رَنْدٌ وَالْعُصْفُورُ
محمد محمود قشمر
كَانْتِ الصَّغِيرةُ
رَنْدٌ تَجْلِسُ أَمَامَ الْنَافِذَةِ تَرْقُبُ بِتَمَعُّنٍ فِعْلَ الرِّيحِ
الْغَضُوبِ وَهِيَ تَهُزُّ بِعُنْفٍ وَتَدْفَعُ بِقُوَّةٍ نَافِذَتَهَا
المُغْلَقَةِ بِإِحْكَامٍ كَمَا لَوْ أَنَّهَا تُحَاوِلُ اقْتِحَامَ غُرْفَتِهَا
الَّتِي تُخَبِّىءُ فِيهَا أَلْعَابَهَا المُفَضَّلَةَ وَدُمَاهَا الْجَمِيلَةَ,
مِثْلَمَا تَسْعَى جَاهِدَةً لِتُكَسِّرَ أَغْصَانَ حَدِيَقتِهِمْ, بَلْ
وَلِتَقْتَلِعَ أَشْجَارَهَا الَّتِي لَطَالَمَا سَقَتْهَا وَاعْتَنَتْ بِهَا
أَيَّمَا عِنَايَةٍٍ, وَلرُبَّمَا تَوَدُّ هِذِهِ الرِّيْحُ الْهَائِجَةُ أَيْضَاً
لَوْ تَقْلِبُ هَذَا السُّورَ الَّذِي بَنَاهُ وَالِدُهَا بِجُهْدٍ وَعَنَاءٍ
كَبِيرَينِ.
فَجْأَةً..
اِنْتَفَضَتْ رَنْدٌ وَخَرَجَتْ إِلَى الْحَدِيقَةِ غَيْرَ آبِهَةٍ بِغَضَبِ
الرِّيحِ وَزَمْجَرَتِهَا... وَمَا هِيَ إَلاَ أَنْ رَجَعَتْ بَعْدَ قَلِيلٍ
فَقَطْ, وَيَدَهَا مَلأَى بِعُصْفُورٍ مَذْعُورٍ, قَدْ لَطَمَتْهُ الْعَاصِفَةُ
فَأَرْدَتْهُ جَرِيحَاً عَلَى أَرْضِ الْحَدِيقَةِ.
سَأَلَتْهَا أُمُّهَا
الَّتِي قَدْ خَرَجَتْ لِتَوِّهَا مِنَ الْمَطْبَخِ:
ـ كَيْفَ اصْطَدْتِ
هَذَا الْعُصْفورَ يِا رَنْدٌ؟
أَجَابَتْ رَنْدٌ
بِشَفَقَةٍ وَدِفَاعٍ:
ـ أَنَا لَمْ
اصْطَدْهُ يَا أُمِّي, لَكِنَّنِي رَأَيْتُهُ يَرْتَطِمُ بِالْجِدَارِ وَيَسْقُطُ
عَلَى الأَرْضِ مَهِيضَ الْجَنَاحِ.
فَعَادَتْ
وَالِدَتُهَا لِتَسْأَلَهَا مِنْ جَدِيدٍ:
ـ وَمَاذَا
سَتَفْعَلِينَ بِِهِ؟
أَجَابَتْ رَنْدٌ
بِعَزْمٍ وَثِقَةٍ:
ـ سَأُدَاوِيهِ
وَأُدَارِيهِ, وَأُطْعِمُهُ وَاَسْقِيهِ, حَتَّى يَشْفَى جُرْحُهُ وَيَسْتَرِدَّ
قُوَّتَهُ.
وَالَّذِي حَصَلَ..
أَنَّ رَنْدَاً
أَحْبَّتِ الْعُصْفُورَ, وَأَحْبَّ الْعُصْفُورُ رَنْدَاً؛ وَهِيَ الَّتِي رَاحَتْ
تُغْدِقُ عَلَيْهِ مِنْ فيَْضِ مَحَبَّتِهَا وَدِفءِ عَطْفِهَا وَسَخَاءِ يَدِهَا
قَدْرَ مَا تَسْتَطِيعُ...
كَانَتْ فِي
الصَّبَاحِ قَبْلَ ذَهَابِهَا إِلَى الْمَدْرَسَةِ تُقَدِّمُ لَهُ بَيْضَةً
مَسْلُوقَةً, وَفِي الظَّهِيرَةِ بَعْدَ عَوْدَتِهَا قَمْحَاً مَجْرُوشَاً, وَفِي
المَسَاءِ خُبْزَاً مَدْقُوقَاً, وَفِي الْعَشِيَّةِ ذُرَةً مَنْقُوعَةً.. كَمَا
أَنَّهَا كَانَتْ تُبْدِلهُ مَاءً صَافِياً مَعَ كُلِّ وَجْبَةٍ, وَتُعَقِّمُ
جُرْحَهُ باْلقُطْنِ وَالْكُحُولِ لِتَذْرُو عَلَيْهِ مَنْ بَعْدِهَا مَادَةً
بَيْضَاءَ أَعْطَتْهَا إِيَّاهَا وَالِدَتُهَا.
ِوَمَا بَرِحَتْ رَنْدٌ ذَاكَ شَأنُهَا حَتَّى
سُرَّتْ سُرُورَاً عَظِيمَاً عِنْدَمَا تَأَكَّدَتْ مَعَ وَالِدَيْهَا أَنَّ
جُرْحَهُ قَدْ طَاَبَ.. لَكِنَّ نَفْسَهَا الَّتِي أَلِفَتْ هَذَا العُصْفُورَ
لَمْ تَسْخُوَ أَنْ تُطْلِقَهُ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَأْذَنَتْ وَالِدَيْهَا لِتُبْقِيَهُ
مُدَّةً أَطْوَلَ؛ لاَ سِيَّمَا وَأَنَّهَا كَانَتْ تَشْعُرُ أَنَّ الْعُصْفُورَ
يُبِادِلُهَا نَفْسَ الشُّعُورِ.
وَبَعْدَ أنْ نَالَتْ
مُوافَقَةَ وَالدَيْهَا؛ بَالَغَتْ رَنْدٌ بِمَوَدَتِهَا وَعَطْفِهَا عَلَى
الْعُصْفُورِ, وَزَادَتْ لَه مِنْ الْوَجَبَاتِ لِدَرَجَةِ أَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْ
عَنْ نَوْعٍ مِنَ الْحُبُوبِ, أَوْ تَقْرَأْ عَنْ لَوْنٍ مِنَ الأَطْعِمَةِ
الشَّهِيَةِ لِلعَصَافِيرِ إِلا وَقَدَّمَتْهَا عَلَى مَائِدَةِ حُبِّهِا
وَكَرَمِهَا.
لَكِنْ لِكُلِّ
شَيْءٍ نِهَايَةٌ..
فَفِي يَوْمِ
الْفِرَاقِ كَانَتِ الْكَآبَةُ تَجْثُمُ عَلَى مُحِيَّا رَنْدٍ, وَالْحُزْنُ
يَعْصِرُ فُؤَادَهَا, وَالْدُمُوعُ تُبَلِلُ مُقْلَتَيْهَا, وَبِحُضُورِ أَهْلِهَا
خَرَجَتْ إِلَى الْحَدِيقَةِ, وَبَيْنَ يَدَيْهَا الرَّقِيَقَتِينِِ صَدِيقُهَا
الْجَمِيلُ.
قَالَ وَالِدُهَا
مُشَجِّعَاً:
ـ هَيَّا يَا
رَنْدُ.. رُدِّيهِ إِلَى الْفَضَاءِ الْرَّحْبِ الَّذِي أَلْقَى بهِِ إِلَيْكِ.
وَابْتَسَمَتْ لَهَا
أُمُّهَا مُشَجِّعَةً, فَاسْتَأْنَسَتْ بِابْتِسَامَتِهَا, وَاسْتَمَدَتْ مِنْهَا
عَزِيمَةً جَعَلَتْهَا تُلْقِيهِ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ تُخَاطِبُهُ:
ـ لا تَنْسَ
صَدِيقَتُكَ رَنْدَاً.. وَعُدْ لِزِيَارَتِنَا فِي كُلِّ حِيْنٍ.
رَفْرَفَ
الْعُصْفُورُ وَطَارَ لِبِِِضْعَةِ أَمْتَارٍ, ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَهُوَ
يِنْظُرُ بِاتِجَاهِ رَنْدٍ بِأَنْفَاسٍ لاهِثَةٍ.
فَرِحَتْ رَنْدٌ
لأنَّ الْعُصْفُورَ لَمْ يُفَارِقْهَا وَقَالَتْ:
ـ أَرَأَيْتَ يَا
أَبِي أَنَّ الْعُصْفورَ قَدْ اسْتَطَابَ الْعَيْشَ عِنْدِي, وَلا يُرِيْدَ أَنْ
يَتْرُكَ صَدَاقَتِي؟!
لَكِنَّ أَبَاهَا
كَانَ لَهُ رَأيٌ آخَرُ..
ـ إِنَّكِ يَا رَنْدُ
قَدْ أَضْرَرْتِ بِهِ مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِينَ.. فَقَدْ أَطْعَمْتِهِ كَثِيرَاً
حَتَّى سَمِنَ, وَاحْتَفَظْتِ بِهِ لُمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ حَتَّى ضَمُرَتْ عَضَلاتُ
جَنَاحِيهِ فَمَا عَادَتْ قَادِرَةً عَلَى حَمْلِ وَزْنِهِ الزَّائِدِ.
فَهِمَتْ رَنْدٌ مَا
قَالَ وَالِدُهَا, فَحَزِنَتْ إِذْْ أَسَاءَتْ لِلعُصْفُورِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
سَأَلَتْ وَالِدَهَا
وَهِيَ وَاجِمَةٌ:
ـ مَا الْعَمَلُ
إِذَنْ يَا أَبِي؟
فَأَجَابَ
وَالِدُهَا:ـ لا تَخَافِي يَا رَنْدُ.. فَالْعَصَافِيرُ مِثْلُنَا نَحْنُ
الْبَشَرُ؛ إِذَا مَاْ أَكَلْنَا كَثِيرَاً فَإِنَّنَا نَسْمَنُ. وَعَضَلاتُنَا تَتعَبُ
وَيَنْتَابُهَا الضُّمُورُ إِذَا لَمْ نُحَرِّكْهَا, حَتَّى أَنَّ حَرَكَتَنَا
تَصِيرُ ثَقِيلَةً.. وَنُصْبِحُ أَكْثَرَ عُرْضَةً لأَنْ تَغْزُونَا
الأَمْرَاضُ..!!
وَصَمَتَ قَلِيْلاً
لِيَتْرُكَ لَهَا فُسْحَةً تَسْتَوْعِبُ فِيهَا مَا قَالَ. ولَمَّا شَعَرَ
بِثِقَلِ قَوْلِهِ تَابَعَ:
ـ لا تَقْلَقِي..
فَالْحَلُّ أَنْ تُقَلِّلِي الطَّعَامَ الَّذِي تُقَدِّمِيْنَهُ لَهُ,
وَتُطْلِقيهِ كُلَّ يَوْمٍ لِيُدَرِّبَ جَنَاحِيهِ عَلَى الطَّيَرِانِ
وَيِسْتَرِدَ رَشَاقَتَهُ.
فَعَلَتْ رَنْدٌ
كُلَّ مَا قَالَهُ وَالِدُهَا, وَلمّا تَمْضِ إِلا أَيَّامٌ قَلائِلُ؛ وَفِي
إِحْدَى فَتَرَاتِ التَّمْرِينِ حَلَّقَ الْعُصْفُورُ عَالِياً ثُمَّ انْحَدَرَ
إِلَى شَجَرةِ الْكِينْا الْكَبِيرَةِ فِي نِهَايَةِ الْحَدِيقَةِ, وَحَطَّ عَلَى
أَعْلَى أَغْصَانِهَا, وَصَدَحَ صَوتُهُ بِزَقْزَقَةٍ عَالِيِةٍ كَانَتْ
كَتَقْدِيرٍ وَشُكْرٍ لِرَنْدٍ عَلَى كُلِّ جُهُودِهَا وَحَفَاوَتِهَا, ثُمَّ
أَلْقَى بِنَفْسِهِ خَافِقَاً بَجَنَاحِيهِ مُحَلِّقَاً فِي الْفَضَاءِِ الرَّحْبِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق