نَسْغُ الْحَيَاةِ
محمد محمود قشمر
حَدَّثَتِ الشَّمْسُ
نَفْسَهَا هَذَا المَسَاءِ قَائِلَةً:
إِنَّهُ لَعَجِيْبٌ
أَمرُ هَؤُلَاءِ الْبَشَرِ..!! فَهُمْ مَا بَرِحَوا يَنْهَلُونَ نُورِيَ الَّذِي
أُغْدِقُهُ عَلَيْهِم سَخيِّاً فَيَّاضاً, ثُمَّ لاَ يَتَوَانَونَ عَنْ بَذْلِ
قُصَارَى جُهْدِهِم لِيصْطَنِعُوا أَدَوَاتِ دَمَارٍ يُطَوِرُونَهَا
بِعَجَائِبِيَّةٍ غَرِيْبَةٍ لِلّفَتْكِ بِبَنِي جِلْدَتِهِم.
وَبَعْدَ أَنِ
التَقَطَتْ بَعْضَاً مِنْ أَنْفَاسِهَا الْحَارَّةِ تَابَعَتْ:
ـ إِنَّهُمْ
يُخَرِّبُونَ كُلَّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِِ؛ رَبِيبَتي
الْحَبْيبَةِ الَّتِي أُمِدُّهَا مُنْذُ الْقِدَمِ بِنَسغِ الْحَيَاةِ..!!
ثُمَّ غَلَبَهَا
صَمْتٌ حَزِينٌ, خَالَطَهُ دَمْعٌ سَخِينٌ, جَادَتْ بِهِ مُقْلَتُهَا الرَّحِيمَةُ.
وَفِيمَا هِي
كَذَلِكَ؛ إِذَا بِصَدِيقِهَا الْقَمَرُ - وَقَدْ سَمِعَهَا - يَتَنَحْنَحُ
لِيَسْتَأذِنَ صَمْتَهَا وَلِيُخَاطِبْهَا وَقَلْبُهُ يَتَفَطَّرُ أَلمَاً
لِمْرآهَا الْكَئِيبِ:
ـ مَا بِكِ يَا
مُلْهِمَتِي الْعَزِيزَةِ؟ أَرَاكِ جِدَّ حَزِينَةٍ وَأَشِعَتُكِ الذَّهَبِيََّةُ
تَصِلُنِي كَسِيرَةَ الخَاطِرِ..!!
فَأَجَابَتْ
وَنَشِيجُ حَسْرَتِهَا يُقَطِّـعُ كَلامَهَا:
ـ أَلا تَرَى.. مَا
يَفْعَلُ.. هَؤُلاءِ الْبَشَر؟ إِنَّهُم.. لا يَكُفُّونَ عَنِ الشِّجَارِ
وَالْعِراكِ والاِقْتِتَالِ.. فَيُدَمِّرُونَ أَنْفُسَهُم بِأَنْفُسِهِم..
وَيُهَدِّمُونَ كِيَانَ أُمِّهُمُ الأَرْضِ.. الَّتِي ما فَتِئَتْ تَحْمِلُهُم
بِحَنْوٍ, وَتَحْدِبُ عَلَيْهِم بِخَيْرَاتِهَا.
فَقَالَ وَقَدْ
شَعَرَ بِشُعُورِهَا:
ـ صَحْيحٌ مَا
قُلْتِ.. لَكِنَّهُم كَذَلِكَ مُنْذُ وُلِدُوا عَلَى سَطْحِهَا, وَالأَمْرُ لَيْسَ
بِجَديِدٍ..!!
فَقَالَتِ الشَّمْسُ
مُتَوَعِّدَةً:
ـ الأَمْرُ لَيْسَ
بِجَدِيدٍ.. نَعَمْ.. لَكِنْ لَنْ أَسْمَحَ لَهُ بِالاِسْتِمْرَارِ كَمَا هُوَ..!!
فَسَأَلَهَا
الْقَمَرُ بِتَوَجُّسٍ:
ـ وَمَا الَّذَي
يُمْكِنُ فِعلُهُ مَعَهُم؟
فَقَالَتْ بِحَزْمٍ:
ـ سَأَقُومُ بِفِعْلٍ
مَا فَعَلْتُهُ فِي حَيَاتِي قَطُّ.. !!
اِرْتَبَكَ
الْقَمَرُ, وَتَوَجَّسَ خِيفَةً لمَّا سَأَلَهَا:
ـ مَاذَا
تَقْصِدِينْ؟
فَأَجَابَتْ بِثِقَةٍ
وَحَزْمٍ:
ـ لَنْ أُُشْرِقَ
عَلَيْهِم مُنْذُ الْغَدِ وَإِلَى الأَبَدِ. فَأَنَا لاَ أَرْضَى أَنْ أَكُونَ
رَاعِيةًً لِحَمَاقَاتِهِمْ وَدَاعِمَةً لَهَا, وَسَبَبَاً فِي اشْتدادِ أَنْيَابِ
الْقَتْلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
سَمِعَ الْقَمَرُ
كَلامَ الشَّمْسِ هَذَا, وَرَأَى كَيْفَ تَسْتَعِرُ حَنَقَاً, فَارْتَجَفَ
قَلْبُهُ فَرَقَاً, وَانْبَرَى مُحَاوِلاً تَخْفِيفَ غَلْوَائِهَا:
_ لَمْ أَتَوَقَّعْ
أَنْ أَسْمَعَ مِنْكِ كَلامَاً مِثْلَ هَذَا وَأَنْتِ عَلَى مَاَ أَنْتِ عَلَيهِ
مِنَ الْحِلمِ والأَنَاةِ.. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَتَوَقَّفِي عَنْ مُبَارَكَةِ
أَرْضِنَا الْْجَمِيلَةِ بِطَلْعَتِكِ الْبَهِيِّةِ, وَهَيَ تَنْعَمُ بِطِيبِ عِنايتِكِِ
وَعَيْنِ رِعَايَتِكِ؟
فَقَالَتِ الشَّمْسُ
بِصَرَامَةٍ:
ـ لَمْ يَعُدْ يُهِمُّنِي
أَمْرُهَا أَبَدَاً.. فَمُنْذُ الْغَدِ لَنْ تَعُودَ تَرَاِنِي قِمَمُ الْجِبَالِ,
أَوْ تَشُمَّ عَبِيرِي أُنُوفُ الْهِضَابِ, أَوْ تُسْعَدَ بِأُنْسِي بُطُونُ
الأَوْدِيَةِ, أَوْ تَضَْحَكَ بِدِفْئِي خَطَرَاتُ السَّوَاقِي, أَوْ تَرْقُصَ
بِلَحْنِي أَوْرَاقُ الْشَّجَرِ, أَوْ تَغْفُوَ بِهَدْهَدَتِي طُيُورُ المَسَّاءِ,
أَوْ تُوقَظَ بِدَغْدَغَتِي طُيُورُ الصَّبَاحِ, أَوْ تَمْتَلِئَ بِمَحَبَّتِي
سِلالُ الْخَيْرِ, أَوْ تُحْصَدَ بِمَوَدَّتِي سَنَابِلُ الْعَطَاءِ, أَوْ
تَقْطُرُ قَطْرَةٌ مِنْ وَعْدِ السَّمَاءِ, أََوْ يَبْذُرَ رَجلٌ بُذُورَ
النَّمَاءِ, أَوْ تَحْمِلَ امْرَأَةٌ ثِمَارَ الْوَفَاءِ.. لا.. لا.. لَنْ
أُقْبِلَ عَلَيْهِم بِوَجْهِي بَعْدَ الآنِ أَبَدَاً.
كَلَحَ وَجْهُ الْقَمَرِ
الأَبْيَضِ لمَّا أَكََّدَتِ الشَّمْسُ عَزْمَهَا, وَحَارَ فِيمَا يَفْعَلُ..
حَتْمَاً مَصِيرُهُ وَالأَرْضُ؛ قَاتِمٌ جِدَّاً إِنْ وَفَتِ الشَّمْسُ
بِوَعِيدِهَا.
قَاَلَ مُلْتَمِسَاً
رَأفَتَهَا خَاطِبَاً رَحْمَتَهَا:
ـ سَأَسْأَلُكِ
بَعْضَ الأَسْئِلَةِ, فَهَلْ تُجِيبِينَ عَلَيْهَا بِوُضُوحِكِ الْمَعْهُودِ؟
فَأَجَابْتِ
الشَّمْسُ بِثِقَةٍ:
ـ نَعَمْ.. سَلْ مَا
بَدَا لَكْ, لَكِنْ.. لِتَعْلمَ أنَّكَ لَنْ تَتَمَكْنَ مِنْ ثَنْيِ عَزْمِي
عَمَّاَ ارْتَأيْتُ..!!
فَقَالَ وَقَدْ شَابَ
وَجْهَهُ السَّوَادُ:
ـ حَسَنَاً... إِنِ
احْتَجَبْتِ عَنِ الظُّهُورِ عَلَى الأَرْضِ؛ فَهَلْ يَعْنِي ذَلِكَ أَنّكِ قَدْ
حَلَلْتِ مَشَاكِلَ الْبَشَرِ الَّتِي ذَكَرْتِهَا آنِفَاً؟
فَقَالَتِ الشَّمْسُ
مِنْ فَوْرِهَا:
ـ طَبْعَاً لاَ..!
