المدينة الحلم
بقلم: طلال حسن
" 1"
ـــــــــــ
طوال النهار، ظلت مدينة النمل ، تعجّ بالحركة ، فبالإضافة إلى النملات
الخادمات ، والنملات اللاتي يجمعن الطعام ، ويأتين به من الخارج ، كانت عساكر
الأسياد ينقلون مئات ، بل آلاف الشرانق ، من أماكن مجهولة ، ويضعونها في غرف سرية
خاصة .
وكانت الخادمات ، وجامعات الطعام ، يغضضن من أبصارهن ، إذا صادفن العساكر ،
في ممرات المدينة ، والويل لمن يدفعها الفضول ، أو الحمق ، إلى التطلع إليهم ، وهم
ينقلون تلك الشرانق ، ويغيبونها في الغرف السرية الخاصة .
وقبل الظهر ، عادت مجموعة من جامعات الطعام ، كانت بينهن النملتان " ا
" و " ب " ، وقد حملت كل منهما حبة قمح .
وتوقفت النملة " ب " ، حين رأت إحدى عساكر الأسياد، تحمل شرنقة ،
فدفعتها النملة " متمتمة : تحركي، أيتها الحمقاء .
وتحركت النملة " ب " ، وهمت أن تلتفت إلى حاملة الشرنقة ،
فدفعتها النملة " أ " ثانية ، وقالت : امشي ، هذا لا يعنيك .
ومشت النملة " ب " مدمدمة ، تتقدم النملة " أ " بخطوات
، حتى دخلتا مخزن الطعام وألقت النملة " ب " حبة الحنطة ، التي تحملها ،
فوق الحبوب ، وقالت : إنها المرة الثالثة أو الرابعة ، التي أرى فيها العساكر ،
يأتون بمثل هذه الشرانق ، من الخارج .
وقاطعتها النملة " أ " قائلة : أيتها الحمقاء ، فكري ، هذه
الشرانق هي نحن .
والتفتت النملة " ب " إليها ، ولم تنطق بكلمة ، فقالت النملة
" أ " : لقد ولدنا هنا ، من شرانق جاءت بها عساكر الأسياد ، من مدن نمل
مختلفة ، وجعلوا منا عبيداً لهم ، تخدمهم ، وتعمل نيابة عنهم ، وتطعمهم .
وتلفتت النملة " أ " حولها ، ومضت إلى خارج المخزن ، وهي تقول :
هيا ، علينا أن نستمر في العمل ، حتى آخر النهار ، وإلا فالويل لنا .
ودمدمت النملة " ب " غاضبة ، وسرعان ما انطلقت في إثر النملة
" أ " .
" 2 "
ــــــــــــــ
أفاقت النملة " أ " من النوم ، قبل شروق الشمس ، ولاحظت أن
رفيقتها " ب " مازالت تغط في النوم ، فنهرتها برفق قائلة : أفيقي ، يا
عزيزتي ، أفيقي .
وردت النملة " ب " ، دون أن تتحرك ، أو تفتح عينيها : دعيني أنم
قليلاً .
واعتدلت النملة " أ " ، وقالت : انهضي ، يا عزيزتي ، الجميع
يتأهبن للخروج .
وفتحت النملة " ب " غينيها ، وتطلعت حولها ، ثم قالت : لابد أن
عساكر الأسياد سيأتون بشرانق أخرى اليوم .
وردت النملة " أ " بمرارة قائلة : ربما ، فهم بحاجة دوماً إلى
خادمات وعاملات يجمعن الطعام من الخارج ، ويقدمنه إليهن .
واعتدلت النملة " أ " حولها ، وقالت : لا ترفعي صوتك، فلعسكر
الأسياد جواسيس من بيننا ، يراقبوننا باستمرار .
وهنا ارتفع صوت أجش ، لإحدى العساكر ، تصيح : هيا، حان وقت العمل ، أسرعن .
وأسرعت النملة " أ " نحو صفوف العاملات ، المتدافعات إلى الخارج
، وهي تلوح للنملة " ب " قائلة : إلى اللقاء اليوم ، إلى اللقاء .
وتلفتت النملة " ب " حولها ، ولوحت متمتمة : إلى اللقاء ، إلى
اللقاء .
وسرعان ما اندست هي الأخرى ، في صفوف العاملات ، المتدافعات إلى الخارج .
" 3 "
ـــــــــــــــ
خرجت النملة " أ " من
المدينة ، وانسلت بعيداً عن العاملات ، اللاتي تفرقن لجمع الطعام ، ومضت كالعادة
إلى مرتفع منعزل معشب ، يطل على البركة .
وحثت السير متوجسة ، حذرة ، فهذه المنطقة تعج بالضفادع والسحالي والطيور ،
التي غالباً ما تهاجم النمل ، وتفتك به .
وتوقفت مذعورة على مقربة من أعلى المرتفع ، وسارعت بالاختباء وراء إحدى
الصخور ، حين تناهت إليها ، صيحات رعب واستغاثة ، صادرة عن مجموعة من النمل .
ورأت من مخبئها ، نملة تقبل مسرعة ، وقد استبد بها الخوف ، فأشارت لها
بيدها ، ونادتها قائلة : أيتها النملة ، تعالي
، المكان هنا آمن .
وأسرعت النملة ، وتوقفت إلى جانبها ، خلف الصخرة ، وقالت لاهثة : السحلية
اللعينة التهمت رفيقاتي، وهربتُ منها بأعجوبة ، ولابد أنها تبحث عني الآن .
وأطلت النملة " أ " برأسها ، من وراء الصخرة ، وتطلعت حولها بحذر
، ثم قالت : اطمئني ، ليس للسحلية من أثر .
وتنفست النملة الصعداء ، وقالت :
سألقى هنا حتى أرتاح ، ثم أعود إلى المدينة .
وتطلعت النملة " أ " ، ثم قالت : لم أكن أظن ، أن أحداً غيري ،
يمكن أن يأتي ، إلى هذا المكان المنعزل .
فردت النملة قائلة : هذه هي المرة الأولى ، التي نأتي فيها إلى هنا ، وقد
دفعنا ، كما رأيت ، الثمن غالياً .
وهزت النملة " أ " رأسها ، وقالت : لا عجب أن نأتي إلى هنا
أحياناً ، فحياتنا صعبة للغاية ، نحن عبيد ، وأسيادنا في منتهى القسوة .
وحدقت النملة فيها مندهشة ، وقالت : عبيد ! ماذا تقولين؟ يبدو أنك من مدينة
أخرى غير مدينتنا ، فنحن أحرار في مدينة حرة ، تقع في مشرق الشمس .
ولاذت النملة " أ " بالصمت ، فأطلت النملة برأسها من وراء الصخرة
، وتلفتت يميناً ويساراً ، ثم مضت ملوحة، وهي تهتف : وداعاً ، يا رفيقي ، وداعاً .
" 4 "
ـــــــــــــ
رقدت النملة " ب " إلى
جانب رفيقتها النملة " أ " متكورة على نفسها ، وأغمضت عينيها ، وقالت
بصوت متعب ناعس : سمعتُ اليوم إحداهن تقول عنك ، أنك تلعبين بالنار .
وردت النملة " أ " ، وعيناها تحدقان في الظلام : النار هي ما نحن
فيه ، يا عزيزتي .
وتابعت النملة " ب " قائلة : يقال أنك تتسللين من بين العاملات ،
وتمضين لسبب ما باتجاه البركة .
ويبدو أن النملة " أ " ، لم تكن تصغي إليها ، فقد قالت بصوت حالم
: لو تعلمين بمن التقيت اليوم عند البركة .
وبدل أن ترد النملة " ب " عليها ، تابعت قائلة : أخشى أن يصل هذا
الأمر إلى عساكر الأسياد ، فيعاقبونك عقاباً شديداً .
واستطردت النملة " أ " بصوتها الحالم : التقيت بنملة رائعة ، من
مدينة غير مدينتنا .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : تصوري ، إن جميع النمل ، يعيشون أحراراً ، في تلك
المدينة .
وفتحت النملة " ب " عينيها ، وقد طار منهما النوم ، وقالت : إذا
كان ما تقولينه ليس حلماً من أحلامك ، فهذه هي .. المدينة الحلم .
وأغمضت النملة " أ "
عينيها ، وقالت : نعم ، يا عزيزتي ، هذه هي .. المدينة الحلم .
وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، في حين ظلت النملة " ب "
مستيقظة تفكر في .. المدينة الحلم .
" 5 "
ـــــــــــــــ
لم تنم النملة " ب
" تلك الليلة ، إلا في وقت متأخر ، فقد أرّقها التفكير في ما قالته النملة
" أ " عن .. المدينة الحلم .
واستيقظت مبكرة ، صباح اليوم التالي ، وزحفت مقتربة من النملة " أ "
، وهمست لها : اسمعي ، لقد فكرتُ طويلاً في ما قلته البارحة .
وفتحت النملة " أ " عينيها ، وحدقت فيها متسائلة ، فقالت : لنذهب
اليوم إلى البركة .
وردت النملة " أ " محذرة : لا يا عزيزتي ، إن تلك المنطقة خطرة ،
مليئة بالضفادع والسحالي والطيور .
وهزت النملة : ب " رأسها ، وقالت : مهما يكن ، يجب أن نذهب .
وقبل أن ترد النملة " أ " بشيء ، ارتفع الصوت الأجش آمراً : هيا
، حان وقت العمل ، أسرعن .
ونهضت النملتان " أ " و " ب " ، واندفعتا مع التيار ،
المتدفق إلى الخارج ، وتسللتا من بين النملات ، اللواتي تفرقن في جميع الجهات ،
ومضتا مسرعتين إلى المرتفع المعشب ، المطل على البركة .
وصعدتا إلى أعلى المرتفع ، وراحتا تتأملان ما حولهما من مياه وتلال وحقول
تمتد حتى الأفق ، وتوقفت النملة " أ " ، وأشارت بيدها إلى مشرق الشمس ،
وقالت : المدينة الحلم تقع في مكان ما هناك .
وتطلعت النملة " ب " إلى حيث تشير ، ثم قالت : هذا يعني أنني لو
سرت على هذا الطريق ، لوصلت تلك المدينة .
وردت النملة " أ " متمتمة : ربما .
ولكنها صمتت خائفة ، حين لمحت بريقاً غريباً يشع من عيني النملة " ب
" ، ثم خاطبتها قائلة : حذار ، هذا طريق شديد الخطورة .
وغمغمت النملة " ب " ، دون أن ترفع عينيها المتبارقتين عن مشرق
الشمس : لكنه قد يؤدي إلى .. المدينة الحلم .
" 6 "
لاذت النملة " ب "
بالصمت " طوال ساعات النهار، بل إنها لم تنطق بكلمة ، حتى عندما اضطجعت
متكورة على نفسها ، وتظاهرت بالنوم .
وحاولت النملة " أ " عبثاً ، جرها إلى الكلام ، لعلها تخفف عنها
، أو تصرفها عما يشغل تفكيرها .
واستيقظتا في اليوم التالي ، على الصوت الأجش ، يأمر الجميع : هيا ، حان
وقت العمل ، أسرعن .
ونهضتا مسرعتين ، واندستا في تيار النمل ، المندفع إلى الخارج ، ورغم
التزاحم والتدافع الشديدين ، حرصت النملة " أ " على أن لا تدع النملة
" ب " ، تغيب عن أنظارها .
وتوقفت النملة " أ " خارج المدينة ، وقد أطبقت على يد النملة
" ب " ، وقالت : عزيزتي ، لنعمل اليوم ضمن الجموع ، وإلا انتبه إلينا
عساكر السادة .
وردت النملة " ب " ، وعيناها تتلامعان : دعك من العساكر ، لنهرب
، ونمض ِ إلى المدينة الحلم .
واحتدت النملة " أ " قائلة : هذا جنون .
فردت النملة " ب " : تعالي عسى أن نصل مدينة الحلم ، وإلا فلن
نخسر سوى قيودنا .
وشدت النملة " أ " على يدها بقوة ، وقالت : لا ، لن أدعك تذهبين
، سيلحقون بك ، ويقتلونك .
ورغم ترددها ، عادت النملة " ب " إلى العمل مع النملة " أ
" ، وحملت كل منهما حبة قمح ، وقفلتا عائدتين مع حشود النمل .
ولاحت المدينة من بعيد ، وبدت للنملة " ب " وكأنها وحش كاسر ،
يكشر عن أنيابه القاتلة ، فرمت حبة القمح جانباً ، وتراجعت مغمغمة : كلا ، لن أبقى
بعد اليوم في الجحيم .
وحاولت النملة " ب " ، أن تلحق بها ، وتثنيها عن عزمها ، دون
جدوى ، فقد مضت النملة " ب " ، تشق طريقها عكس التيار ، حتى اختفت بين
حشود النمل .
" 7 "
ــــــــــــــ
حلّ الليل ، وعادت جميع النملات إلى
المدينة ، عدا النملة " ب " ، واضطجعت النملة " أ " متكورة في
مكانها ، وأغمضت عينيها متظاهرة بالنوم ، وتراءى لها، وهي بين النوم واليقظة ، أن
أكثر من نملة ، ترمقها خلسة ، ثم ترمق مكان رفيقتها " ب " ، الذي ظل
شاغراً، على غير العادة .
وهزها الصوت الأجش : أيتها النملة ..
فردت النملة " أ " مرعوبة : نعم ، نعم ، سيدي .
وتساءل الصوت الأجش بنبرة تهديد : أين رفيقتك ؟
وأجابت النملة " أ " بصوت مرتعش : لا أدري ، صدقني يا سيدي ، لا
أدري .
وارتفع الصوت الأجش ، وصداه يترجع في الظلام : نحن ندري ، انهضي ، وسترين .
وانتبهت النملة " أ " مذعورة إلى ضجيج ارتفع عند مدخل المدينة ، وسمعت العديد من
رفيقاتها ، يتهامسن مشفقات : جاءوا بها ، جاءوا بها .
ولاحت من بعيد مجموعة من عساكر الأسياد ، يجرجرون النملة " ب " ،
التي تكاد تتهاوى على الأرض ، وجسمها الغض مثخن بالجراح .
وأقبلت واحدة من العساكر ، وصاحت بالعساكر ، الذين يجرجرون النملة " ب
" : جيئوا بها ، الملكة تنتظرها ، وستدفع ثمن فعلتها غالياً .
ودفعت إحدى أفراد العساكر النملة : ب " ، وصاحت : تحركي ، ستكونين
اليوم عبرة لمن يعتبر .
ومرت النملة " ب " ، والعسكر يجرجرونها بعنف ، والتفتت ناظرة إلى
النملة " أ " ، دون أن تتفوه بكلمة ، وظلت تنظر إليها حتى غاب بها
العساكر ، في نهاية الممر المظلم .
" 8 "
رقدت النملة " أ "
متكورة على نفسها ، وأغمضت عينيها الغارقتين بالدموع ، بعد أن تلاشى الضجيج شيئاً
فشيئاً ، وساد المدينة صمت كصمت القبور .
وظلت مستيقظة طول الليل ، وظلت رفيقتها " ب " مستيقظة في داخلها
، طول الوقت ، وتراءى لها ، كما في الحلم ، أنهما تعملان .. تلهوان .. تتحاوران ..
وتختلفان حد الغضب والضحك .
وخلال كلّ ذلك ، رأتها مراراً ومراراً ، والعساكر يجرجرونها ، بجسمها الغض
، المثخن بالجراح ، إلى الملكة ، المسكينة ، لقد أرادت ، بتأثير منها هي ، الهرب
من الجحيم ، وهاهي قد انتهت في الجحيم .
وعند الفجر ، وقبل أن يفيق أحد ، نهضت النملة " أ " ، وتسللت
هاربة من المدينة ، وسارت مع أولى أنفاس الفجر ، بعيداً عن الجحيم ، صوب مشرق
الشمس ، حيث .. المدينة الحلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق