لاتَغْضَبْ، ياجَدِّي!
العربي بنجلون
كَكُلِّ جُمُعَةٍ، زُرْتُ جَدِّي، صُحْبَةَ أبِي، فَوَجَدْناهُ مُسْتَلْقِياً فَوْقَ السَّريرِ، تَبْدو على مُحَيَّاهُ الْجَميلِ مَسْحَةٌ مِنَ الْحُزْنِ. وكَأَنَّهُ أَحَسَّ بِما يَخْطُرُ في بالِي، فَقالَ لِي: صَدِّقْنِي، بُنَيَّ، إذا قُلْتُ لَكَ: لَوْ وَجَدْتُ كَوْكَباً آخَرَ نَظيفاً لَرَحَلْتُ إلَيْهِ؛ فَأَرْضُنا تَشْكو مِنْ غازاتٍ سامَّةٍ تُؤْذي صِحَّةَ أجْسامِنا وأنْفُسِنا.حَتّى أنَّ سُكّانَ بَعْضِ الْعَواصِمِ يَضَعُونَ أقْنِعَةً شَفّافَةً على وُجوهِهِمْ بِمَثابَةِ (مِصْفاةِ) الْهَواءِ الَّذي نَتَنَفَّسُهُ. ولا تَنْسَ أنَّ التَّلَوُّثَ عامِلٌ قَوِيٌّ في تَفَشِّي كَثيرٍ مِنْ أمْراضِ الْقَلْبِ، والصَّدْرِ والرَّبْوِ..وكُلُّها تُعْزى إلى الْمَوادِّ السّامَّةِ الَّتي توجَدُ في الأسْمِدَةِ والْمُبيداتِ والْغازاتِ.
ويالَلْعَجَبِ!..اَلْبَشَرُ يَقْضونَ على حَياتِهِمْ وحَضارَتِهِمْ، وهُمْ يَعْرِفونَ ذَلِكَ؛ فَمَعامِلُهُمْ ووَسائلُ نَقْلِهِمْ، تَنْفُثُ أدْخِنَةً قاتِلَةً، تُحْدِثُ ثُقْباً في الْغِلافِ الْجَوِّيِّ، الَّذي يَتَّسِعُ ويُنْذِرُ بِكارِثَةٍ. ومِنْهُ تَنْفُذُ أشِعَّةُ الشَّمْسِ فَوْقَ الْبَنَفْسَجِيَّةِ، الَّتي تُكَوِّنُ سَرَطانَ الْجِلْدِ، وتُلْحِقُ أضْراراً بِالْعُيونِ. وتَعالَ مَعي حالاً إلى الْمُحيطاتِ والْبِحارِ والأنْهارِ، فَما عُدْنا نَعْثُرُ فيها إلاّ على الْيَسيرِ مِنَ الأسْماكِ، بَلْ إنَّ بَعْضَها انْقَرَضَ بِالْمَرَّةِ، ولَمْ يَعُدْ لَهُ ذِكْرٌ إلاّ في الْمُنْجِدِ!..أجِبْنِي: ألَيْسَ ماؤها مُلَوَّثاً، تَعافُ نَفْسُكَ أنْ تَسْبَحَ أوْ تَصْطادَ فيها؟..لَقَدْ حَوَّلوها إلَى مُسْتَوْدَعاتٍ لِلنُّفاياتِ، وأفْرَغوها مِنْ ثَرَواتِها الْبَحْرِيَّةِ.وانْظُرْ إلى الْغاباتِ الْخَضْراءِ، كَيْفَ تَتَهاوى أشْجارُها، وكَيْفَ تَنْقَرِضُ حَيَواناتُها، لِتُبْنَى مَكانَها عِماراتٌ شاهِقَةٌ، تَحْبِسُ عَنّا النّورَ والْهَواءَ.نَحْنُ، يابُنَيَّ، بِأعْمالِنا الطّائشَةِ، نَفْقِدُ الْغاباتِ، والأراضِيَ الْخِصْبَةَ، والْحَيَواناتِ الْبَرِّيَّةَ والْبَحْرِيَّةَ، والْمِياهَ النَّقِيَّةَ.
قلتُ له: صَدَقْتَ، جَدِّي، ماعادَتْ أرْضُنا خَضْراءَ، ولا سَماؤُنا زَرْقاءَ، ولا مِياهُنا نَقِيَّةً صافِيَّةً. لَكِنْ، لا يَنْبَغي أنْ تَغْضَبَ أوْ تَقْنَطَ مِنْ هَذِهِ الْحالِ. عَلَيْنا أنْ نَجِدَ حَلاًّ ناجِحاً لِهَذِهِ الْمُشْكِلَةِ. فَأنا طِفْلٌ عامِلٌ مُجِدٌّ نَشيطٌ، وأنْتَ شَيْخٌ عاقِلٌ وحَكيمٌ وصَبورٌ، إذا تَعاوَنْنا مَعاً، نُحَسِّنُ بيئَتَنا.
-كَيْفَ، يابُنَيَّ ؟..فَهِّمْنِي أكْثَرَ، وافْتَحْ بَصيرَتِي!
- لِماذا لانَجْعَلُ مَدينَتَنا نَظيفَةً، فُنُشَجِّرَ أرْصِفَتَها وأحْياءَها، ونُنْشِئَ في كُلِّ حَيٍّ حَديقَةً غَنّاءَ، يُحافِظُ عَلَيْها سُكّانُهُ؟..ولِماذا لانَنْصَحُ الْكِبارَ والصِّغارَ بِأنْ يَضَعوا يَداً في يَدٍ، ويَعْتَنوا بِنَظافَةِ مَدينَتِهِمْ، فَلا يُلْقونَ بِالْفَضَلاتِ الْمَنْزِلِيَّةِ، والنُّفاياتِ والْقاذوراتِ في الشَّوارِعِ، أوْ في النَّهْرِ والْبَحْرِ، وإنَّما يُكَوِّمونَها في أكْياسٍ، ويُحْكِمونَ رَبْطَها، ثُمَّ يَنْقُلُها عُمّالُ الْكُناسَةِ إلى مَعامِلِ التَّدْويرِ، لِتَحْويلِها إلى مَوادَّ نافِعَةٍ، كَالسَّمادِ والطّاقَةِ، والْوَرَقِ والأوانِي، والأدَواتِ الْمُتَنَوِّعَةِ؟..ولِماذا لانَنْصَحُ سُكّانَ مَدينَتِنا بِاسْتِعْمالِ الدَّرّاجاتِ الْهَوائيَّةِ، أوْ تَجْديدِ سَيّاراتِهِمْ، وألاّ يَسْتَعْمِلوها إلاّ عِنْدَ الْحاجَةِ، لِنُقَلِّلَ مِنَ الضَّوْضاءِ وتَلَوُّثِ الْهَواءِ؟
- لَمْ تَقُلْ، يابُنَيَّ، إلاّ حَقاًّ!..إذَنْ، هَيّا نَبْدَأْ عَمَلَنا الْجَميلَ مِنْ هَذِهِ اللَّحْظَةِ!
- ألا تُريدُ أنْ تَرْحَلَ إلى كَوْكَبٍ آخَرَ نَظيفٍ، كَماقُلْتَ لي قَبْلَ قَليلٍ؟
أزالَ الْغِطاءَ، وقَفَزَ مِنَ السَّريرِ، كَأَنَّهُ طِفْلٌ صَغيرٌ:
- ولِمَ أفْعَلُ، ومَدينَتُنا بِفَضْلِ تَعاوُنِنا، أنا الْكَبيرَ بِحِكْمَتِي وتَجْرِبَتِي، وأنْتَ الطِّفْلَ بِقُوَّتِكَ ونَشاطِكَ، سَتُصْبِحُ نَظيفَةً جَميلَةً، تَصِحُّ فيها أجْسامُنا، وتَهْنَأُ أنْفُسُنا؟
هناك تعليق واحد:
7ata ila sarartiha zawinak
إرسال تعليق