فَسَأَلَ الْقَمَرُ
بِأَنَاةٍ:
ـ وَمَاذَا
تَكُونِينَ قَدْ فَعَلْتِ؟
فَأَجَابْتِ
الشَّمْسُ وَهِيَ تَشْعُرُ بِتَوَهّجٍ أَعْلَى جَبِينِها:
ـ أَكُونُ..
أَكُونُ.. أَكُونُ قَدْ أَنْهَيْتُ الْوُجُودَ عَلَى الأَرْضِ, وَحَوَّلتُهَا
إِلَى كَوْكَبٍ مَيِّتٍ خَالٍ مِنْ كُلِّ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَأَشْكَالِهَا.
فَعَادَ الْقَمَرُ
لِيَسْأَلَهَا وَقَدْ بَدَأَ وَجْهُهُ يُشْرِقُ قَلِيلاً بَعْدَمْا أَخْجَلَهَا:
ـ وَهَلْ
تَخْتَلِفِينَ بِفِعْلِكِ هَذَا عَنْ أَفْعَالِ الْبَشَرِ الْقُسَاةِ؟
صَمَتَتِ الشَّمْسُ
قَلِيلاً وَقَدْ زَاَدَ تَوَهُّجُ نَاِصيَتِهَا ثُمَّ أَجَابَتْ:
ـ لا.. لَيْسَ كَثِيراً..
لَكِنْ اعْلَمْ أَنَّهُم هُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِبَعْضِهِم, وَمَا فِعْلِي
إِلاَ حُزْنَاً عَلَيْهِم وَرِثَاءً لَهُم.
فَسَأَلَ الْقَمَرُ
وَابْتِِسِامَةٌ تَعلُو رِمَالَ تُرْبَتِهِ النَّاعِمَةِ:
ـ وَهَلْ رِثَاؤُكِ
لَهُمْ يَجْعَلُكِ تَشْمَلِينَهُمْ جَمِيعَاً بِهَذِهِ الأَفْكَارِ السَّوْدَاءِ
الَّتِي يُمَارِسُهَا بَعْضُهُم فَيَسْتَحِقُونَ بِمَجْمُوعِهِم دُوْنَ
اسْتِثْنَاءٍ ذَاتَ الْمَصِيرِ؟
صَمَتَتِ الشَّمْسُ
وَقَدْ أَحْرَجَتْهَا صَرَاحَةُ الْقَمَرِ, حَتَى انْبَثَقَ سُكُوتُهَا عَنْ
سُؤَالٍ:
ـ وَمَاذَا تَقْتَرِحُ
عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ إِذَنْ؟ هَلْ أَبْقَى أَمُدُّهُم بِأَسْبَابِ الْحَيَاةِ
وَهُم عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالإِفِسَادِ؟
فَقَالَ الْقَمَرُ
مُوَضِّحَاً بِجَلاءٍ:
ـ أَقولُ لَكِِ :
عَلَيْكِ أَلَّاَ تُفَكِّرِي ثَانِيَةً بِهَذهِ الأَفْكَارِ الظّلامِيَّةِ, وَأَنْ
تَثْوبِي إِلَى رُشْدِكِ وَأَنْتِ الْحَلِيمَةُ الْرَشِيدَةُ, فَتَبْقَي
مُضِيئَةً؛ لَيْسَ فَقَطْ عَلَى الَّذْيِنَ يَحْمِلُونَ أَفْكَاراًََ صَافِيَةً
وَنَقِيَةً وَصَادِقَةً بِلَونِ وَجْهِكِ؛ بَلْ وَعَلَى الْجَمْيِعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ..
حَتَّى عَلَى أُوْلَئِكَ الَّذْيِنَ يَعِيثُونَ فِي الأَرْضِ فَسْادَاً..
فَلَعَلَّ وَعَسَى أَنْ يَتَسَلّلَ مِنْ نُورِكِ شَيءٌ مَا إِلَى عُقُولِهِم
وَأَفْكَارِهِم فَيَعُِودُونَ مُحِبِّينَ للَّخَيرِ وَالْعَدْلِ وَالْحَيَاةِ
مِثْلَمَا نُحِبُّهَا نَحْنُ..!!
عِنْدَ هَذَا عَادَتْ
إِلَى الشَّمْسِ إشِرَاقَتُهَا فَأَطَلَّتْ بِرَأْسِهَا مِنْ خَلْفِ الْجِبَالِ
وَهَيَ تَقُولُ:
ـ لَقَدْ رَضِيتُ
وَاقْتَنَعْتُ بِمَا قُلْتَ, وَلَنْ أَتَوَقَفَ عَنْ نَشْرِ نُورِ مَحَبَّتِي
وَدِفءِ عَطْفِي عَلَيْهمْ جَمِيعَاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق