الثلاثاء، 8 مايو 2018

"المدينة الحلم " قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



المدينة الحلم

بقلم: طلال حسن
                          
 " 1"
ـــــــــــ   
طوال النهار، ظلت مدينة النمل ، تعجّ بالحركة ، فبالإضافة إلى النملات الخادمات ، والنملات اللاتي يجمعن الطعام ، ويأتين به من الخارج ، كانت عساكر الأسياد ينقلون مئات ، بل آلاف الشرانق ، من أماكن مجهولة ، ويضعونها في غرف سرية خاصة .
وكانت الخادمات ، وجامعات الطعام ، يغضضن من أبصارهن ، إذا صادفن العساكر ، في ممرات المدينة ، والويل لمن يدفعها الفضول ، أو الحمق ، إلى التطلع إليهم ، وهم ينقلون تلك الشرانق ، ويغيبونها في الغرف السرية الخاصة .
وقبل الظهر ، عادت مجموعة من جامعات الطعام ، كانت بينهن النملتان " ا " و " ب " ، وقد حملت كل منهما حبة قمح .
وتوقفت النملة " ب " ، حين رأت إحدى عساكر الأسياد، تحمل شرنقة ، فدفعتها النملة " متمتمة : تحركي، أيتها الحمقاء .
وتحركت النملة " ب " ، وهمت أن تلتفت إلى حاملة الشرنقة ، فدفعتها النملة " أ " ثانية ، وقالت : امشي ، هذا لا يعنيك .
ومشت النملة " ب " مدمدمة ، تتقدم النملة " أ " بخطوات ، حتى دخلتا مخزن الطعام وألقت النملة " ب " حبة الحنطة ، التي تحملها ، فوق الحبوب ، وقالت : إنها المرة الثالثة أو الرابعة ، التي أرى فيها العساكر ، يأتون بمثل هذه الشرانق ، من الخارج .
وقاطعتها النملة " أ " قائلة : أيتها الحمقاء ، فكري ، هذه الشرانق هي نحن .
والتفتت النملة " ب " إليها ، ولم تنطق بكلمة ، فقالت النملة " أ " : لقد ولدنا هنا ، من شرانق جاءت بها عساكر الأسياد ، من مدن نمل مختلفة ، وجعلوا منا عبيداً لهم ، تخدمهم ، وتعمل نيابة عنهم ، وتطعمهم .
وتلفتت النملة " أ " حولها ، ومضت إلى خارج المخزن ، وهي تقول : هيا ، علينا أن نستمر في العمل ، حتى آخر النهار ، وإلا فالويل لنا .
ودمدمت النملة " ب " غاضبة ، وسرعان ما انطلقت في إثر النملة " أ "  .

 " 2 "
ــــــــــــــ 
أفاقت النملة " أ " من النوم ، قبل شروق الشمس ، ولاحظت أن رفيقتها " ب " مازالت تغط في النوم ، فنهرتها برفق قائلة : أفيقي ، يا عزيزتي ، أفيقي .
وردت النملة " ب " ، دون أن تتحرك ، أو تفتح عينيها : دعيني أنم قليلاً .
واعتدلت النملة " أ " ، وقالت : انهضي ، يا عزيزتي ، الجميع يتأهبن للخروج .
وفتحت النملة " ب " غينيها ، وتطلعت حولها ، ثم قالت : لابد أن عساكر الأسياد سيأتون بشرانق أخرى اليوم .
وردت النملة " أ " بمرارة قائلة : ربما ، فهم بحاجة دوماً إلى خادمات وعاملات يجمعن الطعام من الخارج ، ويقدمنه إليهن .
واعتدلت النملة " أ " حولها ، وقالت : لا ترفعي صوتك، فلعسكر الأسياد جواسيس من بيننا ، يراقبوننا باستمرار .
وهنا ارتفع صوت أجش ، لإحدى العساكر ، تصيح : هيا، حان وقت العمل ، أسرعن .
وأسرعت النملة " أ " نحو صفوف العاملات ، المتدافعات إلى الخارج ، وهي تلوح للنملة " ب " قائلة : إلى اللقاء اليوم ، إلى اللقاء .
وتلفتت النملة " ب " حولها ، ولوحت متمتمة : إلى اللقاء ، إلى اللقاء .
وسرعان ما اندست هي الأخرى ، في صفوف العاملات ، المتدافعات إلى الخارج .

 " 3 "
ـــــــــــــــ 
  خرجت النملة " أ " من المدينة ، وانسلت بعيداً عن العاملات ، اللاتي تفرقن لجمع الطعام ، ومضت كالعادة إلى مرتفع منعزل معشب ، يطل على البركة .
وحثت السير متوجسة ، حذرة ، فهذه المنطقة تعج بالضفادع والسحالي والطيور ، التي غالباً ما تهاجم النمل ، وتفتك به .
وتوقفت مذعورة على مقربة من أعلى المرتفع ، وسارعت بالاختباء وراء إحدى الصخور ، حين تناهت إليها ، صيحات رعب واستغاثة ، صادرة عن مجموعة من النمل .
ورأت من مخبئها ، نملة تقبل مسرعة ، وقد استبد بها الخوف ، فأشارت لها بيدها ، ونادتها قائلة : أيتها النملة ، تعالي  ، المكان هنا آمن .
وأسرعت النملة ، وتوقفت إلى جانبها ، خلف الصخرة ، وقالت لاهثة : السحلية اللعينة التهمت رفيقاتي، وهربتُ منها بأعجوبة ، ولابد أنها تبحث عني الآن .
وأطلت النملة " أ " برأسها ، من وراء الصخرة ، وتطلعت حولها بحذر ، ثم قالت : اطمئني ، ليس للسحلية من أثر .
 وتنفست النملة الصعداء ، وقالت : سألقى هنا حتى أرتاح ، ثم أعود إلى المدينة .
وتطلعت النملة " أ " ، ثم قالت : لم أكن أظن ، أن أحداً غيري ، يمكن أن يأتي ، إلى هذا المكان المنعزل .
فردت النملة قائلة : هذه هي المرة الأولى ، التي نأتي فيها إلى هنا ، وقد دفعنا ، كما رأيت ، الثمن غالياً .
وهزت النملة " أ " رأسها ، وقالت : لا عجب أن نأتي إلى هنا أحياناً ، فحياتنا صعبة للغاية ، نحن عبيد ، وأسيادنا في منتهى القسوة .
وحدقت النملة فيها مندهشة ، وقالت : عبيد ! ماذا تقولين؟ يبدو أنك من مدينة أخرى غير مدينتنا ، فنحن أحرار في مدينة حرة ، تقع في مشرق الشمس .
ولاذت النملة " أ " بالصمت ، فأطلت النملة برأسها من وراء الصخرة ، وتلفتت يميناً ويساراً ، ثم مضت ملوحة، وهي تهتف : وداعاً ، يا رفيقي ، وداعاً .

" 4 "
ـــــــــــــ  
 رقدت النملة " ب " إلى جانب رفيقتها النملة " أ " متكورة على نفسها ، وأغمضت عينيها ، وقالت بصوت متعب ناعس : سمعتُ اليوم إحداهن تقول عنك ، أنك تلعبين بالنار .
وردت النملة " أ " ، وعيناها تحدقان في الظلام : النار هي ما نحن فيه ، يا عزيزتي .
وتابعت النملة " ب " قائلة : يقال أنك تتسللين من بين العاملات ، وتمضين لسبب ما باتجاه البركة .
ويبدو أن النملة " أ " ، لم تكن تصغي إليها ، فقد قالت بصوت حالم : لو تعلمين بمن التقيت اليوم عند البركة .
وبدل أن ترد النملة " ب " عليها ، تابعت قائلة : أخشى أن يصل هذا الأمر إلى عساكر الأسياد ، فيعاقبونك عقاباً شديداً .
واستطردت النملة " أ " بصوتها الحالم : التقيت بنملة رائعة ، من مدينة غير مدينتنا .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : تصوري ، إن جميع النمل ، يعيشون أحراراً ، في تلك المدينة  .
وفتحت النملة " ب " عينيها ، وقد طار منهما النوم ، وقالت : إذا كان ما تقولينه ليس حلماً من أحلامك ، فهذه هي .. المدينة الحلم .
 وأغمضت النملة " أ " عينيها ، وقالت : نعم ، يا عزيزتي ، هذه هي .. المدينة الحلم .
وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، في حين ظلت النملة " ب " مستيقظة تفكر في .. المدينة الحلم .

 " 5 "
ـــــــــــــــ
      لم تنم النملة " ب " تلك الليلة ، إلا في وقت متأخر ، فقد أرّقها التفكير في ما قالته النملة " أ " عن .. المدينة الحلم .
واستيقظت مبكرة ، صباح اليوم التالي ، وزحفت مقتربة من النملة " أ " ، وهمست لها : اسمعي ، لقد فكرتُ طويلاً في ما قلته البارحة .
وفتحت النملة " أ " عينيها ، وحدقت فيها متسائلة ، فقالت : لنذهب اليوم إلى البركة .
وردت النملة " أ " محذرة : لا يا عزيزتي ، إن تلك المنطقة خطرة ، مليئة بالضفادع والسحالي والطيور .
وهزت النملة : ب " رأسها ، وقالت : مهما يكن ، يجب أن نذهب .
وقبل أن ترد النملة " أ " بشيء ، ارتفع الصوت الأجش آمراً : هيا ، حان وقت العمل ، أسرعن .
ونهضت النملتان " أ " و " ب " ، واندفعتا مع التيار ، المتدفق إلى الخارج ، وتسللتا من بين النملات ، اللواتي تفرقن في جميع الجهات ، ومضتا مسرعتين إلى المرتفع المعشب ، المطل على البركة .
وصعدتا إلى أعلى المرتفع ، وراحتا تتأملان ما حولهما من مياه وتلال وحقول تمتد حتى الأفق ، وتوقفت النملة " أ " ، وأشارت بيدها إلى مشرق الشمس ، وقالت : المدينة الحلم تقع في مكان ما هناك .
وتطلعت النملة " ب " إلى حيث تشير ، ثم قالت : هذا يعني أنني لو سرت على هذا الطريق ، لوصلت تلك المدينة .
وردت النملة " أ " متمتمة : ربما .
ولكنها صمتت خائفة ، حين لمحت بريقاً غريباً يشع من عيني النملة " ب " ، ثم خاطبتها قائلة : حذار ، هذا طريق شديد الخطورة .
وغمغمت النملة " ب " ، دون أن ترفع عينيها المتبارقتين عن مشرق الشمس : لكنه قد يؤدي إلى .. المدينة الحلم .

 " 6 "
    لاذت النملة " ب " بالصمت " طوال ساعات النهار، بل إنها لم تنطق بكلمة ، حتى عندما اضطجعت متكورة على نفسها ، وتظاهرت بالنوم .
وحاولت النملة " أ " عبثاً ، جرها إلى الكلام ، لعلها تخفف عنها ، أو تصرفها عما يشغل تفكيرها .
واستيقظتا في اليوم التالي ، على الصوت الأجش ، يأمر الجميع : هيا ، حان وقت العمل ، أسرعن .
ونهضتا مسرعتين ، واندستا في تيار النمل ، المندفع إلى الخارج ، ورغم التزاحم والتدافع الشديدين ، حرصت النملة " أ " على أن لا تدع النملة " ب " ، تغيب عن أنظارها .
وتوقفت النملة " أ " خارج المدينة ، وقد أطبقت على يد النملة " ب " ، وقالت : عزيزتي ، لنعمل اليوم ضمن الجموع ، وإلا انتبه إلينا عساكر السادة .
وردت النملة " ب " ، وعيناها تتلامعان : دعك من العساكر ، لنهرب ، ونمض ِ إلى المدينة الحلم .
واحتدت النملة " أ " قائلة : هذا جنون .
فردت النملة " ب " : تعالي عسى أن نصل مدينة الحلم ، وإلا فلن نخسر سوى قيودنا .
وشدت النملة " أ " على يدها بقوة ، وقالت : لا ، لن أدعك تذهبين ، سيلحقون  بك ، ويقتلونك .
ورغم ترددها ، عادت النملة " ب " إلى العمل مع النملة " أ " ، وحملت كل منهما حبة قمح ، وقفلتا عائدتين مع حشود النمل .
ولاحت المدينة من بعيد ، وبدت للنملة " ب " وكأنها وحش كاسر ، يكشر عن أنيابه القاتلة ، فرمت حبة القمح جانباً ، وتراجعت مغمغمة : كلا ، لن أبقى بعد اليوم في الجحيم .
وحاولت النملة " ب " ، أن تلحق بها ، وتثنيها عن عزمها ، دون جدوى ، فقد مضت النملة " ب " ، تشق طريقها عكس التيار ، حتى اختفت بين حشود النمل .

 " 7 "
ــــــــــــــ
 حلّ الليل ، وعادت جميع النملات إلى المدينة ، عدا النملة " ب " ، واضطجعت النملة " أ " متكورة في مكانها ، وأغمضت عينيها متظاهرة بالنوم ، وتراءى لها، وهي بين النوم واليقظة ، أن أكثر من نملة ، ترمقها خلسة ، ثم ترمق مكان رفيقتها " ب " ، الذي ظل شاغراً، على غير العادة .
وهزها الصوت الأجش : أيتها النملة ..
فردت النملة " أ " مرعوبة : نعم ، نعم ، سيدي .
وتساءل الصوت الأجش بنبرة تهديد : أين رفيقتك ؟
وأجابت النملة " أ " بصوت مرتعش : لا أدري ، صدقني يا سيدي ، لا أدري .
وارتفع الصوت الأجش ، وصداه يترجع في الظلام : نحن ندري ، انهضي ، وسترين .
وانتبهت النملة " أ " مذعورة إلى  ضجيج ارتفع عند مدخل المدينة ، وسمعت العديد من رفيقاتها ، يتهامسن مشفقات : جاءوا بها ، جاءوا بها .
ولاحت من بعيد مجموعة من عساكر الأسياد ، يجرجرون النملة " ب " ، التي تكاد تتهاوى على الأرض ، وجسمها الغض مثخن بالجراح .
وأقبلت واحدة من العساكر ، وصاحت بالعساكر ، الذين يجرجرون النملة " ب " : جيئوا بها ، الملكة تنتظرها ، وستدفع ثمن فعلتها غالياً .
ودفعت إحدى أفراد العساكر النملة : ب " ، وصاحت : تحركي ، ستكونين اليوم عبرة لمن يعتبر .
ومرت النملة " ب " ، والعسكر يجرجرونها بعنف ، والتفتت ناظرة إلى النملة " أ " ، دون أن تتفوه بكلمة ، وظلت تنظر إليها حتى غاب بها العساكر ، في نهاية الممر المظلم .

 " 8 "
    رقدت النملة " أ " متكورة على نفسها ، وأغمضت عينيها الغارقتين بالدموع ، بعد أن تلاشى الضجيج شيئاً فشيئاً ، وساد المدينة صمت كصمت القبور .
وظلت مستيقظة طول الليل ، وظلت رفيقتها " ب " مستيقظة في داخلها ، طول الوقت ، وتراءى لها ، كما في الحلم ، أنهما تعملان .. تلهوان .. تتحاوران .. وتختلفان حد الغضب والضحك .
وخلال كلّ ذلك ، رأتها مراراً ومراراً ، والعساكر يجرجرونها ، بجسمها الغض ، المثخن بالجراح ، إلى الملكة ، المسكينة ، لقد أرادت ، بتأثير منها هي ، الهرب من الجحيم ، وهاهي قد انتهت في الجحيم .
وعند الفجر ، وقبل أن يفيق أحد ، نهضت النملة " أ " ، وتسللت هاربة من المدينة ، وسارت مع أولى أنفاس الفجر ، بعيداً عن الجحيم ، صوب مشرق الشمس ، حيث .. المدينة الحلم .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق