السلحفاة الخطافة
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــــ
منذ الصباح ، والظربان يقف
وراء شجرة ضخمة ، تطل على البركة ، وعيناه لا تغفلان لحظة عن كل ما يدب على الشاطئ
.
ولمح الثعلب العجوز ، يخطف مرات بين الأشجار ، القريبة من الشاطئ ، وفكر :
أهو يبحث عما أبحث أنا عنه ؟ من يدري .
وقبيل الظهر ، تناهى إليه وقع أقدام ثقيلة ، وخمن أنها العمة دبة ، فلا أحد
يهز الأرض هكذا غيرها . وكان تخمينه صائباً ، فقد أقبلت العمة دبة ، حاملة سلتها ،
وبطنها تختض ، مثل القربة .
وتوقفت العمة دبة على مقربة منه ، وقالت بحنق : أهذا أنت ؟ الويل لك ستنهشك
هذه السلحفاة ، ذات يوم ، ولا تبقي منك أي شيء .
فرد الظربان قائلاً : يفترض أنك أول من يتصدى لها ، ويقضي على نسلها ، فقد
نهشتك مرة ، وكادت تقطع ساقك .
وقالت العمة دبة منزعجة : ربما كان الذنب ذنبي ، فأنا فضولية ، وقد أردت أن
أتفحصها عن كثب .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : أنصحك أن تذهب من هنا ، يا عزيزي ، هيا ، اذهب .
ولاذ الظربان بالصمت ، وذهب مبتعداً ، على مضض ، وأخذت العمة دبة تتابعه
بعينيها الكليلتين ، ثم قالت : رغم رائحته ، فهو ضروري للغابة ، إن غابة بلا ظربان
ليست بغابة ، ترى من قال هذه الحكمة ؟ من
يدري .
" 2 "
ــــــــــــــــــ
انحدرت العمة دبة ، تدب
بأقدامها الثقيلة على رمال الشاطئ ، حتى انتهت إلى حافة البركة . وتوقفت متلفتة ،
فلم ترَ أحداً ، على امتداد الشاطئ ، وهزت رأسها ، إن الجميع يتجنبون هذا المكان ،
خوفاً من السلحفاة الخطافة. وارتفع ، فوق الأشجار ، خفق أجنحة ، ورأت العمة دبة ،
بطة صغيرة ، تحوم مرفرفة ، ثم تحط وسط البحيرة .
وراحت تتأملها ، معجبة بريشها الملون ، المتلامع تحت أشعة الشمس ، وسرعان
ما تذكرت السلحفاة الخطافة ، ففتحت فمها ، وهمت أن تصيح محذرة البطة الصغيرة ،
وإذا الماء يرتج ، وتُجذب البطة الصغيرة إلى الأعماق ، وتختفي في لمح البصر .
وتراجعت العمة دبة مرعوبة ، إنها السلحفاة الخطافة مرة أخرى ، وتهالكت
جالسة تحت إحدى الأشجار. وأطل الظربان من أعلى الشاطئ ، وقال : مسكينة هذه البطة ،
إنها لم تعش طويلاً .
ولاذت العمة دبة بالصمت ، فتابع الظربان قائلاً : سيختفي الأحياء تماماً من
البركة ، وما جاورها ، إذا تكاثرت هذه السلحفاة القاتلة .
والتفتت العمة دبة إليه ، وقالت : أعرف نواياك ، امضِ.
ومضى الظربان مبتعداً ، وهو يدمدم : لابد أن أحمي أحياء هذه المنطقة ،
وسأحميها .
" 3 "
ـــــــــــــــ
نزلت العمة دبة بحذر إلى البركة ،
بعد أن تركت سلتها على الشاطئ . وحاولت جهدها أن تصطاد ، ولو سمكة واحدة ، لكن دون
جدوى .
وشعرت بشيء من التعب ، والانزعاج ، وهمت أن تغادر البركة ، حين ارتفعت ، من
بين الأشجار ، صرخات رهيبة . فهبت ملتاعة ، وقالت : يا ويلي ، لابد أنه الظربان .
وأسرعت مولولة نحو مصدر الصوت ، وإذا بها ترى السلحفاة الخطافة ، برأسها
القبيح البشع ، وذيلها المسنن كالمنشار ، ودرفتها القرنية ، التي نمت عليها بضع من
الطحالب ، تنحدر ببطء نحو البركة ، وفمها وأسنانها ملطخة بالدماء .
وقبل أن تنزل إلى البركة ، توقفت ، والتفتت إلى العمة دبة ، وحدقت فيها
بنظرة ثابتة قاسية ، وتمنت العمة دبة للحظة ، لو أنها لا تكتفي بفعل ما أراد
الظربان فعله ، بل أن تنقض على السلحفاة الخطافة ، وتسحقها بأقدامها الثقيلة .
" 4 "
ــــــــــــ
مرت أيام عديدة ، والعمة دبة ،
تقف طول النهار ، وراء شجرة ضخمة ، تطل على البركة ، مراقبة الشاطئ. لعلها ترى السلحفاة القاتلة ، وتقضي على الحياة
في البركة وما جاورها .
وذات يوم ، وقد انتصف النهار ، لمحتها تخرج من البركة ، بكل قبحها وبشاعتها
، وتراءى لها الظربان ، فتمنت مجدداً لو أنها تنقض عليها ، وتسحقها بأقدامها
الثقيلة .
وزحفت السلحفاة الخطافة ، مبتعدة عن البركة ، وتوقفت عند بقعة رملية جافة ،
وتلفتت حولها ، ربما لتطمئن إلى أن أحداً لا يراقبها . وأخذت تحفر برجليها
الخلفيتين جحراً واسعاً ، وضعت فيه أكثر من عشرين بيضة ، ثم غطتها بتراب ناعم ،
دكته بدرفتها القرنية السفلى ، وقفلت راجعة إلى البركة .
وخرجت العمة دبة من وراء الشجرة ، واندفعت نحو الجحر ، الذي وضعت فيه
السلحفاة النهاشة بيضها ، لتنفذ ما أراده الظربان قبل مقتله . لكنها راحت تتباطأ ،
كلما اقتربت من الجحر ، مراجعة ما صممت
عليه ، وأخيراً توقفت .
واستغرقت في تفكير عميق ، حتى أفاقت على الثعلب العجوز ، يقترب منها قائلاً
: رأيت السلحفاة الخطافة تخرج من هنا ، وتعود إلى البركة .
وأدركت العمة دبة ما يرمي إليه ، إنه لا يريد غير البيض ، فردت عليه بجفاء
: أنا أيضاً رأيتها .
وحدق الثعلب العجوز فيها ، وقال : يبدو لي ، أنها وضعت بيضها في مكان قريب
.
وسكت لحظة ، ثم قال : أنتِ تعرفين ، أكثر مني ، أنها سلحفاة متوحشة ، مؤذية
، وأن بيضها لن يفقس إلا أذى مثلها .
فردت العمة دبة قائلة : أنصحك أن تبتعد عن هذا المكان ، فقد قابلت السلحفاة
الخطافة قبل قليل ، وسألتني عنك .
وتراجع الثعلب العجوز ، وقد اتسعت عيناه رعباً ، وسرعان ما استدار ، ومضى
مسرعاً ، لا يلوي على شيء .
ووقفت العمة دبة حائرة مترددة ، وتراءت لها البطة الصغيرة والظربان ، وإذا
بها تنحني على الرمال ، وتنبش الجحر بغضب وهي تدمدم سحقاً للسلحفاة الخطافة وبيضها
التي لا تفقس غير سلاحف خطافة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق