دبدوب والتمساح
طلال حسن
الحكيم
ــــــــــــــــــ
أويتُ إلى فراشي في وقت متأخر ، لعلها الشيخوخة ، نعم ، إن الشيوخ بهمومهم
وأوجاعهم قلما ينامون .
ولم أكد أغفو ، حتى هزتني طرقات كقصف
الرعد ، ونهضت ملسوعاً ، لا أحد يطرق الباب هكذا إلا .. ، لكن هذا مستحيل ، فالليل
يكاد ينتصف .
وفتحتُ الباب ، يا إلهي ، إنه هو
نفسه .. دبدوب ، وقبل أن أصرخ به ، بادرني قائلاً : جدي ، جاءني اليوم .
وانفجرت غيظاً : أيها الأحمق ، نحن
في منتصف الليل .
وشهقت وقد جحظت عيناي ، وما إن
التقطت أنفاسي ، حتى صحت : جدك ! يا لك من أبله ، إن جدك مات قبل أن تولد بثلاث
سنوات .
وتطلع دبدوب إليّ ، وقال : أعرف ،
أعرف ، لقد جاءني في المنام .
ومددت يدي ، أبحث عن عصاي ، فهي الرد
الوحيد عليه ، أما دبدوب فقد تابع قائلاً : وطلب مني أن أكمل رسالته ، فأنا كما
تعرف .. حفيده .
وتأوهت غيظاً ، فيدي لم تقع على عصاي
، وقال دبدوب : لقد حقق جدي الكثير ، لكنه مات وفي نفسه حسرة ، لقد أراد أن يعرف
عدد اسنان التمساح ، دون جدوى .
ولم أتمالك نفسي ، فصحت بانفعال ،
وأنا أشير بيدي نحو النهر : التمساح هناك ، اذهب وادخل رأسك في فمه ، مثلما فعل
جدك ، وعد أسنانه .
وحدق دبدوب فيّ ملياً ، ثم استدار ،
ومضى نحو النهر ، وهو يقول : لابد أن أكمل رسالة جدي ، مهما كلفني الأمر .
وصفقت الباب بعاف ، وعدت إلى فراشي ،
وأغمضت عينيّ ، إنني متعب ، وأريد أن أرتاح ، وسأرتاح إذا نمت ، لكني لم أنم ،
وكيف أنام ، وهذا المجنون دبدوب ، قد مضى إلى النهر ، ليعد أسنان التمساح ؟
وتقلبت في فراشي ، أيعقل أن يمضي
دبدوب إلى .. ، لا ، لا يمكن ، مهما بلغ من الجنون فلا يمكن .. ، لكن جده فعلها ،
ولم يخرج حيّاً من فم التمساح ، يا إلهي ، يبدو أنني لن أنام الليلة .
الأم
ـــــــــــــــــ
استيقظتُ مبكرة ، وكالعادة لم أجد دبدوب في فراشه ، لابد أنه الآن يلاحق
الفراشات ، ليعد ألوانها وأنواع أجنحتها ، يا للجنون ، إنه لا يعرف العد لأكثر من
خمسة ، ومع ذلك يريد أن يعد كل شيء ، إنها الوراثة ، فجده أيضاً كان مجنوناً بالعد
، وقد انتهى ، وهو يعد أسنان التمساح .
وانتصف النهار ، دون أن يعود دبدوب ،
فساورني القلق عليه ، آه يبدو أن فراشة غريبة قد راوغته ، واستدرجته إلى أعماق
الغابة ، ومن يدري ، لعله ضلّ الطريق .
ونهضتُ مسرعة ، وبحثت عنه في كل مكان
، دون جدوى ، وقصدت أصدقاءه سنجوب وأرنوب وسلحوفة ، وسألتهم عما إذا كانوا قد رأوه
، لكن عبثاً ، فإن أيّاً منهم لم يره اليوم .
ورجعت خائبة إلى البيت ، والشمس تميل
إلى الغروب ، وإذا فكرة تلتمع في ذهني ، يا لحمقي ، كيف غاب هذا عني ؟ وكالسهم
انطلقت نحو بيت .. الدب الحكيم .
ورأيت الحكيم بالباب ، يستند على
عصاه ، مستغرقاً في التفكير ، فأسرعت إليه ، وصرخت : ابني ، ابني دبدوب .
وانتفض الحكيم ، وكاد يهوي على الأرض
، وما إن رآني حتى تمتم : دبدوب !
وصرخت ثانية : إنني أبحث عنه منذ
الصباح .
واتسعت عينا الحكيم ، وتمتم برعب :
يا إلهي ، التمساح .
وفغرت فمي مذهولة ، يبدو أن الحكيم
قد خرف ، فمددت يدي إليه ، وقلت : أيها الحكيم ، إنني أسألك عن ابني .. دبدوب .
وشد الحكيم يده على عصاه ، ومضى يدب
مسرعاً ، وهو يقول : هيا اتبعيني ، سنلحق بدبدوب ، هذا إذا لم يكن قد لحق بجده .
دبدوب
ــــــــــــــــــ
حلّ الليل ، فلأسرع ، لقد تأخرتُ كثيراً ، لابد أن أمي تبحث عني الآن ، آه
لولا القمر لضللت طريقي ، ترى أين تذهب الشمس ليلاً ؟ سألحق بها مرة ، وأعرف سرّها
، وإلا كيف يمكن أن أكون عالماً مثل جدي ؟
يا لجدي العظيم ، لقد عبر النهر ،
واكتشف قارة جديدة ، وتوغل في الغابة ، حتى وصل تخوم الصحراء ، وكاد يعرف عدد
أسنان التمساح ، ولو لم يطبق اللعين فكيه ، و .. ، لكنه سيفرح ، حين سيجيؤني
الليلة في المنام ، ويعلم أنني أكملت رسالته ، وعرفت عدد أسنان التمساح ، وسيأخذني
في أحضانه ، ويهتف فرحاً .. ، وسمعت هاتفاً يصيح : دبدوب .
وخفق فلبي بشدة ، وتسمرت في مكاني ،
وأجبت مرتعداً : نعم ، جدي .
وجحظت عيناي ، وكدت أتهاوى على الأرض
، فقد وقف أمامي شبحان ، وسمعت أحدهما يتمتم قائلاً : يا ويلي ، لقد جن .
يا إلهي ، إن صوته يشبه صوت الحكيم ،
وقال الشبح الثاني : دبدوب ، إنني أمك .
يا لجبني ، إنهما ليسا شبحين ، هذه
أمي ومعها الحكيم ، واندفعت إليهما قائلاً : لقد أكملت رسالة جدي ، وعرفت عدد
أسنان التمساح .
وشهقت أمي صائحة : التمساح !
وفغر الحكيم فاه ، ثم تأتأ مرتعباً :
لا تقل إنك أدخلت رأسك في ..
وابتسمت قائلاً : لا ، صديقي هو الذي
دخل ..
وقاطعني الحكيم متسائلاً : وخرج !
فأجبته : طبعاً .
وتساءل الحكيم ثانية : من يكون صديقك
الأحمق هذا ؟
فهتفت مبتسماً : الزقزاق .
وانفرجت أسارير الحكيم ، وأضاءت
ابتسامة مطمئنة وجهه الشائخ ، وقال : أبشر ، يا بنيّ ، ستكون عالماً مجيداً مثل
جدك .
ويبدو أن أمي ، لا تصدق بأني سأكون
عالماً ، فقد أطبقت على يدي ، وشدتني بقوة ، وهي تقول : هيا وإلا انتهيت مثلما
انتهى جدك .
ولذت بالصمت ، وسرت إلى جانب أمي ،
منقاداً لقبضتها ، وراح الحكيم يدب متعثراً وراءنا ، مرتطماً بالأشجار ، فقد اختفى
القمر خلف غيمة حالكة ، وساد الظلام ، وخطف طائر فوقنا ، فاحتضنتمي أمي ، وقالت :
لا تخف ، إنه خفاش .
وتلفت حولي ، إنني لا أرى غير الظلام
، عجباً ، كيف يطير الخفاش ، دون أن يرتطم بالأشجار ؟ هناك سرّ ، ولابد أن أدرس
الخفاش ، وأعرف هذا السرّ ، وإلا .. كيف سأكون عالماً مثل جدي ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق