محمد علي شاهين
فرغ فلاّح من حرث أرضه بعد شتاء ممطر، وتخيّر من جيّد الحبوب نوعاً غالياً فنثره بعناية، ثم جلس يتأمل الأرض السمراء بسعادة، ويقلّب كفيه المتقرّحتين، وهو يحلم بغلّة وافرة، وربح كبير.
رأى من بعيد أسراب العصافير المهاجرة تعود إلى الحقول والمزارع وهي تغرّد فرحة بإقبال الربيع، وذوبان الثلوج، وارتفاع الحرارة، بينما كانت أشعة الشمس تلوّن السماء بلون الشفق، فغادر الحقل إلى كوخه الخشبي القابع في أعلى الهضبة كالصومعة، وقد أعياه التعب، أما ثيرانه المجهدة التي هدها الجوع والعطش، فقد تركها ترعى بقية النهار على أطراف السلاسل الحجريّة التي تحيط بالمزرعة، قبل أن تعود إلى الزريبة الدافئة.
في اليوم التالي شاهد الفلاح العصافير الجائعة تنقضّ على الحقل دون استئذان، وتلتقط الحبوب بمناقيرها لتملأ بها حويصلاتها الفارغة بنهم. فقال: إن تركت أسراب العصافير عدّة أيام أخرى تجمع الحبوب هكذا فلسوف يفرغ الحقل من البذار، وسيذهب جهدي ومالي سدى.
وهداه تفكيره إلى نصب فزّاعة وسط الحقل، فأتى بقطعتين من الخشب، انتزعهما من السياج على عجل، وقام بتثبيتها بشكل متصالب بواسطة حبل متين من الليف، ثم جاء بمعطف بال قديم فألبسه الخشبة، وجعل أكمامه تتدلّيان نحو الأسفل، بينما كانت الخشبة الأفقية تحمل كتفي المعطف.
حمل الفلاّح خشبة المعطف فدقها وسط الحقل كأنها إسفين في الأرض الرطبة، ونظر إليها ضاحكا وهو يصفق بيديه قائلا: فزّاعة بدون رأس، ستكون موضع سخريّة العصافير واستهجانهم، وإذا كان من العسير أن آتي برأس تهابه العصافير، فلا بد من وضع قبعة توهم الطيور بأن رأسا يفكر تحتها.
ثم توجه مسرعا نحو كوخه الخشبي المجاور للحقل، وانتزع قبعة معلقة فوق مسمار على الجدار، وعاد مسرعاً قبل أن تكتشف العصافير الخديعة، فنكس القبعة فوق الخشبة البارزة بين كتفي المعطف.
وقال: لن يجرؤ طائر بعد الآن مهما أوتي من الجرأة على الاقتراب من الحقل، ما بقيت الفزاعة منتصبة كأنها حارس حقيقي.
وقال يخدع نفسه وهو في يغادر الحقل: حتى تكتشف الطيور بعيونها الصغيرة حقيقة الحارس المزيف، تكون الأرض قد انبتت واكتست بثوب الخضرة والجمال.
مضت عدة أيام أراد الفلاح بعدها أن يختبر مدى اقتناع الطيور بالفزاعة، فجاء إلى الحقل مبكراً، واختار شجرة مطلة على الحقل فجلس تحتها، يراقب الطيور البرية، ويسمع ما يجري بينها من حوار، وهو مطمئن إلى أن كافة الطيور قد غادرت المكان خوفاً ورعباً.
جاء عصفور الدوري فرفرف بجناحيه فوق غصن الشجرة، ثم استدار نحو عصفور قدم معه، وهو يقفز في خفة ورشاقة، وقال: هل تعتقد يا صاحبي أن هذا الرجل الذي ينتصب وسط الحقل، يستطيع منعي من التقاط ما أشاء من الحبوب، ما دام لا يحمل عصاً في يده؟
ثم انقضّ على الحقل، ومن خلفه صديقه العصفور، فاكتشفا حقيقة الفزّاعة وأخذا يلتقطان الحبوب المنثورة تحت المعطف بكل استخفاف.
قام الفلاّح مسرعاً فأتى بعكّاز أبيه القديم من الكوخ، وأدخله في كم المعطف، وقال: الآن سيدب الرعب في قلوب العصافير، إذا حاولت الاقتراب من الحقل، ما دامت العصا مستقرّة في كم المعطف.
وعاد الفلاّح إلى الموضع الذي كان يرقب الحقل منه تحت الشجرة، فإذا بحمامتين بريّتين تحطّان على صخرة أمامه، وهما تنظران إلى الحقل.
قالت أولاهما: أيظن هذا الرجل الواقف وسط الحقل أني أخشى عصاه ! !
فأنا لا أخاف إلا من فأس الفلاّح الذي نثر الحب في الحقل.
وقالت الثانية: لا يدافع عن الحقل إلا من يشق الأرض بفأسه.
ثم انطلقتا نحو الحقل فملأتا حويصلتيهما من الحبوب المنثورة في التراب، وأخذتا تقتربان من الرجل الذي لن يحرك عصاه أبداً.
قال الفلاّح وقد سمع حوار الحمامتين: إذا كان وجود الفأس يوهم الطيور بقوّة الحارس، فلماذا لا أضع بيد الفزاعة فأساً من تلك الأدوات التي أحتفظ بها في الكوخ؟
ثم قام فتوجه نحو الكوخ مسرعاً قبل أن تتنبّه الطيور وتنكشف الحقيقة.
وأتى بالفأس فوضعه في الكم الثاني للمعطف، فصار للفزاعة عصا بيد، وفأساً باليد الثانية.
واستدار نحو الشجرة بخطوات ثابته، فحنى رأسه تحت أغصانها المتشابكة، وجلس القرفصاء تحتها، واسند ظهره نحو جزعها المحدّب، بينما كان يبحث عن العلّة التي جعلت الطيور تستخّف بهذا الغبي الذي يقف وسط الحقل وهو يلبس المعطف.جاء غراب أسود فملأ الحقل بالضجيج والصخب، وحطّ على غصن جاف في أعلى الشجرة، وقال بصوت مرتفع سمعه كل الطيور: حتى يتقدم إلي هذا الرجل ذو القبّعة بعصاه، أكون قد ملأت حوصلتي بالحبوب، ووليت الأدبار.
وانطلق نحو طرف الحقل غير هيّاب ولا وجل، ثم أخذ يتقدّم من الفزّاعة وهو يتمايل، حتى تجرّأ فقفز فوق القبّعة.
قام الفلاح إلى الكوخ، فأتى بالبندقيّة، وأطلق منها طلقات جعلت كل الطيور والغربان المعتدية تولّي الأدبار.
وعندها أخذت الأرض تنبت بالعشب، وتكتسي حللها السندسيّة الخضراء .