الجرة المتشققة
صبحي سليمان
انحني العم صابر وهو يحمل العصا الغليظة المُثبت في طرفاها جرتان
مملوءتان بالماء النقي الذي يشرب منه مُعظم سُكان المدينة؛ وما أن حملهما حتى مشي
بسرعة تجاه قصر السُلطان الموجود بأعلى مكان بالمدينة كي يملأ جراره الفارغة
بالماء العذب الذي لا غني عنه لغني أو فقير؛ وامتلأت جرار السلطان؛ وتوجه لباقي
البيوت المُتناثرة حول القصر كي يمدها بالماء
...
وفي نهاية اليوم الشاق يعد العم صابر نقوده الهزيلة ويحمد خالقه
ويذهب لأولاده والفرحة تملأ قلبه والطعام يملأ يديه
... فيفرح
الصغار بقدوم الأب؛ ويشبعوا من الخير الوفير الذي أحضره معه
... ورويداً
رويداً تهدأ الحركة بالبيت الفقير وتنام عيون الصغار في أحضان الأب
والأم اللذان أنهكهما التعب طوال النهار.
ومع أول ضوء للنهار يستيقظ العم صابر وزوجته؛ ويبدأ يوم شاق جديد؛
فيحمل جراره العتيقة ويمشي مشيته السريعة مودعاً أسرته الصغيرة ودعاء الزوجة
الوفية يملأ أرجاء المكان ... فهي تتمني له دوام الصحة
والعافية فهما رأس ماله في تلك الحياة.
وهكذا تسير حياة العم صابر ... من شقاء لشقاء ... حتى أن جاء اليوم
الذي تعثرت فيه قدماه وكادت أن تسقط احدي جراره أرضاً؛ إلا أنه تمالك نفسه وأنقذها
علي الرمق الأخير؛ ولكن لا ينفع حذر من قدر؛ حيث ارتطم جُزء منها
بالأرض؛ فتشققت علي الفور ... وهُنا تدفق الماء من بين شقوق الجرة؛ وكأنها الدماء
المُتدفقة من بين الضلوع ... فتضايق العم صابر مما حدث؛
ولكنه نظر لخالقه مُبتسماً وهو يقول : ـ الحمد لله أنها لم
تتحطم تماماً.
حمل العم صابر الجرتان وهم صاعداً لقصر السُلطان كي يملأ جراره ككل
يوم؛ ولكن أثناء صعوده للقصر كان الماء يتدفق من الجرة المُتشققة؛ وما أن صعد
لأعلي حتى وجد الماء الموجود بها أصبح قليلاً وأوشك علي النفاذ؛ فملأ جرار
السلطان؛ ونزل مرة أخري لنبع الماء ليملأ الجرتان مرة أخري علي غير عادته؛ وصعد
البيوت الموجودة بجوار القصر ليمدها بالماء.
ومن يومها والعم صابر في تعب مستمر؛ فالماء
يزداد تدفقه كُل يوم من الجرة؛ وهذا ما يجعله يُزيد من عدد مرات نزوله لنبع الماء؛
ولكن مع نهاية العام صنع العم صابر طريق طويل مملوء بالأزهار والرياحين؛ فبسبب
تساقط الماء من بين جدران الجرة المتشققة نبتت أزهار بديعة وأشجار جميلة علي أحد
جانبي الطريق دون الآخر؛ وهذا ما جعل السلطان يبحث عن الشخص الذي صنع هذا الجمال
بمدينته ... وعندما عرف أن السبب هو العم صابر جعله وزيراً مُختصاً بزينة المدينة
وجمالها.
وبعد عدة أيام تغيرت المدينة وأصبحت جميع طُرقاتها مملوءة بالأزهار
والرياحين ... وفي وسط أكبر ميدان من
ميادينها استقرت الجرة المُتشققة وهي
تحفها
الأزهار والرياحين؛ وبجوارها يافطة مكتوب عليها : ـ
ـ لأنني شاهدت الجمال ينبع من بين شقوق هذه الجرة؛ صنعت الجرة الجمال
الموجود بالمدينة الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق