النمر
رواية للفتيان
طلال حسن
شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لين كنج الفتى
2 ـ ايو يانج الجد
3 ـ نولي الفتاة
4 ـ تيانج والد
نولي
5 ـ تاجر الأعشاب الطبية
" 1 "
ــــــــــــــــــــــ
قبيل الغروب ، عادت نولي من
الغابة ، منتشية ، فرحة ، تحمل سلتها الصغيرة ، التي وضعت فيها ، ما جمعته من
الأعشاب الطبية .
واستقبلها أبوها العجوز تيانج ، محدقاً فيها بعينيه الكليلتين ، وسحنته
الشائخة المتجهمة ، وقال بنبرة تشي بغضبه : تأخرتِ اليوم أيضاً .
ووضعت نولي سلتها الصغيرة على المائدة ، وقالت : الطريق ، كما تعرف ، طويل
ووعر ، يا أبي .
ومدّ تيانج يده الشائخة ، وراح يتحسس الأعشاب ، التي في السلة الصغيرة ،
وهمهم قائلاً : الأعشاب التي جلبتها اليوم قليلة جداً .
وردت نولي ، وهي تبدأ في إعداد طعام العشاء : لا تنسَ ، أننا في آخر
الربيع ، يا أبي .
ونظر تيانج إليها بعينيه الكليلتين ، وقال : ليس هذا هو السبب ، على ما
أظن .
وتراءى لنولي الحطاب الشاب لين كنج ، وهو يُجلسها تحت الشجرة ، ويجلس إلى
جانبها ، وكادت تستغرق في هذا الحلم ، لكن أباها أيقظها بقوله : بنيتي .
وأدركت نولي ما وراء " بنيتي " هذه ، فقاطعته قائلة : دعني الآن
، يا أبي ، إنني أعد طعام العشاء .
واقترب تيانج منها ، وقال بنبرة مهادنة لينة : ستعده لكِ قريباً ، خادمة
ماهرة ، يا بنيتي .
وتوقفت نولي عن إعداد طعام العشاء ، دون أن تردّ عليه ، فقال تيانج : غداً سيأتي تاجر الأعشاب الطبية
، ويأخذ الأعشاب هذه المرة ..
وصمت لحظة ، ثم قال بنبرة مُمنية فرحة : وفي المرة القادمة سيأخذك أنتِ ،
يا بنيتي .
وألقت نولي متذمرة ، ما كان بين يديها ، وقالت : كلا يا أبي ، كلا ..
وقاطعها تيانج قائلاً : إنه غنيّ ، غنيّ جداً .
فقالت محتجة : لكنه عجوز .
وردّ تيانج : أنا أيضاً ، عندما تزوجت ، لم أكن شاباً .
وتململت الفتاة متذمرة : أوه ..
وقاطعها أبوها قائلاً : سيدللك ، وسيسعدك ِ .
وقالت الفتاة ، وهي تهمّ بمغادرة الغرفة : لا أريده ، يا أبي ، لا أريده .
وهتف بها أبوها : العشاء ..
وغادرت الفتاة الغرفة قائلة : لن أتعشى .
وألقت الفتاة نفسها على فراشها ، وقد إغرورقت عيناها بالدموع ، هذا تاجر الأعشاب
الطبية اللعين ، إنه يلاحق أباها منذ أشهر ، أعطني الفتاة ، سأجعلها أميرة ،
سأغرقها بالذهب .
وانقلبت ثائرة ، لا أريده ، حتى لو كان هو نفسه من ذهب .
وهدأت قليلاً ، ليذهب تاجر الأعشاب الطبية إلى الجحيم ، لقد كبر أبوها تيانج
، وربما خرف ، كيف يمكن أن تتزوج هذا التاجر العجوز ، وتترك .. الحطاب الشاب لين
كنج ؟
وأغمضت عينيها ، آه .. ها هي في الغابة ، تركض فرحة مقهقهة ، وفي أثرها
يركض الحطاب الشاب لين كنج ، ثم يمسكها ضاحكاً فرحاً ، ويُجلسها تحت الشجرة ،
ويجلس إلى جانبها ، ويمطرها بالأحاديث العذبة ، والأماني .. آه .. واستغرقت في نوم
عميق .
" 2 "
ـــــــــــــــــــ
لأن الجد ايو يانج ، كما كانت
تقول زوجته الراحلة ، ينام مبكراً مثل الدجاج ، فإنه مثل أي ديك فتيّ ، يستيقظ قبل
مجيء الفجر .
وهكذا استيقظ هذا اليوم ، والظلام مازال مخيماً في الخارج ، فنهض من فراشه
، ودبّ ببطء ، على ضوء القنديل الخافت ، إلى حفيده لين كنج ، وهزه برفق قائلاً : لين
كنج ، استيقظ .
وفتح لين كنج عينيه ، اللتين لم يغادرهما النوم بعد ، واعتدل قليلاً ، وقال
مندهشاً : جدي ..
ونظر الجد ايو يانج إليه ، وقاطعه قائلاً : انهض ، يا بنيّ ، طعام الفطور
جاهز .
واعتدل لين كنج قليلاً ، وقال : نحن في منتصف الليل ، يا جدي .
ودبّ الجد ايو يانج مبتعداً ببطء ، وهو يقول : بل في الفجر ، انهض .
وتمدد لين كنج في فراشه ثانية ، وقال : أيّ فجر هذا ، يا جدي ، إن الديك
لم يصح بعد .
وهنا ارتفع من الظلام في الخارج ، صوت ديك فتيّ يصيح : كوكو ريكو .
فأشار الجد ايو يانج بيده ، إلى مصدر الصوت ، وقال : بنيّ لين كنج ، اسمع
.
وردّ لين كنج قائلاً : هذا ديك مجنون .
وقال الجد ايو يانج محتجاً : لين كنج ..
ونهض لين كنج متثائباً ، فقال الجد ايو يانج : الديك حيوان ، والحيوان لا
يجن ، الإنسان وحده يفقد عقله ، ويجن ، أغسل وجهك ، وتعال كُل .
ورغم برودة الجو ، رشق لين كنج وجهه ، بحفنتين من الماء البارد ، ثم جلس
قبالة جده ايو يانج ، وقال مازحاً : آه منك ، يا جدي .
ووضع الجد ايو يانج ، لقمة صغيرة من الطعام في فمه ، وقال : عندما كنتُ في
عمركَ ..
وقاطعه لين كنج مبتسماً : أعرف يا جدي ، طالما حدثتنا الجدة كثيراً عن
مغامراتك .
وضحك الجد ايو يانج ، بصوت مرح مكتوم ، وقد تراءى له أبو نولي تيانج ، وقال
: مغامرة واحدة لا تصدقها ، النمر .
ونظر لين كنج إليه ، وقال : لكن هذه المغامرة ، كانت جدتي تتفاخر بها دائماً أمام الجميع .
وتوقف الجد ايو يانج عن تناول الطعام ، وقال بصوت حالم : النمر كان صديقي
، كيف أقتله ؟
وصمت لحظة ، ثم قال : عرفته ، وصحبته ، منذ كان يرضع ، وطالما رافقته في
تجواله ، وقد مرض مبكراً ، وسرعان ما رحل .
وصمت الجد ايو يانج ثانية ، ثم قال بصوت حزين دامع : حين رحل ، ولكي لا
أفارقه ، أخذتُ فراءه الناعم الجميل ، وها أنا ، كما ترى ، أتدثر به ، حين أنام ، حتى الآن .
ونهض لين كنج ، فنظر الجد ايو يانج إليه ، وقال : لم تحدثني اليوم عن نولي
وأبيه الخرف تيانج .
فقال لين كنج : مازال العم تيانج على عناده ، يرفض حتى أن أقترب من ابنته نولي
.
وهزّ الجد ايو يانج رأسه ، فأخذ لين كنج فأسه ، متأهباً للخروج ، وقال :
جدي ، أريدها ، أريدنولي .
فنهض الجد ايو يانج ، وقال : لا عليك ، دعك من هذا العجوز الجشع ، لن تكون
إلا لك .
ونظر لين كنج إليه ملياً ، ثم فتح الباب ، ومضى إلى الغابة ، وتابعه الجد
بعينه الغاضبتين ، وهو يقول : هذا العجوز الجشع ، ليزره .. النمر .
" 3 "
ـــــــــــــــــــ
حالما وصل لين كنج ، إلى الغابة حيث يحتطب ، بحث
عبثاً عن فتاته نولي ، فهي تأتي كلّ يوم ، في هذا الموسم ، لتجمع الأعشاب الطبية .
وانتابه القلق ، لقد تواعدا البارحة ، قبل أن ينصرف كل منهما إلى كوخه ،
أن يلتقيا هنا كالعادة ، وها هو الساعات تمرّ ، ولم تأتِ ، وفكر أنها ربما تعرضت لوعكة صحية .
وقبل منتصف النهار ، قفل لين كنج عائداً من حيث أتى ، دون أن يحتطب ، على
غير العادة ، أي شيء ، ليقل جده ما يقول ، فالأولوية عنده لفتاته نولي .
وحين وصل محيط كوخ فتاته نولي ، توقف متلفتاً بحذر ، الكوخ هادىء ، لعل
أبا نولي ليس في الداخل ، هذا ما تمناه ، فلابد له أن يطمئن على نولي .
وطرق الباب بحذر ، ووقف ينتظر قلقاً ، وبدل نولي أطلّ أبوها العجوز تيانج ،
وحدق فيه بعينيه الصغيرتين ، الكليلتين ، وقال : من ؟
وردّ لين كنج بصوت خافت : أنا .
وصاح أبو نولي : لين كنج !
وقال لين كنج متردداً : جدي ايو يانج يسلم عليك .
وتعكرت قسمات أبي نولي ، وقال : هذا اللعين ، مازال حياً ؟ كنت أظنه في
العالم الآخر .
ولمح لين كنج فتاته نولي ، توميء له من داخل الكوخ ، فرفع صوته قائلاً :
إنه قلق عليك ، ويتساءل لماذا لم تأتِ اليوم إلى الغابة ؟
وثارت ثائرة تيانج ، وصاح منفعلاً : اذهب ، ولا تطرق بابي ثانية .
وهمّ أن يغلق الباب ، ويمضي إلى الداخل ، فمدّ لين كنج يده ، وأمسك طرف
الباب ، وقال : أرجوك ، إنني عطشان ، اسقني جرعة ماء .
فأغلق تيانج الباب ، وهو يصيح :
ليس لدينا ماء ، اذهب من هنا .
واقترب لين كنج من الباب ، وصاح : سأذهب إلى النبع ، وأشرب منه ، نعم ،
سأذهب إلى النبع .
وكتمت نولي ابتسامتها ، لقد وصلت لها الرسالة ، فاقتربت من أبيها ،
وتساءلت ببراءة : من كان بالباب ، يا أبي ؟
وردّ الأب منزعجاً : أحمق يريد جرعة ماء .
وهزت نولي رأسها ، وقالت : يا للمسكين ، لعله عابر سبيل ، لو كان لدينا
جرعة ماء لقدمتها له .
وحدق الأب فيها ، بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وتساءل قائلاً : ألم يعد
لدينا ماء في الجرة ؟
وردت نولي : لا عليك ، يا أبي ، لنبقَ اليوم بدون ماء ، سأذهب غداً ،
وأملأ الجرة من النبع .
وصاح الأب منفعلاً : نبقى حتى الغد بدون ماء ! اذهبي الآن إلى النبع ،
واملئي الجرة .
وتظاهرت نولي بالتذمر ، وقالت : أمرك ، يا أبي ، وإن كان النبع بعيداً .
وحملت نولي الجرة ، ولا داعي لأن نقول إنها لم تكن فارغة ، وخرجت من الكوخ
، وأغلقت الباب ، وعلى الفور ، انطلقت مسرعة نحو النبع .
" 4 "
ـــــــــــــــــــ
على مقربة من النبع ، وفي ظل
شجرة ضخمة ، وقف لين كنج ينتظر نولي ، على أحرّ من الجمر ، لعلها توافيه ،
ويتحدثان عما يجري ، وعما يمكن أن يفعلاه ، لمواجهة ذهب تاجر الأعشاب الطبية .
صحيح أنه ليس بينهما موعد محدد ، كما يفعلان دائماً ، لكن حديثه أمام
والدها ، وهي تقف خلفه ، تضمن إشارة واضحة إلى الموعد ومكانه ، وآه إذا لم تلتقط
نولي الإشارة ، وتفك شفرتها .
لكن نولي ، على ما يبدو ، التقطت الإشارة ، فها هي نولي ، تقبل مسرعة ، تحمل الجرة على كتفها ،
متجهة إلى النبع ، وما أن لمحها تنظر إليه ، حتى أشار لها ، متمتماً بصوت خافت :
نولي ، تعالي .
وأقبلت نولي على لين كنج مسرعة ، متلهفة ، فمدّ لين كينج يده ، وأمسك
بيدها ، وقال : انتابني قلق شديد ، حين لم أجدك اليوم في الغابة .ْ
وتوقفت نولي على مقربة منه ، والجرة مازالت على كتفها ، وقالت بصوت منفعل
لاهث : لم أستطع اليوم الخروج من الكوخ .
وتساءل لين كنج : لماذا ؟
فردت نولي قائلة : إنه أبي ، يا لين كنج .
وقال لين كنج : أخشى أن يكون قد عرف ، بأننا نلتقي في الغابة .
وهزت نولي رأسها سلباً ، فتساءل لين كنج : عجباً ، ماذا إذن ؟
ونظرت نولي إليه ، وقالت : تاجر الأعشاب الطبية ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إنه يريدني .
وشهق لين كنج مستنكراً : ماذا !
واستطردت نولي قائلة : يريدني زوجة له .
وقال لين كنج مستنكراً : لكنه بعمر أبيك .
فردت نولي : إنه غني .
وقال لين كنج : نولي ..
وتلفتت نولي متوجسة ، ثم نظرت إلى لين كنج ، وقالت : الأمر خطير ، يا لين
كنج ، ولابد أن ..
وهنا تناهى إليهما وقع أقدام ، تتجه نحو النبع القريب ، فتراجعت نولي
قليلاً ، وهي تتلفت حولها بحذر ، وقالت : أحدهم قادم .
وقال لين كنج : دعكِ منه ، يا نولي .
فاستدارت نولي ، وقال بصوت خافت : كلا ، يا لين كنج ، لا أريد أن يرانا
أحد هنا .
وسارت نولي مبتعدة ، فسار لين كنج في أثرها ، وهو يقول بصوت خافت متوتر :
نولي ، توقفي ..
لم تتوقف نولي ، فقال لين كنج : الأمر خطير ، يا نولي ، علينا أن نفعل
شيئاً .
وتوقفت نولي ، ونظرت إلى لين كنج ، وقالت : نعم ، لابد .. ، لكن ماذا نفعل
.
واستدرت متلفتة ، ثم انحدرت نحو النبع ، والجرة فوق كتفها ، وتوقف لين كنج
، مطرقاً رأسه ، لا يعرف ماذا يفعل ، ثم سار حائراً ، نحو الكوخ .
" 5 "
ـــــــــــــــــــ
في خطوات بطيئة متعثرة ، مضى
لين كنج نحو كوخه ، وهو يفكر في ما عليه أن يفعله ، ليحظى بفتاته نولي ، ويمنع
تاجر الأعشاب الطبية ، من أن بسبقه إليها ، ويختطفها منه .
لكن ، فكر لين كنج ، إن تاجر الأعشاب الطبية ، رجل ناضج ، مجرب ، متقدم في العمر ، قد لا يكون شريراً
، ولعل التفاهم معه أمر ممكن .
فلينتظره في الطريق ، ويرحب به ، ويحييه قائلاً : طاب يومك ، يا سيدي .
ولابد أن تاجر الأعشاب الطبية ، سيتوقف ، وقد يترجل عن حصانه ، ويردّ
قائلاً : طاب صباحك .
وما دام الأمر كذلك ، ولابد أن يكون كذلك ، فسيتقدم منه لين كنج ، ويقول
له بشكل ودّي : سيدي ، أريد أن أكون صريحاً معك ..
وسيبتسم تاجر الأعشاب الطبية ، ويقول : أنا أحبّ الصراحة ، تفضل .
وعندئذ سيقترب منه لين كنج ، ويقول له لين : إنني أحب نولي ، ونولي تحبني
، أرجوك أن تنسحب ، وتدعنا وشأننا ، فأحدنا ولد للآخر .
وإذا كان تاجر الأعشاب الطبية طيباً ، كما أتمنى ، فسيفكر لحظة ، ثم يقول
: مادمت تحب نولي ، ونولي تحبك ، فألف مبروك ، إنها لك .
وتوقف لين كونج ، وراح يراجع نفسه ، وهو يعاود السير ، لكن تاجر الأعشاب
الطبية ، قد لا يكون رجلاً طيباً ، ناضجاً ، مجرباً ، رغم تقدمه في العمر ، وقد لا
يتوقف حين أحييه : طاب يومك ، يا سيدي .
بل وقد لا يردّ على تحيته ، عندئذ سيعترض حماره ، الذي يمتطيه ، ويقول له
بحزم : ترجل .
وسيحتج تاجر الأعشاب الطبية ، ويقول له بعنجهية : ابتعد عن طرقي ، هيا
ابتعد .
وهنا سيمد لين كنج يده ، ويكشف عن خنجره ، وإذا لم يرتدع تاجر الأعشاب
الطبية ، فسيستل لين كنج خنجره ، ويشهره في وجهه ، و ..
آه ، قد يوافقه جده على هذا ، فهو يقول له دائماً : نولي لك ، وعليك أن
تحارب من أجلها .
نعم عليه أن يحارب من أجل نولي ، وفكر لين كنج ، لا أريد أن أقتل ، نعم
ولكن لن أسكت ، مهما كان الثمن ، وإلا ضاعت نولي .
وأفاق لين كنج ، وإذا هو أمام باب الكوخ ، آه ترى ماذا يفعل الجد ايو يانج
الآن ؟
ودفع لين كنج الباب ، ودخل الكوخ ، وإذا الجد ايو يانج ، منكب على جلد
النمر ، ينظفه ، ويسوي شعر فروته ، ويلمع أنيابه .
وتوقف لين كنج ، فرفع الجد ايو يانج رأسه ، ونظر إليه ، وقال : لين كنج ، عدت اليوم مبكراً .
ووضع لين كنج فأسه جانباً ، وقال بصوت حزين : لم أحتطب اليوم .
ولاذ الجد ايو يانج بالصمت متحيراً ، فمال لين كنج عليه ، وقال بصوت دامع
: جدي ، أريد نولي ، أريدها .
" 6 "
ـــــــــــــــــــــ
من جهتها ، قفلت نولي عائدة
إلى الكوخ ، تحمل الجرة على كتفها ، مفكرة في لين كنج ، وماذا يمكن أن تفعل ، كي
لا تخسره .
وتراءت لها أمها ، إنها الآن في العالم الآخر ، تنظر إليها بعينيها
الحنونتين المحبتين ، ولابد أنها حزينة ، لما تعانيه في هذه الحياة .
آه ، ماذا لو لم تحظ بلين كنج ، وأخذها تاجر الأعشاب الطبية بذهبه البارد
؟ عندئذ لا قيمة للحياة ، ومن الأفضل أن تذهب إلى أمها ، في العالم الآخر .
ولعل أمها عرفت ما يجول في أعماقها ، فمالت عليها قائلة : لا يا بنيتي ،
الإنسان لا يفرط بالحياة ، مهما كانت معاناته ، فالحياة نعمة ، وعلينا أن نتمتع
بها .
ورفعت نولي عينيها الغارقتين بالدموع إلى أمها ، وقالت : لا متعة ، يا أمي
، إلى جانب تاجر الأعشاب الطبية اللعين ، أنا أريد لين كنج .
ومالت عليها أمها ثانية ، وقالت بصوتها الرقيق الطيب : هذا حقك ، يا بنيتي
نولي ، ولك أن تدافعي عنه ، حتى النهاية .
وتوقفت نولي ، ورفعت عينيه الدامعتين إلى أمها ، وصاحت : لكن أبي ..
وصمتت إذ وجدت نفسها ، تقف أمام الكوخ ، لكن غضبها المتأجج لم يصمت ، فمدت
يدها ، ومسحت دموعها ، ثم دفعت الباب بقوة .
ورفع أبوها تيانج رأسه ، ونظر إليها بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، ويبدو
أن لاحظ غضبها ، فقال بصوت متردد : نولي ؟
وبشيء من الخشونة ، وضعت نولي الجرة جانباً ، دون أن تردّ عليه ، فقال
أبوها تيانج بلهجة هادئة مهادنة : بنيتي ، أعطيني قليلاً من الماء .
فأشاحت نولي عنه برأسها ، وردت قائلة بصوت جاف : الجرة فارغة .
ونظر تيانج بصورة لا إرادية إلى الجرة ، وقال : لكنك ذهبتِ إلى النبع
لتملئيها .
وفالت نولي بنفس الصوت الجاف :
نعم ، ذهبت إلى النبع ، فوجدته قد جفّ تماماً .
وهزّ الأب رأسه ، ولاذ بالصمت لحظة ، إنه يعرف ابنته نولي ، إنها غضوبة
على العكس من أمها الراحلة ، ثم قال : حسن ، أعدي طعام العشاء ، أنا جائع .
وحدقت نولي فيع ، وقالت : أبي ، اسمعني ، اسمعني جيداً ، لابد أن نتحدث .
وهرب الأب بوجهه منها ، وقال : لقد تحدثنا طويلاً ، وأنت تعرفين رأيي .
وبعناد قالت نولي : لم أعد صغيرة .
وقال أبوها : أنت في السادسة عشرة ..
وتابعت نولي قائلة : لابد أن نتحدث .
ولاذ الأب بالصمت برهة ، ثم قال بصوت مستسلم : دعي الحديث الآن ، إنني
جائع ، أعدي طعام العشاء أولاً ، وسنتحدث .
" 7 "
ــــــــــــــــــــ
طُرق باب الكوخ ، وقد أشرقت
الشمس ، فرفع الأب رأسه ، وأنصت ، ترى من يكون ؟
وطُرق الباب ثانية ، بصوت أعلى هذه المرة ، فهتف تيانج منزعجاً : من ؟ من
بالباب ؟
لم يأته ردّ ، فاتجه إلى الباب ، وتلمسه بيديه المرتعشتين أولاً ، ثم فتحه
، ونظر بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، فلم يلمح سوى شبح غامض ، فقال : من أنت ؟
وامتدت يد ، أطبقت على يده ، ثم سحبتها عنوة ، وجعلتها تتحسس فراء خشناً ،
فاستسلمت يده ، وتمتم بصوت خافت : آه ، أهذا أنت ؟
وجاءه صوت يعرفه جيداً ، يقول : النمر .
وتمتم الأب بصوت خافت : يانج .
وقال الجد : نعم ، يانج .
وعلى الفور ، سحب تيانج الجد يانج إلى الداخل ، وأغلق الباب ، وهو يقول بصوت
مرتعش : مازلت تحتفظ بجلد ذلك النمر ، يا يانج .
فردّ الجد يانج قائلاً : النمر كان صديقي ، صيقي لفترة طويلة من السنين ، وأنا
كما تعرف ، وفيّ لأصدقائي ، وخاصة الأوفياء منهم .
ونظر تيانج إليه بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وقال : وتكتم أسرارهم أيضاً
.
فابتسم الجد لينج ، وقال : النمر !
وقال الأب بصوت متردد : فراؤه عندك ، وروحه مازالت حية في داخلي .
واقترب ايو يانج منه ، وقال : دعك
من هذا ، لقد قلتُ لك مراراً وتكراراً ، إن ما فعلته ، يا صديقي تيانج ، أمراً
طبيعياً .
ونظر إليه تيانج ، بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وقال : لقد هربت منه ، يا ايو يانج ، وكأني ..
وقاطعه ايو يانج قائلاً : لو لم
يكن ذلك النمر صديقي ، وعرفته منذ الصغر ، واطمأنيت إليه ، لهربت منه أنا الآخر .
ولاذ الأب بالصمت ، فانقض الجد ايو يانج نج عليه ، وطوقه بذراعيه ، وقال :
جئت لأفترسك أيها العجوز الأحمق ، وهانا بدل ذلك أعانقك .
وتطلع تيانج إليه ، بعينيه
الصغيرتين الكليلتين ، وقال : ابنتي الوحيدة نولي ، يا ايا يونج ، يريدها زوجة له
تاجر الأعشاب الطبية ، الغني جداً .
وردّ الجد لينج قائلاً بصوت هادىء : لكنها تريد لين ، ولين يريدها .
ولاذ تيانج بالصمت ، فقال ايو
يانج : سأفترسك ، أيها العجوز الأحمق ، سأفترسك .
ودون أن يردّ عليه ، مدّ تيانج يده ، وأطبق على يد ايو يانج ، وقال وهو
يسحبه إلى خارج الكوخ : ، ايا يونج ، تعال
معي .
ومضى به مبتعداً عن الكوخ ، بعد أن أغلق الباب ، فقال ايا ينج متسائلاً : إلى أين تقودني بعينيك الصغيرتين الكليلتين ،
يا تيانج .
وسار تيانج به ، وهو مازال يطبق على يده ، وقال : أنت الآن عيناي ، اللتان
أرى بهما ، خذني إلى النبع ، وانظر نيابة عني إلى الشجرة الضخمة .
وهزّ ايو يانج رأسه ، وسار به بخطوات بطيئة متعثرة ، وقال : لقد جننت ، يا
رجل .
وقال تيانج بصوت هادىء ، حالم : هناك شجرة ضخمة ، قريبة من النبع ، كنت
ألتقي بفتاتي في ظلها ، قبل أن أتزوجها ، و ..
وتوقف الجد ايو يانج ، وقد جمدت عيناه ، فتوقف الأب أيضاً ، وقال : أخبرني
، ماذا ترى ؟
وابتسم الجد ايو يانج متنهداً : آه .
فقال تيانج بفرح : أرأيت ، أيها النمر ، إنها ابنتي نولي ، وحفيدك لين كنج
، يقفان تحت الشجرة ، أليس كذلك ؟ تكلم .
وضحك الجد ايو يانج فرحاً ، وقال : تيانج ، لقد رأيانا ، نولي ولين كنج ،
وها هما يلوحان لنا فرحين ، من تحت الشجرة الضخمة .
ورفع تيانج يده ، وراح يلوح لنولي ولين كنج ، رغم أنه لا يراهما بعينيه
الصغيرتين الكليلتين .
28 / 4 / 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق