الجني...
عادل أبو شنب
كانت فطمة تقفز من الفرح، تنط كعصفور جائع في بيدر
والأولاد يتحلقونها مأخوذين بهذا الفرح الغامر غير المألوف الذي حولها إلى جنية
صغيرة. وأمينة رفيقتها التي لا تفارقها تحاول عبثاً معرفة السبب.
وكان النهر ينساب على بعد خطوات في مسكنة، يملأ ماؤه
الأخضر اللون.. مجراه المحفور منذ مئات السنين وعلى ضفتيه تشمخ شجرات الحور
بجباهها التي تعانق الشمس وترنو إلى الماء الكسول في احتقار.
قالت أمينة:
-قولي. قولي يا فطمة.
قالت فطمة:
-الآن أبدأ. حتى لو أطعمتني بقلاوة لن أقول. بعد قليل
تشاهدين كل شيء بنفسك.
ونطت على قدم واحدة كما تفعل في سباق القدم الواحدة في
المدرسة ونهداها الصغيران يثبان والأولاد يتبعونها.. باتجاه النهر.
كان الوقت خريفاً والأشجار تتعرض لنسيم بارد يسقط
الأوراق، ومن بعيد كانت تسمع أصوات الفلاحين الذين يعملون في الأرض.
وكانت شجرة الحور الكبيرة المنتصبة في خيلاء.. ترسم على
صفحة ماء النهر ظلاً، والظل المستحم في الماء يعطي الشجرة امتداداً معاكساً ذاهباً
نحو الأعماق، وكثيراً ما كان أولاد القرية يقفون على الضفة يحدقون إلى الظل
المرسوم على صفحة الماء:
-هاهنا أعمق مكان في النهر.
-الماء يغمر ثلاثة جمال فوق بعضها.
-كل سنة يأكل الظل المرسوم على الماء.. ولداً.
وكان النهر العجوز في انسيابه غير مكترث بالأولاد هادئاً
رزيناً نائماً أو متناوباً.. كأنه غيلان حكايات الجدات تنام بعيون مفتوحة
الأحداق.
ورثت الجدات قصة النهر عن جداتهن وهؤلاء ورثنها عن
جداتهن من قبل وأصبح العرف الشائع في القرية التي تحتضن النهر إن الاستحمام في
نقطة وقوع ظل شجرة الحور الكبيرة على الماء.. يؤدي إلى الهلاك بسبب من وجود جني
هائل الحجم في أعماق النهر، يبتلع الذين يقذفون بأجسادهم إلى الماء. ولقد حدث أن
حاول فتيان، في الماضي الاستحمام في النقطة الخطرة فابتلعهم الجني –تقول الجدات
–ولم ينج منهم أحد.
وصل الأولاد الذين كانوا يجرون وراء فطمة إلى ضفة النهر
وكان أحمد بوجهه الناحل القلق ينتظر، كتفه تستند إلى ساق شجرة الحور، وعلى شفتيه
ابتسامة صغيرة شجاعة لم تستطع أن تخفي اضطراب عينيه. كان بلا ملابس تقريباً وبدنه
البني اللون يرتجف من لسعات نسيم الخريف.
قال فطمة:
-أأنت عازم فعلاً؟
قال أحمد:
-أجل
وتهيب الأولاد الموقف، كان ظل أحمد على صفحة الماء
ملاصقاً لظل شجرة الحور الكبيرة المنتصبة وكان النهر يسير هادئاً كسولاً.
وعندما صمت الأولاد.. سمع من الضفاف القريبة نقيق
الضفادع.. كأنه صلاة، فدب الخوف في القلوب الفتية وأيقن الجميع أن أحمد، سيد لذاته
من صبيان القرية، سيختطفه الجني القابع في أعماق النهر.
كانت فطمة من مطلع الثالثة عشرة حلوة فمها منمنم وعيناها
سوداوان واسعتان يعيش فيهما مكر صبياني وجديلتاها الفاحمتان.. تتقاتلان مع المنديل
المزركش الذي يلف وجهها الأبيض ويمنع تسللهما إلى الخارج. وكان أحمد يبدي في كل
مناسبة اهتماماً خاصاً بها وعندما قالت له قبل ساعة واحدة أثناء جولة قضياها معاً
على ضفاف النهر:
-أأنت على استعداد لعمل ما أطلبه منك؟
قال بسرعة:
-نعم حتى ولو طلبت حليب السبع.
وقالت:
-وإذا طلبت منك العوم في النهر قرب شجرة الحور الكبيرة؟
أجاب:
-افعل..
وقالت تسأله، وتدعم سؤالها بحركة حائرة من ذراعها:
-ألا تخاف؟
-ممن؟
-من الجني.
-أنا؟ أنا أخاف؟ سأعوم من أجلك أمام جميع أولاد الضيعة.
نظر أحمد إلى عيني فطمة ونظرت فطمة إلى عينيه بدورها.
كان الأولاد واجمين ينقلون أبصارهم ما بين جسد أحمد
البني اللون والجسد المائي الممتد في كسل وتراخ داخل المجرى المحفور منذ مئات
السنين، كانوا مذعورين وكانت شجرة الحور الكبيرة المادة ظلها في فوق الماء.. تبدو
في عيونهم كمارد مخيف ولو لم يكونوا مجتمعين للجأ كل منهم إلى البكاء.
واستعد أحمد للعوم: رفع ذراعيه إلى أعلى بعملية شهيق
طويلة وراح يحدق بسرعة إلى الوجوه الصغيرة المحتقنة بالقلق التي أذهلتها
المفاجأة.
وتمتمت فطمة:
-الله معك.
وأسبل أحمد أهدابه.. كمن يستسلم لمصير مجهول وتسارعت
دقات قلب الأولاد وهبت نسمة باردة أسقطت أوراقاً خريفية أخرى اضطجعت على صفحة
الماء كأنها.. جثث، وسمع النقيق الجنائزي بوضوح وراحت أمينة تلهث من الإعياء وظهر
الندم في عيني فطمة غير أن ارتطام جسد أحمد.. بالجسد المائي المنساب في المجرى بدل
كل شيء وجعل الأولاد يصرخون.
انشقت نقطة وقوع ظل شجرة الحور على الماء.. عندما لامسها
أحمد فكأنها شدق هائل الاتساع.. ابتلع الجسد الفتي، وكف الأولاد عن الصراخ، وعادوا
إلى الذهول والصمت والترقب، ولأول مرة رأوا تكسر الظل المرسوم على صفحة الماء، غير
أنهم لم يفكروا جميعاً في هذه اللحظة إلا بالجني الهائل الحجم القابع في أعماق
النهر.
ومرت ثوان..
وعاد النهر العجوز بسرعة إلى انسيابه الكسول، ومن جديد
أسقطت نسمة خريفية أوراق الشجر فوق صفحة الماء وراحت الضفادع تؤدي دورها وشجرة
الحور الكبيرة تشمخ بأنفها.. كأنها آلهة، وأصوات الفلاحين البعيدة تختلط بخوار
البقر الأجش، وكان الأولاد ممتقعي اللون لا يتحركون.. كأنهم دمى خشبية يملأ عيونهم
ترقب ملوث بالدموع.
فجأة.. انشقت صفحة الماء في النهر المنساب بكسل.. عن جسد
أحمد بالذات، ورأى الأولاد الوجه مبتلاً بالماء وبالسعادة فراحوا يصيحون.. كأنهم
يمتطون أرجوحة العيد.
وسمع صوت أحمد، لأول مرة بعد خروجه من الأعماق:
-الماء بارد لكنه منعش..
وتتابعت الأسئلة التي كانت حائرة على شفاه الصغار:
-والأعماق؟
-.. كأعماق أي نهر آخر
-والجني؟
-لا شيء حتى ولا سمكة صغيرة.
-والماء؟
-بارد، بارد.. لكنه منعش.
-وصرخت فطمة في فرح وقلق:
-اخرج يا أحمد لئلا تبرد.
وكان أحمد يسبح تارة على بطنه وأخرى على ظهره.. في ثقة
وسعادة ولقد بدا وجهه الناحل هذه المرة أكثر عافيه.
وتنادى الأولاد للعودة إلى دورهم. كانت وجوههم تطفح
بشراً متوقداً، وعيونهم تخبئ الخبر الجديد: ميتة الجني الهائل الحجم.. بذراعي أحمد
القويتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق