لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الخميس، 29 ديسمبر 2011

"فزّاعة لا تهابها العصافير" قصة للأطفال بقلم: محمد على شاهين

فزّاعة لا تهابها العصافير
محمد علي شاهين
فرغ فلاّح من حرث أرضه بعد شتاء ممطر، وتخيّر من جيّد الحبوب نوعاً غالياً فنثره بعناية، ثم جلس يتأمل الأرض السمراء بسعادة، ويقلّب كفيه المتقرّحتين، وهو يحلم بغلّة وافرة، وربح كبير.
رأى من بعيد أسراب العصافير المهاجرة تعود إلى الحقول والمزارع وهي تغرّد فرحة بإقبال الربيع، وذوبان الثلوج، وارتفاع الحرارة، بينما كانت أشعة الشمس تلوّن السماء بلون الشفق، فغادر الحقل إلى كوخه الخشبي القابع في أعلى الهضبة كالصومعة، وقد أعياه التعب، أما ثيرانه المجهدة التي هدها الجوع والعطش، فقد تركها ترعى بقية النهار على أطراف السلاسل الحجريّة التي تحيط بالمزرعة، قبل أن تعود إلى الزريبة الدافئة.
في اليوم التالي شاهد الفلاح العصافير الجائعة تنقضّ على الحقل دون استئذان، وتلتقط الحبوب بمناقيرها لتملأ بها حويصلاتها الفارغة بنهم. فقال: إن تركت أسراب العصافير عدّة أيام أخرى تجمع الحبوب هكذا فلسوف يفرغ الحقل من البذار، وسيذهب جهدي ومالي سدى.

وهداه تفكيره إلى نصب فزّاعة وسط الحقل، فأتى بقطعتين من الخشب، انتزعهما من السياج على عجل، وقام بتثبيتها بشكل متصالب بواسطة حبل متين من الليف، ثم جاء بمعطف بال قديم فألبسه الخشبة، وجعل أكمامه تتدلّيان نحو الأسفل، بينما كانت الخشبة الأفقية تحمل كتفي المعطف.
حمل الفلاّح خشبة المعطف فدقها وسط الحقل كأنها إسفين في الأرض الرطبة، ونظر إليها ضاحكا وهو يصفق بيديه قائلا: فزّاعة بدون رأس، ستكون موضع سخريّة العصافير واستهجانهم، وإذا كان من العسير أن آتي برأس تهابه العصافير، فلا بد من وضع قبعة توهم الطيور بأن رأسا يفكر تحتها.
ثم توجه مسرعا نحو كوخه الخشبي المجاور للحقل، وانتزع قبعة معلقة فوق مسمار على الجدار، وعاد مسرعاً قبل أن تكتشف العصافير الخديعة، فنكس القبعة فوق الخشبة البارزة بين كتفي المعطف.
وقال: لن يجرؤ طائر بعد الآن مهما أوتي من الجرأة على الاقتراب من الحقل، ما بقيت الفزاعة منتصبة كأنها حارس حقيقي.
وقال يخدع نفسه وهو في يغادر الحقل: حتى تكتشف الطيور بعيونها الصغيرة حقيقة الحارس المزيف، تكون الأرض قد انبتت واكتست بثوب الخضرة والجمال.
مضت عدة أيام أراد الفلاح بعدها أن يختبر مدى اقتناع الطيور بالفزاعة، فجاء إلى الحقل مبكراً، واختار شجرة مطلة على الحقل فجلس تحتها، يراقب الطيور البرية، ويسمع ما يجري بينها من حوار، وهو مطمئن إلى أن كافة الطيور قد غادرت المكان خوفاً ورعباً.
جاء عصفور الدوري فرفرف بجناحيه فوق غصن الشجرة، ثم استدار نحو عصفور قدم معه، وهو يقفز في خفة ورشاقة، وقال: هل تعتقد يا صاحبي أن هذا الرجل الذي ينتصب وسط الحقل، يستطيع منعي من التقاط ما أشاء من الحبوب، ما دام لا يحمل عصاً في يده؟
ثم انقضّ على الحقل، ومن خلفه صديقه العصفور، فاكتشفا حقيقة الفزّاعة وأخذا يلتقطان الحبوب المنثورة تحت المعطف بكل استخفاف.
قام الفلاّح مسرعاً فأتى بعكّاز أبيه القديم من الكوخ، وأدخله في كم المعطف، وقال: الآن سيدب الرعب في قلوب العصافير، إذا حاولت الاقتراب من الحقل، ما دامت العصا مستقرّة في كم المعطف.
وعاد الفلاّح إلى الموضع الذي كان يرقب الحقل منه تحت الشجرة، فإذا بحمامتين بريّتين تحطّان على صخرة أمامه، وهما تنظران إلى الحقل.
قالت أولاهما: أيظن هذا الرجل الواقف وسط الحقل أني أخشى عصاه ! !
فأنا لا أخاف إلا من فأس الفلاّح الذي نثر الحب في الحقل.
وقالت الثانية: لا يدافع عن الحقل إلا من يشق الأرض بفأسه.
ثم انطلقتا نحو الحقل فملأتا حويصلتيهما من الحبوب المنثورة في التراب، وأخذتا تقتربان من الرجل الذي لن يحرك عصاه أبداً.
قال الفلاّح وقد سمع حوار الحمامتين: إذا كان وجود الفأس يوهم الطيور بقوّة الحارس، فلماذا لا أضع بيد الفزاعة فأساً من تلك الأدوات التي أحتفظ بها في الكوخ؟
ثم قام فتوجه نحو الكوخ مسرعاً قبل أن تتنبّه الطيور وتنكشف الحقيقة.
وأتى بالفأس فوضعه في الكم الثاني للمعطف، فصار للفزاعة عصا بيد، وفأساً باليد الثانية.
واستدار نحو الشجرة بخطوات ثابته، فحنى رأسه تحت أغصانها المتشابكة، وجلس القرفصاء تحتها، واسند ظهره نحو جزعها المحدّب، بينما كان يبحث عن العلّة التي جعلت الطيور تستخّف بهذا الغبي الذي يقف وسط الحقل وهو يلبس المعطف.جاء غراب أسود فملأ الحقل بالضجيج والصخب، وحطّ على غصن جاف في أعلى الشجرة، وقال بصوت مرتفع سمعه كل الطيور: حتى يتقدم إلي هذا الرجل ذو القبّعة بعصاه، أكون قد ملأت حوصلتي بالحبوب، ووليت الأدبار.
وانطلق نحو طرف الحقل غير هيّاب ولا وجل، ثم أخذ يتقدّم من الفزّاعة وهو يتمايل، حتى تجرّأ فقفز فوق القبّعة.
قام الفلاح إلى الكوخ، فأتى بالبندقيّة، وأطلق منها طلقات جعلت كل الطيور والغربان المعتدية تولّي الأدبار.
وعندها أخذت الأرض تنبت بالعشب، وتكتسي حللها السندسيّة الخضراء .

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

"الفتاة ذات الشعور العجيب" قصة مترجمة للأطفال

الفتاة ذات الشعور العجيب
Pogrebin
كان لدى بنت شعور عجيب.
لم يكن لهذا الشعور اسم، ولكنه كان وفيا للبنت فبادلته الوفاء.
والشعور جعل البنت تتصرف بطريقة عجيبة.. ترقص وتغني أغنيات رائعة. جعلها تضحك على أشياء يتقاتل عليها الآخرون.
الشعور جعل الطبيعة في عينيها واسعة ورائعة. وبسبب الشعور، فإن البنت رأت وسمعت عن أشياء عجيبة حقا، مثلا:
1- رجال ذوو لحى من عنب
2- صديق دائم الكلام، وآخر دائم الإصغاء.
3- طيور بنظارات شمسية.
4- صرافون على هيئة طائر البطريق.
5- أطفال راشدون.
6- حذاء عجيب غير عادي.
7- قبعة فضولية جدا.
ذات يوم، خرج رجل من الظلال، وأثنى على البنت وشعورها، وأخبرها أن العالم بحاجة إلى مثل هذا الشعور.
وبعد ذلك بدأت سلسلة من حوادث غير سعيدة. كان على الشعور أن يكون جاهزا ومستعدا دائما للاستقبال.. باحثون وعلماء وسياسيون حاولوا أن يفسروا الشعور وأن يمنحوه اسما.
آخرون حاولو سرقة الشعور وادّعاءه.
وكلما غدت البنت أكثر شهرة غدا الشعور ضعيفا، سَئِما من التجاهل،.... إلى أن اختفى أخيرا.
في البداية لم تلحظ البت أن الشعور قد اختفى ولكن فيما بعد أخذت تشعر بفراغ داخلي.
انتابتها أحلام مروِّعة. كانت تستطيع أن ترى ببصيرتها أنها لم تعد تحس بشيء.
كل الأشخاص كانوا يتصرفون ويظهرون بشكل مشابه، ولم تعد تثق بأحد.
كانت تعلم أن عليها أن تجد شعورها.
رجل الظلال نادها: " تعالي"، وأغراها بالهدايا. وألقى على مسامعها الفكاهات حتى تضحك وتنسى.
ولكنها رفضت أن تسمع، ومضت بعيدا.
صغار كرام قدموا إليها مشاعرهم. ولكنها رفضت بأدب وتابعت السير بعيدا.....بعيدا.
رجال حكماء منحوها حقائق مدهشة. ولكنها تجاهلتهم، وتابعت السير بعيدا.....بعيدا. حتى وصلت أخيرا إلى حيث بدأت، وبعد وقت طويل شعّت رائحة شذية، ورأت منظرا مدهشا وأحداثا أعجب من ذي قبل.
وقد شعرت عندئذ بالخجل.
ولم يكن عليها أن تعتذر أو تبرر لقد عاد إليها شعورها ثانية.

ــــــــــــــ
* القصة من كتاب" اللغة الغائبة- نحو لغة غير جنسوية" لزليخة أبو ريشة ط أولى 1996-مركز دراسات المرأة- عمان- الأردن. ( القصة من نماذج القصة الغير جنسوية)

الأحد، 25 ديسمبر 2011

أسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال وتقنياتها (4/7) بقلم: صهيب محمد خير يوسف

أسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال وتقنياتها (4/7)
صهيب محمد خير يوسف

• تقنيات وأُسس كتابة القصيدة الحديثة للأطفال:
- الشعر الطفلي كالطفل: بريء، عفوي، متنوع، لطيف، متلون، متطلع، رشيق الأسلوب، غير متكلف.
- الطفل يتأمل القصيدة، ويفكر في معانيها، ويبحث، ويستنتج، ويحكُم.
- من أسباب صعوبة الكتابة للطفل وقلة شعراء الأطفال: أهمية الهدف، وطريقة الخطاب، وطبيعة الشريحة المستهدفة، ودقة الرؤية وعمقها، وغير ذلك مما سيأتي.
- يتواصل الشاعر مع الطفل كطفل في القصيدة، ويبحث عن الطفولة في داخله أثناء الكتابة، وعن الرجولة التي يطمح إليها لدى الطفل.
- وهو يفكر بجديَّة: كيف أجعل قرائي الصغار يفرحون بقراءة قصيدتي؟
- قصيدة الأطفال سهلة الحفظ والإنشاد، فهم يحبون التغني بما يحفظون، خصوصاً في مرحلتي الابتدائية والروضة، حيث ترتفع نسبة الاستجابة الإيقاعية فيهما.
- من مهام الشاعر تطوير الأساليب الشعرية المألوفة، ومتابعة الطرق الحديثة في كتابة الشعر الطفلي ودراستها وتطبيقها، واستحداث وابتكار غيرها.
- ربما لا يلزم تقديم الحلول في الكتابة للكبار، ولكن يراعى تقديم الحلول المبسطة للصغار عند الكتابة لهم.
- يتميز الشعر الطفلي الجديد بمواكبته للتغيرات الحضارية، وتعبيره عن مختلف الجوانب الحياتية التي تهمُّ أطفال المجتمعات المختلفة، فهو شعر اجتماعي من هذه الجهة أيضاً.
- الانفتاح الواعي على ثقافة وأدوات العصر وآليات العيش والتواصل فيه، يؤدي إلى تقديم قصائد حية ومفيدة للطفل.
- إذا احتار الأديب ماذا يكتب؟ فقد يفيده الأطفال بمواضيع مهمة إذا سألهم.
- كتابة القصيدة للطفل تكون حسب الوسيط المتاح (كتاب، إذاعة، فيلم، كليب، شريط أناشيد، موقع إلكتروني، قصيدة في مجلة أو صحيفة، مناظر ومشاهد حية، ثلاثي أبعاد، رسم). ولكن قد يجمع النص أحياناً بين إمكانات الكتاب والشريط أو إمكانات المناظر الحية وثلاثي الأبعاد...
- وفي داخل كل وسيط هناك مجالات خاصة يلتفت إليها الشاعر عند الكتابة، منها أن المجلة للمطالعة والترويح، والكتاب للتثقيف والبناء، والنشيد للاستمتاع والتعبير.. إلخ.
- في الإعلام المرئي، الذي ينمي الحاسة البصرية والسمعية واللغوية لدى الطفل، نجد أن الشاعر يفرِّق في فنيات الكتابة بين ما يُكتب ليُخرَج مصوَّراً بالمناظر الحية والألوان، وبين ما يكتب ليعرض مرسوماً.. وفي كليهما يتفاعل الطفل بحواسه وعقله مع النص.
- إذاً هناك فرق بين الشعر الطفلي الذي يُكتب للقراءة، وبين ما يكتب للإنشاد أو للإعلام المرئي أو للمسرح، فلكل منها طرق وفنيات في الكتابة والإخراج والأداء. فأصبح لدينا: شعر مكتوب، ومسموع، ومرئي سمعبصري.
- في الكتابة الحديثة لشعر الأطفال قد يكون للنص معنًى ظاهر ومعنًى مراد (هدف). وكمثال: يمكن أن يتناول الشاعر فصل الخريف ويعنوِن قصيدته باسم الفصل، ولكن المعنى الذي يهدف إليه هو الألوان. والشاعر المحترف يوائم بين اللفظ والمعنى، ويوصل للطفل المعنى المراد.
- لذلك يفضل كتابة الهدف من كل نص تحت عنوانه، ليعرف القارئ الهدفَ منه.
- التركيز على (الحالة والأَنا) في بداية القصيدة وضمنها، أي أن يكون التعبير عن حالة واقعية بالأسلوب المضارع أو بضمير المتكلم، لا بضمير الماضي والغائب.
- تجنُّب تكرار الوصف البحت (عكس الحالة)، ولكن قد يستدعي المشهد أحياناً اللجوء إلى (الوصف الفني) في جملة أو جملتين.
- من الضروري وجود مقطع درامي أو حواري قصير ضمن النص، يشار فيه إلى "القول" أو لا يشار، فللحوار في قصيدة الأطفال دور تربوي ودور فني يدعم حيوية النص وكسر الرتابة والإحاطة بالحالة والتعريف بالشخوص. ولكن قد يقدِّر الشاعر أحياناً عدم الحاجة إلى الحوار في قصيدته. ويمكن أن تكون الحوارات بين طفلين، أو مجموعة، أو طفلة ومعلمتها، أو طفل وأحد الكائنات الحية.. إلخ.
- معالجة الموضوع الذي تتناوله القصيدة بدقة من مختلف الجوانب، والتفكير في القصيدة بشكل نقدي، دقيق، وعلمي، بحيث يضع الشاعر نفسه مكان القارئ.
- مراعاة التدرج الفني والتسلسل البلاغي والعلمي المعقول في تقديم المعلومات للطفل، والبعد عن العشوائية في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* للتواصل مع الكاتب:  suhaibmy@hotmail.com


الخميس، 22 ديسمبر 2011

'الأصدقاء'.. بوابة العبور فوق أسوار الخوف قراءة نقدية بقلم: أحمد طوسون

'الأصدقاء'.. بوابة العبور فوق أسوار الخوف
تبدو القيمة الهامة التي تتعمق لدى الطفل المتلقي بأنه قادر وحده على التخلص من مخاوفه كما فعل أبطال حكايات أميمة عز الدين.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: أحمد طوسون
يعيش كثيرون وبداخلهم أسوار عالية تحجب عنهم نور الشمس ودفئها، وهواء البحر ونسيمه وتحرمهم من الاستمتاع بألوان قوس قزح المبهجة والتحليق عاليا كطائر وملامسة نتف القطن الندية ناصعة البياض.

كان بمقدورهم الإمساك بسعادات صغيرة لولا تلك الأسوار التي كبرت معهم بينما كان من الممكن التخلص منها لو اكتشفناها في الصغر وقمنا بمواجهتها وعلاجها.

تلك الأسوار تلمستها المبدعة أميمة عز الدين في كتابها "الأسوار البيضاء" الموجه للأطفال ووضعت يديها على بعض هذه الأسوار التي تمثلت في عدد من المخاوف التي تطارد الأطفال، "كالخوف من الكلب" عند خالد، "والخوف من الظلام" عند سارة، "والخجل وعدم التكيف" عند كريم، وأسمتها بالأسوار البيضاء لأنها أسوار غير مرئية من ناحية، وفي استخدام دلالي من ناحية أخرى يرتبط بتوظيف صفحات الكتاب فنيا داخل النص وجعلها أحد هذه الأسوار التي تعيق أبطال حكاياتها للتخلص من مخاوفهم والانطلاق إلى الحياة بشجاعة ودون مخاوف.

"الصفحات تبدو كأسوار عالية ناعمة من البلاط الأبيض (هكذا قالت سارة التي ضحكت) وسرعان ما انتقلت عدوى الضحك إليهم جميعا وهم يتسلقون الأسوار البيضاء في إصرار وثقة".

كما تم توظيف الغلاف الخلفي في وصف العلاج الناجع للتخلص من تلك المخاوف بمقولة تتصدر الغلاف الخلفي: "أمممم... الخوف....!!!! ذلك الوحش الخيالي الأسطوري وحدها الشجاعة الحقيقية تستطيع أن تهزمه وتقضي عليه" التي تبدو كمقولة كبرى للنص تحاول أن ترسخ في ذهن الطفل ما سيتولد عن قراءة الكتاب من قيم ومعانٍ.

فكلمة "الشجاعة" يسهل ترديدها طيلة الوقت، لكن العمل بها صعب على الكبار قبل الصغار إذا لم يتم إعداد نفسية الطفل لمواجهة مخاوفه، لذا كان حرص الكاتبة منذ البداية على أن تقرر بسلاسة من خلال سياق السرد القصصي وإمكاناته الفنية التي تتكفل باستجابة جمالية لدى الطفل أن تلك المخاوف التي ربما كان يشعر بها الطفل المتلقي مخاوف طبيعية يشاركونه فيها الكثيرون ومعهم أبطال الحكاية، حتى وإن اختلفت مظاهر المخاوف وتعددت كالخوف من الحيوان، (الكلب) عند خالد، أو الخوف من الظلام (سارة)، أو الخجل وصعوبة التكيف مع الغرباء (كريم).

وقد يعمق هذه المخاوف عدم الاعتراف بها كما في حالة خالد الذي يخجل من الاعتراف بأنه يخاف من الكلب.. " يتعمد إخفاء تلك الحقيقة عن نفسه وعن الآخرين..! ولا يريد أن يبدو جبانا أمام نفسه والآخرين" هكذا وصف الكاتب حالة خالد، فالاعتراف بالمخاوف أولى خطوات العلاج والمواجهة، وتحرص الكاتبة أن تعدد الأمثلة داخل الحكاية (الحكايات داخل الحكاية الأصلية) ليصل إلى ذهن المتلقي من الأطفال أنه يشارك الكثيرين تلك المخاوف فلا يخجل كحالة خالد من الاعتراف بمخاوفه والتصريح بها ليبدأ في مواجهتها.

ولترسيخ هذا النهج حرصت الكاتبة أن تمرر إلى ذهن المتلقي أن الكبار أيضا يعانون من المخاوف (حتى ولو كان الكاتب الذي يكتب لهم الحكايات بما فيها من نصح وإرشاد وربما كان هنا يرمز بصورة أو بأخرى إلى المعلم ولكن في نمطه غير التقليدي الذي لا يرتكز على التلقين المباشر وإنما يعتمد على مشاركة الطفل في البحث عن الحلول).

فالكاتب داخل النص يتململ من كتابة حكاية ويتركها قبل أن تكتمل إلى حكاية أخرى لا تعجبه فينتقل إلى حكاية جديدة وتطل المخاوف برأسها حين يعجز الكاتب عن وضع نهايات لحكاياته وينتظر أبطال حكاياته ليزورونه في أحلامه ليساعدونه في وضع النهايات للحكايات التي لم تكتمل.

فرمز الكبار في الكتاب لا يتعالون على الأطفال ويتعاملون معهم بمنطق الناصح الأمين الذي يعرف كل شيء وإنما يتعاملون وفق نهج تربوي قائم على فكرة احتياجنا جميعا إلى المشاركة والتعاون لإنجاح العمل.. "وذهب للنوم وهو يحلم بهم ويتمنى لو زاروه في أحلامه وتحدثوا إليه حتى يستطيع إنهاء ما كتبه".

كما كان علاج أبطال حكاياته في خروجهم من عزلة الصفحات البيضاء ومشاركتهم تجارب الآخرين واكتشافهم أن مخاوفهم ربما تكون أقل خطرا من مخاوف الآخرين ويمكنهم مواجهتها والتغلب عليها.. "هبت نسمات عابرة ألقت بالأوراق على الأرض اختلطت بعضها ببعض".

وحين تبادل أبطال الحكايات أماكنهم وصفحاتهم اكتشف خالد: "أن الجري من الكلب يجعله يطارده وأنه من الممكن أن يصادقه ويحضر له بعض عظام الدجاج المتبقي من الغداء وهو أهون من الخوف من الظلام الذي تخشى سارة منه"، واكتشفت سارة حين خرجت من صفحتها وتركت أخاها وأسرتها أنها برغم إضاءة المكان وتبدد الظلمة شعرت بوحشة أكبر.. "المكان موحش بدون أصدقاء وأنه لا يقل ظلاما عن الذي تخشاه".

أما كريم الذي رفض محاولات سمير لمصادقته والاقتراب منه، حين صار وحيدا اكتشف أن الخوف الحقيقي عندما نعيش بلا أصدقاء.. "أما كريم فلقد ذهب يبحث بنفسه عن سمير كي يأخذ هديته".

الصداقة.. أنها السر الكبير الذي احتفظت به أميمة عز الدين لأبطال حكايتها لتنتشلهم من مخاوفهم وتعينهم على مواجهتها بشجاعة.. "كانت الصفحات شاهقة البياض وأسوارها عالية حاول أن يتسلقها بشجاعة مرددا بصوت مرتفع: الأصدقاء... الأصدقاء".

"العجيب أن خالد وكريم وسارة اعتبروه نداءً عليهم ففرحوا كثيرا به وفعلوا مثله...."

إن قيمة الصداقة التي تساعدنا على مواجهة مخاوفنا والتعاون على حلها قيمة أساسية داخل النص لا تقل عن حرص الكاتبة على التأكيد أن كثيرا من المخاوف لا أصل لها إلا من صنع مخيلتنا كما هو الحال مع سارة حين أفزعها انقطاع النور فأخذت تصرخ في هيستيريا وتوقظ كل من في البيت حتى يكتشف القارئ الصغير أن سارة وقعت ضحية مخاوفها وأن الكهرباء لم تنقطع وإنما مخاوف سارة هي التي صورت لها ذلك، "ذهب أحمد ليرى أخته سارة التي سكت حسها فجأة والخجل يعتريها من فوقها لتحتها وأخذت تعتذر بشدة عما بدر منها وقد نبهتها أمها إلى عصابة العين السوداء التي نزعتها برفق".

رسوم الكتاب للفنانة هيام صفوت التي برعت في تجسيد النص من خلال رسوم بسيطة دالة ومعبرة تتداخل أحيانا مع النص بتقنية السيناريو المرسوم لتساعد الطفل في التفاعل مع الحدث.

لكن أهم ما يستوقفك في كتاب "الأسوار البيضاء" للكاتبة أميمة عز الدين (الإصدار الأول للكاتبة الموجه للأطفال والصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع 2011) اللعبة الفنية التي جعلت من كاتب القصة أحد شخوصها لكنه في الوقت ذاته ليس بديلا عن السارد أو الراوي العليم الذي يروي حكايات الكتاب ويروي عن الكاتب نفسه وقلقه أثناء الكتابة، كما فعل في نهاية الحكاية الأولى.. "تململ الكاتب في جلسته وهو يتأمل ما كتبه زفر بقوة وهو يضع القلم جانبا بعد أن شعر أنه لا يطاوعه وقرر أن يكتب حكاية جديدة"، أو في نهاية الحكاية الثانية.."، لم تعجبه حكاية سارة وقرر أن يجرب قلمه في حكاية أخرى.."، أو في نهاية الحكاية الثالثة.. "كان الكاتب مشغولا بأبطاله الصغار الذين يحبهم كثيرا ويظل ليالي طويلة يكتب لهم القصص الرائعة حتى شعر بالتعب والإرهاق الشديد وتناثرت الحكايات على مكتبه وذهب للنوم وهو يحلم بهم ويتمنى لو زاروه في أحلامه وتحدثوا إليه حتى يستطيع إنهاء ما كتبه...".

ورغم وعينا كقراء بأننا لسنا بصدد لعبة كسر الإيهام التي تستخدم كثيرا وبخاصة في المسرح أو لعبة الكتابة عن الكتابة التي تستخدم في أدب الكبار إلا أنه سيظل لهما صداهما داخل وعي الطفل في تنبيهه إلى أننا أمام قصة متخيلة من صنع كاتب يتجسد بوضوح داخل الحكايات ويوقف بإرادته تدفق ألحكي لينتقل من حكاية لأخرى دون أن يضع نهاية لحكايته التي كتبها قبل أن ينتقل لحكاية أخرى.

ذلك الاستخدام يبدو هاما في الحفاظ على التشويق لدى الطفل لمعرفة الحكاية التي لم تكتمل.

لكن تتبدى أهمية أكبر - في ظني - في توظيف اللعبة الفنية للانتقال ما بين هو واقعي في الحكايات إلى ماهو عجائبي بشكل سلس غير صادم لوعي الطفل ولا تجعله يتساءل عن النهاية العجائبية للقصة رغم واقعية الحكايات الثلاثة التي يرويها السارد.

لأن اللعبة الفنية جعلتنا أمام لعبة ثلاثية الأبعاد (إيهام/ واقعية/ إيهام).. ثلاثة محاور رئيسية أولها حكايات ثلاثة يكتبها كاتب هو أحد أبطال القصة " الإيهام" (فيكتشف الطفل أننا أمام قصة متخيلة من صنع كاتب حاضر بالنص)، والثانية أننا أمام حكايات واقعية يرويها الكاتب داخل القصة عن أطفال يستشعر القارئ الطفل أن الكاتب يكتب عنه هو أو عن أحد أصدقائه وعما يشعر به من مخاوف، لكن الكاتب لا يضع نهاية لتلك الحكايات "الواقعي" (تلك النهايات التي ينتظرها الطفل وتمثل إجابات عن أسئلة ستتبادر في ذهنه عن الحل الذي سيقدمه الكاتب لتلك المخاوف التي يتشارك فيها الطفل المتلقي مع أطفال الحكايات)، ثم أخيرا أمام نهاية عجائبية تناسب خيال الطفل يصنعها الأطفال أبطال الحكايات أنفسهم في غيبة الكاتب الذي كتب الحكايات وعجز عن أن يضع لها النهايات وانتظر أن يأتيه أبطال الحكايات في الحلم ليساعدوه في وضع نهاية للقصص التي كتبها، لكن أبطال الحكايات لا يملكون تلك الرفاهية التي يملكها الكاتب فكان عليهم أن يواجهوا مشاكلهم بأنفسهم دون أن ينتظروا حلا سحريا من الكاتب ويخرجوا من الصفحات البيضاء لمواجهة ما يظنونه من أخطار ومخاوف تتهددهم.

وتبدو القيمة الهامة التي تتعمق لدى الطفل المتلقي بأنه قادر وحده على التخلص من مخاوفه كما فعل أبطال الحكايات.

أحمد طوسون ـ قاص وروائي وكاتب أدب أطفال

الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

"فلفل شطة" قصيدة للأطفال بقلم: عبده الزراع

فلفل شطة
عبده الزراع

حلوة البطة
نطت نطة
دخات منى
ف قلب الشنطة
* * *
خرجت لمّا
ماما جابتها
وحطت ليها
ف بُقها شطه
* * *
خافت البطة
وقالت توبه
أدخل تانى
ف قلب الشنطة
* * *
ضحكت ماما
وبابا وجدو
وقالت ستو
علشان لمّا
تنطى النطة
تعرفى ايه
ممكن راح يجرا
* * *
قامت البطة
ونطت نطة
جنب الحيطة
شافت القطة
بتقول نونو
جريت هربت
غاظت القطة
وقالت ليها
فلفل شطة
* * *
قالت البطة
نونو نونو
لولو لولو
تيجى راح أكلك
* * *
خافت البطة
وطارت وطارت
نزلت جوه
الترعة وعامت
وغاظت القطة
وقالت ليها
فلفل شطة
* * *
قالت البطة
حطة يا بطة
أنا راح أرسم
ليكى الخطة

الاثنين، 19 ديسمبر 2011

"أذن سوداء .. أذن شقراء " قصة للأطفال بقلم: خالد جمعة

أذن سوداء .. أذن شقراء
خالد جمعة
في قريةٍ بعيدة عاشت مجموعة من القطط، نصف هذه القطط كان لونه أسود، ويعيش في أعلى النهر الذي يفصل القرية من وسطها، والنصف الثاني كان أشقر اللون ويعيش طبعاً أسفل النهر، وكان يحكم هذه القرية قطّان، قطٌّ من أعلى النهر ويستمر حكمه طوال أشهر الصيف والخريف، ثم يعطي الحكم للقط الآخر من أسفل النهر ليحكم في الشتاء والربيع، وكان هناك جسر خشبي يقطع النهر من ضفة إلى أخرى، لكن القطط لم تكن تستعمل هذا الجسر كثيراً لأن العلاقات بينها كانت مشوشة.
وكثيراً ما كانت المشاكل تحدث بين القسمين إما على مجموعة فئران تهرب من أعلى النهر إلى أسفل النهر فيطالب بها سكان الضفة الأخرى على اعتبار أنها تعودُ لهم، وإما تكون المشكلة على اليوم الذي ينتهي فيه الفصل، فيطلب القط الأشقر من القط الأسود التنحي عن الحكم فيدعي الآخر أن الفصل لم ينتهِ بعد لكي يزيد في مدة حكمه يوماً أو يومين.
وذات يوم ولدت قطة شقراء قطاً رمادياً، وكان لونه جميلاً إلا أنه لا يشبه أي قطٍّ في قسمي القرية، ولهذا فقد كان هذا القط موضع إعجاب القسمين، فكانوا يتسابقون لملاعبته وإطعامه لأنه عدا عن كونه جميلاً فقد كان ذكياً كذلك، وشجاعاً أيضاً حتى أنه لم يكن يتردد في قطع الجسر فيبيت مرة عند أصدقائه في أسفل النهر أو عند أصدقائه أعلى النهر.
ومرت الأيامُ وكبر القطُّ الرماديُّ في الوقت الذي كان فيه القطان الحاكمان يهرمان، فاتفق الجميع ولأول مرةٍ على أن يجعلوا القط الرمادي حاكماً عليهم ولم يجدوا من يعترض على هذا الاقتراح لأن القط الرمادي كان محبوباً من الجميع.
وبعد أيامٍ قليلةٍ من حكم القط الرمادي كانت مجموعة من القطط أسفل النهر تطارد مجموعةً من الفئران من أجل الإفطار، وحدث أن هربت الفئران إلى أعلى النهر، فقام سكان أسفل النهر بمنع القطط السوداء من الاستمرار في مطاردة الفئران داخل منطقتهم، وبعد عراك طويل قرروا أن يذهبوا إلى القط الرمادي ليحكم بينهم، ولما دخلوا عنده طلب من أحدهم أن يشرح له ما حدث، فبدأ القط بالحديث إلا أن جميع القطط من القسمين صاروا يتحدثون بصوتٍ عالٍ في وقتٍ واحد، فلم يتمكن القط الرمادي من سماع المشكلة، ورغم جميع محاولاته إلا أن القطط لم تسكت، فانتظر القط الرمادي حتى تعب الجميع من الصراخ ثم أصدر قراراً عجيباً.
لقد أمر كل قطٍّ أن يسلّمه أذنيه، وقامت القطط بتسليم آذانها للقط الرمادي وهي لا تعرف ما الذي سيفعله بها، وعندها أشار لهم القط بالإنصراف.
وبمرور اليوم الأول شعرت القطط جميعها بالإنزعاج، فلم تكن تسمع صوت الفئران وهي قادمة، ولم تستطع سماع نداءات أطفالها الصغار، وحتى عندما يأتي أحدها ليتحدث إلى الآخر فلم يكن يسمعه، كان الأمر غريباً ومزعجاً.
وفي اليوم التالي قام القط الرمادي باستدعاء القطط من القسمين، وأخذ يوزع الآذان عليهم، ولكنه عمل حيلةً صغيرة.
فقد وزع آذان أسفل النهر على سكان أعلى النهر، وفعل العكس مع سكان أعلى النهر، وبمجرد أن فعل ذلك قال لهم:
أظن أنكم تسمعون جيداً الآن، لو أن كل واحد سمع ما سيقوله الآخر لما كانت هناك مشاكل، فكل مشاكلكم تأتي لأنكم لا تسمعون إلا ما تريدون سماعه.
أحنت القطط رؤوسها وخرجت من عند القط يملؤها الخجل، ولكن الأمر الجميل في الحكاية أن القطط صارت تستمع إلى بعضها، ولكن ليس بسبب الخطاب الذي ألقاه القط الرمادي، ولكن لأنها كلما واجهتها مشكلة، نظرت إلى بعضها، فإذا كان القط أسود فإن أذنيه شقراوان، وإذا كان أشقر فإن أذنيه سوداوان، وكلما شاهدوا ذلك تذكروا حكاية الفئران، ولكنهم كانوا دائماً يتساءلون: هل كنا بحاجةٍ إلى أذنين مختلفتين حتى نصغي إلى بعضنا؟؟؟


"الفيل يريد أن يلعب" قصة للأطفال بقلم ورسوم: مجدي نجيب


الأحد، 18 ديسمبر 2011

" العصفور الجميل" قصة للأطفال بقلم عزالدين جلاوجي

العصفور الجميل
نالت جائزة وزارة الثقافة في مسابقتها سنة1999
 عز الدين جلاوجـي-الجزائر 

الحياةُ جميلةٌ، كُلّ ما فيها يدعُو للسَّعادةِ والتّفاؤُلِ، وكُلُّ ما فيها يدعُو للفرَحِ والحُبورِ، اخضرارُ النّباتاتِ، اختلافُ ألوان الأزهارِ، إضاءةُ القمرِ، تلألؤُ النّجوم في صفحةِ السّماءِ، إشراقةُ الشّمسِ الذّهبيَّةِ، روعةُ الحيواناتِ والطّيور.
وبقدرِ ما كان طارقٌ طفلاً مهذّباً في أخلاقهِ، مجتهداً نجيباً في دروسه، كان محبّاً للطّبيعةِ الفاتنةِ ومحبّاً لكلِّ ما خلقَ اللهُ فيها، لكنّ حبَّه للطّيورِ والعصافيرِ أشدُّ من كلّ شيءٍ. يتملّكه الإعجابُ بها وهي تحلّقُ في الجوِّ باسطةً أجنحتها دون أن تسقطَ إلى الأرضِ. ويَطرَبُ أشدَّ الطَّرب لنغماتها الشَّجيَّة الّتي تبعثها في كلِّ حين، خاصّةً في الصّباحِ الباكرِ حينَ تستيقظُ مِن نومها، وفي المساءِ حين تَؤُوبُ إلى أعشاشها، تجتمعُ استعداداً للنَّومِ.
أمّا جمالُ ألوانِها،ونعومةُ ريشِها، واختلافُ أشكالها، فهي ممّا يثيرُ فيه اهتمامَه بالرّسم، فيرسمَها على الأوراقِ البيضاءِ، ويلوّنَها بالألوانِ الجميلةِ المشرقةِ.
ولكن‏َّ طارقاً أحسَّ أنَّ الطُّيورَ بعيدةٌ عنهُ، لا يَراها إلاّ في الجوِّ طائرةً محلِّقةً، أو على أغصانِ الأشجارِ، مرتاحةً مُزَقْزِقَةً. لذلكَ قرَّر أنْ تكونَ عندَهُ، يلمسُها ويداعبُها، ويلعبُ معها، وقضى ليلَتهُ مفكّراً في طريقةٍ تمكِّنُهُ من ذلك. وفعلاً وجدها، واستعدَّ لتنفيذها. 
وما إن أصبحَ الصّباحُ، وأشرقتِ الشّمسُ، حتّى اندفعَ خارجاً إلى حديقةِ البيتِ، وانْهمكَ في عمله بجدٍّ ونشاطٍ، وفجأةً دقَّ جرسُ البابِ، فأخفى ما كان يُعِدُّهُ، وهرع ينظرُ مَن القادمُ، الّذي لم يكنْ  سوى صديقِه خالدٍ، فأدخلهُ بسرعةٍ إلى الحديقةِ وراح يشرحُ له خطّتهُ.
- خالد يا صديقي العزيز، أنت تعرف حبِّي الشديدَ للعصافير.
وقاطعه خالد ضاحكا :
- يا صديقي طارق، الأطفال جميعا يحبُّونَ العصافيرَ.
ردَّ طارقٌ بسرعة :
- أعرفُ، أعرف ذلك، و مَن منَّا لا يحبُّ الجمالَ؟ لكنِّي مفتونٌ بها، ولذلك قرَّرت أن أصطادَ عصفورا.
وَبَدَا الاستغرابُ و الدَّهشةُ على وجهِ خالد وقال :
- تصطادهُ ! أبالمِقْلاَعِ أمْ بالفَخِّ؟ لا يا صديقي لا تفعلْ، رُبما ستقتلها، وحرامٌ قتلُ العصافير.
ربَّتَ طارقٌ على كتفِ صديقه مُطَمْئناًوقال:         
- اطمئنْ تماماً، فلن أُوذِيها أبداً، ولكني صنعت قفصاً هذا الصباحَ، وسوف نضعه هنا في الحديقة، ونملأُه قمحاً، ثمَّ نفتحُ بابَه، ونُلصقُ بالباب خيطاً، نمسِكُ نحن بطرفه الثاني، ونختبئُ خلف جذع الشجرةِ الكبيرةِ، حتى إذا حطَّتِ العصافيرُ، ودخلتِ القفصَ، أغلقنا البابَ، وأمسكنا بالعصفور.
وأُعجب خالدٌ بالفكرة، فهتفَ مِن أعماقه:
 - يا لها من حيلةٍ ذكيَّةٍ ! ويا لك مِن عبقريٍّ يا صديقي !          
وأخرجَ طارقٌ القفصَ مِن مَكْمَنِهِ، ملأه قمحاً، وربطَ ببابه خيطاً، وأسرعاَ بالاختفاء خلفَ جذعِ الشجرةِ، ولزماَ الصَّمتَ المُطْبَقَ.
ومرَّتْ لحظاتُ ترقُّبٍ طويلةٌ، لا تُسمع فيها إلاّ زقزقاتُ العصافيرِ تملأُ الحديقةَ.
وفجأةً حطَّ عصفورٌ جميلٌ، ورقصَ قلبُ الصديقين، وأمسكا بالخيطِ جيِّداً لجذبهِ. التقطَ العصفورُ حبَّةً وثانيةً، ثمَّ رجعَ إلى الوراءِ كأنما أحسَّ بالفخِّ المنصوبِ، وابتعد باحثاً في التربة عن طعامٍ لهُ.
وأحسَّ الصَّديقان بالحزنِ الشَّديدِ، ونطق طارقٌ قائلا:
 - ما أغباني! لقد سقطَ منِّي بعضُ الحبِّ خارجَ القفصِ لقد كُنت...
وقاطعه خالدٌ :
- اُسكتْ ها هُوَ عصفورٌ ثانٍ، إنَّه أجملُ من الأوَّل بكثير.
ولزما الصَّمتَ تماماً، ودرجَ  العصفورُ هنا وهناك مَرِحاً فرِحاً، ثمّ طار ليحطَّ فوقَ القفصَ، ثمَّ نزلَ واقتربَ من الباب، ودقَّ قلبا الصديقين بقوة فرَحاً وسعادةَ، وأمسكا بالخيط جيِّدا، لكنَّ قِطّاً ظهرَ فجأةً من هناك فاندفعَ العصفورُ طائرا نحو الأشجار.
وأحسَّ طارقٌ بالقلق الشَّديد وقال:
- تبًّا لهذا القطِّ، لقد ضيَّع علينا الفرصة.
ردَّ خالدٌ بهدوءٍ:
- اصبِرْ، فالصَّبرُ مفتاحُ الفرجِ.
ولزما الصمتَ التامَّ، لا يُسمعُ في الحديقة إلاَّ زقزقةُ العصافيرِ الجميلةِ، ومُواءُ القطِّ ينبعثُ من حينٍ لآخرَ، وأنفاسُهما المتتالية، وطالَ الانتظارُ.. تململَ طارقٌ في مكانه، وفتحَ فَاهُ ليقول شيئاً، لكنه لَزِمَ الصَّمتَ، ها هُوَ ذا عصفور جميل يحطُّ بالقرب من القفص.
ما أجملَ ريشَهُ النَّاعمَ المزركَشَ، ومنقارَه الأحمرَ الحادَّ، وساقيهِ النَّحيفتين، إنَّه يقفزُ، يقفزُ، ويَنُطُّ هنا وهناك فرِحاً بالحبِّ. أكل واحدة وأخرى، وامتدَّ بصرُه إلى القفصِ، وأبْصرَ ما به مِن حبٍّ كثيرٍ فهزَّتهُ الفرحةُ، واندفعَ نحو البابِ، ودقَّ قلباَ الصديقين فرَحاً وخوفاً، فرحاً لأنَّهما سَيقْبِضَانِ على هذا العصفورِ الجميلِ بعد قليلٍ، وخوفا لأنَّهما كانا يخشَيَانِ أنْ يطيرَ إلى غيرِ رجعةٍ.
وفعلاً توقَّفَ العصفورُ الجميلُ عندَ البابِ، نظرَ هنا وهناك، وطارَ، فحطَّ فوق الشجرةِ، وأرسلَ زقزقةً جميلةً جدًّا، كأنما يدعو أصدقاءَه إلى مُشاركتِه في هذه الأُكلةِ الشَّهيَّة اللَّذيذةِ.
قال خالدٌ بغضبٍ :
- لقد ضاعتْ منَّا الفرصةُ الثالثةُ والأخيرةُ، وذهبَ صبرُنا أَدْرَاجَ الرِّياحِ.
ردَّ طارقٌ وهو يشيرُ بإصبعه:
- اُنظرْ إنّه هناكَ، يدعو أصدقاءَه العصافيرَ كي يشاركوهُ في هذه الأكلةِ اللَّذيذةِ.
وفِعلاً حطَّ العصفورُ الجميلُ ثانيةً قُرْبَ القفصِ، نظر هنا وهناك في حذرٍ شديدٍ، ثمَّ طار فحطَّ فوقَ القفصِ، تأمَّلَهُ، تأكَّدَ مِن وجودِ الحبِّ داخلَهُ، ثمَّ قفز إلى الأرض وَانْدفعَ داخلاً.
فأسرعَ الصَّديقانِ إلى جَذبِ الخيطِ، فانغلقَ القفصُ، وانقلبَ، فانقلبَ العصفورُ المسكينُ داخلَهُ، واندفعَ الصَّديقان نحوهُ، يفرحانِ وهما يقولانِ:
- أتعبتَنَا أيُّها العصفورُ الشَّقيُّ.
مدَّ طارقٌ يدَهُ ليمسِك بالعصفورِ الجميلِ، ففرَّ متملِّصاً منه، حتَّى انْزوَى في الرُّكْن، لكنَّ يدَ طارقٍ أمسكتْ بهِ وأخرجتْهُ،قال خالدٌ وهو يراهُ :
- الله ! لم أرَ مثلهُ في حياتي أبدا، دعني أُمسكه وأقبِّله.
قبَّلاهُ على رأسه الصَّغيرِ الجميلِ وأعاداهُ إلى القفص، وعلَّقاهُ على غصنِ شجرةٍ قريبٍ مِن الأرضِ، وراحا يتأمَّلان العصفورَ، وهو ساكنٌ منكمشٌ حزين، وقال مندهشا:
- ما بال هذا العصفورِ؟ لقد تغيَّرتْ حالُه تماماً، ولم يعدْ يغرِّدُ فرحاً كما كان.
ردَّ خالدٌ :
- عندي فكرةٌ، هيَّا نصفِّقُ ونغنِّي له،   
وسوف يذهبُ عنهُ الخوفُ.
- هيَّا..هيَّا..واندفعَا يصفِّقانِ ويغنِّيانِ ويدورانِ حولَ القفصِ.      
غَـرِّدْ يا عُصفُور       وأنشدِ الألحَان
وأطرِبِ الأطْفَال        بِصوْتِك الرنَّان
أنا بـِك فرْحان        أنا بِـك وَلهان
غـرِّد يا عُصفور       وأنشدِ الألحان
لكنَّ العصفورَ الجميلَ لم يحرِّكْ ساكناً، وبقيَ جامداً حزيناً مُنزوياً في ركنِ القفصِ، ووقفَ الصَّديقانِ حائريْنِ، إنَّهما في وَرطةٍ حقًّا فما الحل؟
قال خالد : لنواصلِ الغناءَ
 واندفعا يغنِّيان :
عصفورُنا الجميل        ذيلُه طويـل
ساقُه  نحيــف         جناحُه خفيف
مـنقارُه  صـغير        ريشُـه غزير
شكلُه  بـديـع         قفـزه سريع
يا ربِّ احفـظْ عـصفـورَنا الصَّغير
احفـظْه مِـن كلِّ ظــالمٍ شِـريـر
يا ربّ...
وتوقَّف الصغيران عنْ الغناء فجأةً، وبَدَا عليهما خوفٌ شديدٌ، ما الّذي تغيَّر؟ لقد شاهَدَا الأبَ يُقبلُ بين أشجارِ الحديقَةِ، ولم يتحرَّكا، ولم يَنطِقا بكلمةٍ، حتَّى وصلَ إليهما.
- السَّلام عليكما.
وردَّا بصوتٍ خافتٍ :
- وعليكَ السَّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
تفحَّصَ الأبُ المكانَ ببصَرهِ الثَّاقبِ مِن خلفِ النَّظَّارة وقال:
- يا سَلام قفصٌ وعصفورٌ !
واندفعَ طارقُ محاولاً إرضاءَ أبيهِ فقال:
- لا شيءَ ياأبتِ، سِوى أَننا صَنعنا قفصاً صغيراً، اُنظرْ ما أبدَعهُ ثم اصطدْنا عصفوراً صغيراً، انظرْ ما أجملَهُ ! نحن نحبُّ العصافيرَ يا أبَت.
ردَّ الأبُ بهُدوءٍ :
- حبُّكما للعُصفورِ لا يكونُ بسِجنِه لأنَّ العصَافِير لا تحبُّ أنْ تحيَا وتعيشَ إلا حُرة طليقَة في الطَّبيعة، حيثُ خلقَها اللهُ، وتصوَّرا لوْ أنَّ كلَّ واحدٍ منَّا اصطادَ عصفوراً لخلتِ الطَّبيعةُ مِن العصافيرِالجميلةِ، و ما أتْعسَ الطَّبيعةَ دونَ عصافيرٍ! ...اُنظرَا إليهِ كيفَ هُو حزينٌ، مَن سيحملُ اللَّيلةَ إلى فِراخهِ الصِّغارِ طَعامَهُم؟ ومَن يحميهِم في عُشِّهِم مِن البردِ والأعداءِ، طبعاً لا أحدَ.
وأجْهشَ الصَّديقانِ يبْكيانِ حُزناً، لقدْ أحسَّا بالخطإ الجسِيمِ الذّي ارْتكباهُ في حقِّ العصفورِ الجَميل.
ربَّتَ الوالدُ على رأسيْهِما بحنوٍّ و قال:
- لا تبْكيا، سنُطلقُ سراحَه، و لكن يجبُ أنْ تُكَفِّرا عن هذا الذَّنْب الذي اقترفتُماهُ في حقِّ هذا العصفورِ  المسكِين.
وانْدفع طارقٌ ليقولَ بحماسٍ:
-سنكَوِّنُ جمعيةً، نُسمّيها جمعيةَ حمايةِ العصافيِر، نُفهِمُ مِن خلالها النّاسَ جميعاً و الأ طفالَ خاصّةً، قيمةَ العصافيرِ، ووجوبَ حمايتِها.
وأعجبَ خالدٌ بالفكرةِ فعلَّقَ فرحا :
- فكرةٌ جميلةٌ، سأكونُ عضواً نشيطاً فيها، نحمي العصافيرَ في الطَّبيعةِ،ونُدافعُ عنها ضدَّ كلِّ الأشرارِ.
ومدَّ الأبُ يدهُ إلى القفصِ، فأمْسكَ بالعصفورِ بلُطفٍ شديدٍ، وقدّمَهُ لطارقٍ و قال :            
- قَبِّلاهُ، و أطلِقا سراحَهُ.
قبّلهُ الصّديقانِ، ودفعَ به طارقٌ إلى الأعلى، فصفَّق بجناحَيه، وانْدفعَ فحطَّ على غُصنِ شجرةٍ، ونظرَ إليهِما بفرحٍ، ثمَّ أرسلَ تغريدةً جميلةً جدًّا، كأنّهُ يشكرُهم و يُودِّعُهم، ثمّ انْدفعَ محلِّقاً في الفضاءِ حيثُ الحرِّيةُ، والحياةُ الجميلةُ.

الخميس، 15 ديسمبر 2011

"الحذاء الهرّاب " قصة للأطفال بقلم: محمد عاشور هاشم

الحذاء الهرّاب
محمد عاشور هاشم

كان الحذاء قد وصل لقمة تضجّره من بقائه في حيازة صاحبه .. فصاحبه ذو وزن ثقيل جدا ما أن يلبسه حتى يشعر بأن جبلا قد انحط فوق رأسه ولا يعود يشعر بالراحة إلا عندما يخلعه فيتنفس الصعداء ويشعر أنه قد عاد للحياة من جديد .
كثيرا ما اشتكى الحذاء لإخوته – الأحذية الأخرى التي في حيازة صاحبه - طالبا منهم أن يجدوا له حلا في مشكلته التي ناء بحملها .. وكان صاحبه لا يلبس حذاء غيره ، رغم أنّ لديه عددا وافرا منها ، فهو – لسوء حظ الحذاء – لا يرتاح إلا معه هو بالذات .
- أنجدوني يا عالم .. فسأتلف عما قليل إن لم يتركني صاحبي في حالي ويلبس حذاء آخر.
كان دائما ما يقول لهم ذلك .. وكانوا هم يضحكون منه ويسخرون ، وهم يشعرون أن ما يحدث له إنما هو في صالحهم فهم لا يَتْعَبُون ولا يُهْلِكهم صاحبهم في مشاويره الكثيرة .
اليوم وصل الحذاء لقمة غضبه ولم يعد يستطيع أن يتحمل أكثر من ذلك .. قال لهم بغيظ :
- لقد فاض بي الكيل .. ولن أتحمل أكثر من ذلك إما أن تخففوا الحمل عني ، فيلبس صاحبي بعضا منكم ، وإلا انتقمت منكم ...
ضحك إخوته من قوله وسألوه :
- وكيف ستنتقم منا يا ( أبو الأحذية ) ؟
- سأنتهز الفرصة وأهرب تاركا لكم الجمل بما حمل ؟
ضحكوا منه من جديد وقالوا في لهجة ساخرة :
- أرنا شطارتك وافعل ما حلا لك .. فأنت المتضرر من هذه الحال أما نحن فمستريحون ولن نعمل على تغييرها أبدا ..
زفر الحذاء في ضيق وهو يشعر باضطهاد إخوته.. تمتم في أسف :
- أهكذا يا إخوتي ..إذن والله لا أقعدن معكم بعد الآن .
في الليل حينما نام الجميع تسلل الحذاء محاولا الهرب ، مضى في الظلام فخرج من تحت السرير حيث يضعه صاحبه ، راح يمشي على بوزه محاولا ألا يحدث أيّ صوت ، خرج إلى الصالة ووجد الباب مغلقا ، فقرر أن يتسلل من النافذة إلى الشارع ، حقا سيصيبه الألم من وقوعه من ذلك العلوّ الشاهق - حيث يسكن صاحبه في الدور الرابع – لكن أيّ ألم يهون أمام ذلك الألم الذي يشعر به وهو تحت قدميّ صاحبه . في اللحظة التي كان سيلقي فيها بنفسه من النافذة أقبل إخوته عليه وهم يتصايحون قائلين له :
- إلى أين يا ( أبو الأحذية ) ؟ إلى أين تريد أن تذهب وتتركنا ؟
وتكاثروا عليه وحملوه وأعادوه إلى مكانه وهم يقولون له :
- لن ندعك تهرب .. ولن تغيب عن أعيننا بعد اليوم .
وضع الحذاء يده تحت خده وهو يشعر أنه مغلوب على أمره ، شعر باستياء شديد .. لكنه قرر ألا يستسلم فسيحاول من جديد الهروب .
بعد يومين آخرين غافل الجميع وقذف بنفسه من النافذة في وضح النهار ولكن لسوء حظه وقع على رأس أحد المارة الذي أخذه وصعد لصاحبه وقد آلمه سقوطه فوقه ، فقذف به أمامه بقوة وهو يبرطم ، طالبا منه أن ينتبه ولا يقذف بأحذيته من النوافذ حتى لا تقع على رءوس الناس .
تأسف صاحبه للرجل وهو يؤكد له إنها غلطة لن تتكرر ثانية ، كان يظن أن أحدا من البيت هو الذي ألقى به من النافذة ، لهذا كان يشعر بأسف حقيقيّ تجاه الرجل .
بعد أن انصرف ، لبس الحذاء وخرج ، وراح يسير به ماضيا إلى منزل أحد أصدقائه .. كان الحذاء يشعر أنه سيموت من تحته ، راح يتأوه مع كل خطوة يخطوها وهو يقول مستغيثا :
- آآآآه يا يأفوخي .. الحقوني يا ناس ..ألا يوجد من يرحمني من هذا العذاب ؟
وصل صاحبه إلى بيت صديقه ، فخلعه على عتبة حجرة الصالون ، فتنفس الحذاء من الأعماق ، ووجدها فرصة جيدة للهرب ، فزحف بهدوء ، كلص محترف ، إلى أن وصل إلى إحدى الأرائك فاختبأ خلفها وظل وراءها إلى أن حان وقت انصراف صاحبه.
بحث صاحبه عنه فلم يجده ، تساءل في عجب : أين ذهب ذلك الحذاء ؟ بحث معه صديقه لكنهما لم يعثرا عليه ، سأله الصديق : هل جئت وأنت تلبس حذاء ؟ فنظر إليه باستهجان وقال : وهل سأسير حافيا ؟
وتابعا البحث ولكنهما لم يجداه فعرض عليه صديقه أن يأتيه بحذاء آخر من عنده ، وحينما سمع الحذاء ذلك ، أخذ يتمتم في سرّه قائلا :
- نعم .. نعم .. أرجوك هات له بحذاء آخر !
لكنّ الصديق عاد فرفع الأريكة التي كان يختبأ خلفها ووجده ، وأمسكه وأخذه إلى صاحبه وهو يقول :- ما هذا أتجيء معك بأحذية تمشي .. أمسك يا رجل .. وفي المرة القادمة انتبه جيدا أين تضع حذاءك !
وبالرغم من فشله الجديد إلا أنه لم يستسلم ، فانتهز فرصة أخرى عرضت له ، وذلك حينما لبسه صاحبه وخرج به إلى المسجد ، وتركه بجانب أحذية أخرى كثيرة .. فاندس وسط الأحذية بحيث لا يراه صاحبه ، وحينما عاد الأخير لم يجده ، وبينما راح يبحث عنه أقبل رجل آخر ولبسه ، وهو يظن أنه حذاؤه ، ومضى به إلى بيته .
فرح الحذاء بنجاته من صاحبه ، وازداد فرحه عندما وجد أن صاحبه الجديد ذو وزن خفيف جدا مقارنة بصاحبه السابق ، وأن لديه هو الآخر أحذية كثيرة ، ولكنه لا يركز على أحدها بعينه وإنما يتناوب على لبسها جميعا .
استخفت الفرحة بالحذاء فكاد أن يجن ، ولكن لسوء بخته رآه صاحبه القديم في المسجد ثانية ، تعرف عليه من بين الأحذية الكثيرة المتراصة إلى جانب بعضها ، وكأنما عثر على كنز ، فأخذه بعد أن أقنع الرجل الذي أخذه قبل سابق بأنه صاحبه وأنه ضاع منه منذ عدة أيام .
أسقط في يد الحذاء وكاد أن يجن من جديد ولكن هذه المرة من الحزن .
ظل عدة أيام أسيرا لحزنه ، ثم عاد وقرر ألا يستسلم للأمر فسيحاول الهرب من جديد..
راح يتحين الفرص ولكن حدث شيء غيّر تفكيره وجعله يرضى بالبقاء في حوزة صاحبه ، فقد ذهب الأخير يخطب إحدى الفتيات ، واشترطت الفتاة عليه أن ينقص من وزنه لكي تقبله زوجا.
فلجأ صاحب الحذاء لحِمْيَة قاسية (رجيم) أنقصت من وزنه كثيرا ... فأصبح خفيفا لا يتأذى الحذاء حينما يلبسه ، ففرح الحذاء لهذا كثيرا بل وأصبح يفاخر إخوته بأن صاحبه يفضله عليهم جميعا ولا يلبس حذاء آخر سواه .