لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



السبت، 14 يناير 2012

"حلم جديد.." قصة للأطفال بقلم: خلود البوسعيدي

حلم جديد..
خلود البوسعيدي*
حملت سلمى ذاتُ السنواتِ العشرِ دلوها الصغيرَ ومضت تجول به مزارع حارتهم الطيبة، تجمع ما تيسر من حبات التمر المتساقطِ تحت أشجارِ النخيلِ الباسقة، كانت قد اعتادت أن تفعل ذلك كل صباحٍ مع أمها أحيانًا وبمفردها أحيانًا أخرى، وكثيرًا ما كانت تملأ الدلو وتكابدُ عناء حملهِ لبيتهم الصغير لتعود به فارغًا إلى المزارع مرة أخرى، وتبذل جهدًا مضاعفًا حتى تملأه قبل أن تلسعها أشعة الشمس الحارقة في فصل الصيف القاسي!
انحنت لتلتقط حبات التمر المنغرسةِ في التربةِ من أثر السقوط وقد اختلط بعضها بنبات الأرض، غير أنها توقفت عن ذلك للحظة حين جال بخاطرها سؤالٌ تنتظر معرفة جوابه منذ أيام.. متى ستذهب مع أمها لشراء أدوات وملابس المدرسة؟؟
لم يتبق من الإجازةِ سوى أيامٍ معدودة والمدرسة ستعاود فتح أبوابها من جديد.. كم تحب المدرسة وتشتاق لملاقاة رفيقاتها بشدة!!
كان هذا السؤال يلحُ على فكرها تدفعه ذكريات أمسها وأحلام غدها الجميل.. ترى هل نسيت أمها موعد بدء الدراسة؟.. ولكن لا.. أمها تعلم الوقت الملائمَ لشراءِ ما يلزمها، من المستحيل أن تنسى ذلك، فقط عليها أن تصبر قليلاً وتكتم رغبتها في اقتناء أدوات المدرسة بسرعة حتى لا تثقل على والديها..
عاودت التقاط حبات التمر بصمت، فتناهى إلى مسمعها جلبة أحدثها أطفال يسيرون في الشارع القابع خلف جدران المزرعة، فهمت منها أنهم متجهون لتعلم قراءة القرآن عند أحد الشيوخ في حارتهم... كانوا يضحكون ويتحدثون بصوت مرتفع!
تنهدت بعمق.. لماذا يجب عليها أن تكون هنا في حين أن غيرها من الأطفال يلعبون كيفما يشاءون؟؟
نفضت ذلك عن رأسها وتعجلت العودةَ إلى البيت، ربما ستجد أمها تنتظرها لتخبرها بما تفكر فيه! جمعت ما استطاعت من حبات التمر وعادت أدراجها إلى بيتهم وهي تسير عبر المزارع التي تحيط بحارتهم تارةً وعبر طرق الحارةِ المغمورةِ بالتراب تارة ً أخرى، حتى إذا ما بلغت باب بيتهم كان الإرهاقُ قد بلغ منها مبلغه وغطى التراب وجهها، وزينت حشائش المزرعة ملابسها..
ولجت من باب بيتهم الخشبي المتهالك، واتجهت من فورها لتصعد درجات منزلهم المنحدرة محاذرة السقوط، وما إن وصلت لسطح منزلهم حتى رمت ما بالدلو عليه وتوقفت لدقيقة كاملة لكي تلتقط أنفاسها المتقطعة، تأملت فيها أشعة الشمس التي جعلت ترمي التمر بحرارتها الحارقة! نزلت بسرعة واندفعت تبحث عن أمها وقبل أن يرتفع صوتها مناديًا تناهى إلى مسمعها صوت أمها تحدث إحدى جاراتهم، دنت من مجلسهم وسمعت جارتهم تسأل أمها قائلة: ماذا عن سلمى هل جهزتها للمدرسة؟
خفق قلب سلمى عندما لم تسمع من أمها ما يؤيد أحلامها الصغيرة.. أصغت وهي تكتم أنفاسها حتى تستطيع أن تلتقط كلَ ما يدور في الداخل، وتبينت من حديث أمها الهامس الخجول قولها: لا املك ما أجهزها به ولا والدها يملك أكثر مما نستعين به على مأكلنا ومشربنا.. يكفيها ما تعلمته حتى الصف الرابع!!
ومع آخر حروف كلماتها كان الدمع قد ملأ عيني سلمى ولم تستطع أن تسمع محاولات جارتهم لإقناع أمها بالتخلي عن هذه الفكرة.. جرت لغرفتها وارتمت على فراشها لتغمر وسادتها بفيض من الدموع المتألمة!!
ـ ـ ـ
صعدت أمها قبل الغروب لسطح منزلهم حتى تعاين التمر الذي أنهى موعده مع أشعة الشمس، ووجب وضعهُ في أكياس خاصة، نادتها فصعدت سلمى وقد خبت همتها وكادت نبضات قلبها المشتاقةُ لأرجاء المدرسة أن تتوقف... ساعدت أمها بصمت لم يغب عن عين أمها البصيرة وعن قلبها العطوف... فحاولت أن تسليها ببعض الحكايات التي وجدت طريقها إلى قلب سلمى فبدأت تتجاوب معا كأي طفل صغير تجذب هذه الأقاويل انتباهه وتستولي على وجدانه..
استغلت سلمى جو المرح الذي ساد بينهما وفكرت في محاولةٍ أخيرةٍ تطلب فيها من أمها بصريح العبارة أن تأخذها إلى المكتبة لشراء ما ترغب فيه، استجمعت شجاعتها وبعدد لحظات تردد قالت:أمي..
التفتت إليها الأم فأردفت وهي تتحاشى النظر إلى عينيها: متى سنذهب لشراء ما يلزمني للمدرسة؟؟
ثم تابعت بسرعة بنبرة مرحة: لم يتبق غير بضعة أيام عنها!!
حارت الأم الطيبة في جوابها لم ترغب في أن تؤذي أحلام ابنتها المتفوقة في دراستها، ولا أن تثقل عليها بهمّ فقرهم وحاجتهم... مسحت وجهها بيدها بألمٍ وقالت لها بلين: قريبًا إن شاء الله.. سأخبر والدك ونذهب برفقته..
أدركت سلمى أن ما قالته أمها لمجرد إلهائها عن واقع الأمر، وأن المدرسة ستغدو بعد أيامٍ مجرد حلم بعيد.. أخفت حزنها عن أمها.. وتبسمت!
مضى يومٌ وآخر.. وسمعت سلمى أحاديث بنات الحارة الصغيرات عن أغراضهن الجديدة وحقائبهن الجميلة، حدثتهن هي الأخرى عن أدوات خيالية اشترتها لها أمها مدارية بذلك شعورًا بالنقص ألم بنفسها الصغيرة..!
لم تعلم أن صديقاتها في الحارة كنّ يتهامسن بأن أمها لن تسمحَ لها بالذهاب للمدرسة هذا العام، ولو علمت لما جشمت نفسها مرارة الكذب!
ـ ـ ـ
بعد غدٍ تبدأ الدراسة.. واللعب مع الرفاق..
بدأ اليأس يلامس قلب سلمى الصغيرة، هي لا تصدق أنها لن تذهب إلى المدرسة مجددًا.. لن ترى صديقاتها اللواتي يقطنّ في مناطق بعيدةٍ عنهم.. ترى هل سيزرنها؟؟
لن ترى معلماتها اللواتي اعتدنَ الثناء عليها وإغراقها بالهدايا الجميلة.. لن يمنحها أحدهم هديةً بعد اليوم!!
كثيرة هي الدموع التي سالت من محجرها.. كثيرة هي الخيالات التي طافت بفكرها..
سألت أباها أن يشتري لها حقيبة جديدة وملابس للمرحلة القادمة.. لم يستطع أن يلبي رغبتها هنالك ديونٌ كثيرة تقع على عاتقه، سمعته يقول لأمها أن تقترض بعض المال من إحدى جارتها المقتدرات، وسمعتها تجيبه أن عليها حقًا لها ولا تستطيع تحمُلَ المزيد...
غدًا تبدأ المدرسة.. واللعب مع الرفاق..
أدركت سلمى ألا أمل فيما ترغب به نفسها فآثرت الصمت،و أزمعت على أن لا تثقل على والديها.. ستزور صديقاتها حتى تتعلم معهنَ لن يرفضن ذلك!..
ذهب إلى أمها عند العصر، قالت لها: أنا لست حزينة لأني لن أذهب للمدرسة، ستعلمينني كيف أرعى البيت وأطبخ لأبي صحيح.. أنا سعيدة بذلك..
وتبسمت في حين لمعت دمعة في عين أمها..مرّت لحظات صمت ثقيلةٍ بينهما،و لم تستطع سلمى أن تدرك ما جال بخاطر أمها خلال تلك اللحظات.. حاولت أن تقول شيئًا، إلا أنها فوجئت بأمها تقوم بسرعة وهي تحمد الله وتدعوه، التفتت سلمى صوب الناحية التي تعلق ناظري أمها بها.. كانت هناك شاحنة كبيرة تقترب ببطء من منزلهم..!
جاء أبوها مسرعًا إثر نداء أمها له، لم تستوعب سلمى ما يحدث.. وقفت الشاحنة أمام منزلهم وتحدث والدها مع صاحب الشاحنة قليلاً واتفقا على شيء لم تتبينه من مكانها..ثم جعلا يحملان تلك الأكياس التي وضع التمر الجاف المتصلب من أشعة الشمس بها ويضعانه في شاحنة الرجل.. باعوا ستًا منها..
عندما غادر الرجل كانت أم سلمى مستمرة في ترديد الحمد والشكر، قال لهما أبوها وهو ينفس عما في صدره من ضيق وهمّ: الحمد لله لقد ارتفع سعره لكثرة طلبه هذه الأيام كعلفٍ للحيوانات..
ثم التفت لابنته الصغيرة وقال بسرور: الآن سنذهب لشراء ما تحتاجينه من أدوات المدرسة..!!
لم تتمالك سلمى نفسها عندما سمعت تلك العبارة فصرخت بسعادة غامرة، وارتمت بين يدي أمها، وعندما امتدت يدُ والدها تربّت على رأسها شعرت بندمٍ يتسلل إلى نفسها.. لماذا تأففت من جمع حبات التمر؟! ها هي ذي تمنحها فرصة للذهاب إلى المدرسة بعد أن كادت تفقد الأمل من ذلك.. تهبها فرصة لكي تحلم حلمًا جديد...
أغمضت عينيها وأراحت رأسها على صدر أمها وقد أيقنت أن النخلة لا تتخلى عمن يعتني بها.. هكذا فطرت وهكذا ستظل!!

*سلطنة عمان

ليست هناك تعليقات: