في مثل هذا الوقت من
الليل ، عودي إلى فراشك .
فقالت النحلة العجوز مترجية : مولاتي ، أرجوك ، الخلية بحاجة إليك .
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : الخلية بحاجة إلى ملكة شابة ، قوية ، وها قد
صار لها ما تحتاجه .
وبنبرات دامعة ، قالت النحلة العجوز : لو علم النحل في الخلية بما تريدين
الأقدام عليه ، للحق معظمهم بك ، و..
وقاطعتها الملكة قائلة : كلا ، أريدهم أن يبقوا في الخلية ، فالخلية هي أنا
، ومن يحبني عليه أن يبقى ، ويخدم الخلية .
واغرورقت عينا النحلة العجوز بالدموع ، واستدارت الملكة ، وهي تقول :
وداعاً .
ومن خلال دموعها ، رأت النحلة العجوز ، الملكة تفتح أجنحتها الشائخة ،
وتنطلق محلقة ، وتتلاشى في ليل الغابة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق