النسر الذي ظنّ أنه دجاجة
فرنسيس ك. خوشو
الترجمة من الأنكليزية : حنا شمعون
يُحكى انه في قرية منكَيشي الواقعة في بلاد النهرين كان هناك مُزارع
يعيش مع زوجته. في الذكرى الثانية لزواجهما انجبا طفلاً أسمياه نيسان لأن
الطفل ولد في اليوم الأول من شهر نيسان الذي يصادف رأس السنة البابلية
الآشورية. في كل عام حين مجيء هذا اليوم يحتفل الكلدان- الآشوريون لقدوم
العام الجديد ويبدأ احتفالهم في الحادي والعشرين من شهر آذار وحتى الأول من
شهر نيسان. الأحتفال يرمز الى قدوم الربيع وتجديد الطبيعة لذاتها. هذا
التجديد يشمل الحيوانات ، الطيور الأشجار، الأزهار وبشكل خاص الأنسان الذي
هو أسماهم في المصير.
ومع نمو بدنه، ابتدأ نيسان يساعد والده في شؤون البيت والزراعة. وفي أحد
ايام الربيع حين كان شهر نيسان يقترب من نهايته سمح والد الفتى نيسان ان
يمتطي ابنه ظهر بغلة العائلة ليصاحبه حيث هو سفح جبل القرية لجمع الحطب
وقطع الأشجار المتيبسة ، من اجل استعمالها لأغراض التدفئة والطبخ.
الهواء كان مفعماً بالنسيم العليل لفصل الربيع . واشجار الفاكهة المحيطة
بالقرية كانت قد أطلقت تواً البراعم بألوانها الزاهية منها البيضاء ومنها
الوردية، ويشعر المارون بقرب تلك الأشجار بعبق رائحة براعمها العطرة. عِبر
الطريق نحو الجبل عَبر نيسان فوق عدد من السواقي لينابيع منكيشي المتدفقة
من باطن الأرض وهي تجري كالسلسبيل المتموج فوق الأحجار الملساء او الأغصان
التي سقطت في الشتاء الفائت وجمعتها الريح في المجرى لتعترض برقة انسياب
الماء الصافي كالزلال. العصافير بأنواعها كانت تُسمع زقزقها في تلك الصبيحة
في حين كانت مُنشغلة في بناء أعشاشها او في تفقيس البيض في تلك الأعشاش
المبنية بمهارة فائقة. ضفادع الشجر الصغيرة الخضراء كان يسمع نقيقها الصاخب
والنحل النشيط كان يطنطن في كل مكان. وفي الطرف الآخر من الوادي غمر
الأنشراح وجه فتى وهو يستمع الى دقات ألاجراس المعلقة في رقاب نعجاته وهي
تقضم الشجيرات الطرية. من ضمن ألأزهار الوفيرة في مروج منكَيشي، فترة
الربيع، هي: الورود البرية ، القزحيات، شقائق النعمان، الخطميات، الصفير،
آذان الدب، الخشخاش، النرجس، البنفسج، السحليات، الخزاميات، عشب الحوذان،
حشائش الحجل وزنابق النمر التي هي تبهر الانظار وتنبعث منها على بعد رائحة
زكية وعطرة . في الحقيقة، الطبيعة في ربيع منكَيشي مزينة بألوان جميلة تجعل
مروجها تبدو مزدانة بألوان مختلفة من الورود الممتدة لمسافات طويلة، كأنها
قوس قزح وقد سقطت على الأرض.
وخلال مساعدة نيسان لأبيه في جمع الحطب وتقطيع الأشجار اليابسة قرب سفح
الجبل وقعت عيناه على عش كبير. تسلق الفتى نيسان الصخور الوعرة الى حيث هو
العش واذا به عش نسر تبلغ سعته ستة أقدام وارتفاعه حوالي اربعة اقدام وقد
بنيّ على صخرة كلسية ارتفاعها مائة وخمسين قدماً . هيكل العش كان مؤلفاً من
أغصان غليظة واخرى نحيفة وثالثة انحف وقد غُزلت جميعها بأبداع لا مثيل له.
وفي داخل العش فرشت حشائش ملونة ناعمة تنمو أصلاً على شكل باقات بين شقوق
الصخور. في داخل العش رأى نيسان بيضة ناصعة البياض مرقطة باللون البُنّي
وزنها حوالي اربعة اوقيات ونصف.
أخذ نيسان البيضة وجاء بها الى البيت .أعطاها الى امه طالباً منها ان
تضعها مع بقية البيض المؤشر بمسحة من محلول الفحم المركز. وكانت الدجاجة
البيضاء قد أظهرت علامات الحماوة وكانت قد عُزلت عن بقية الدجاج في قنٍ
مؤقت لتحتظن البيض المؤشر بالفحم، لحين اطلاق فراخها.
الدجاجة الحاضنة احتظنت جميع البيض بما في ذلك بيضة النسر التي جلبها
نيسان. وكانت الدجاجة لا تبارح قنها الا لبضع دقائق من أجل رشفات الماء من
الزقاق المجاور والتقاط بعض الطعم من هنا وهناك. ظلت الدجاجة البيضاء تحتظن
بيضها لمدة اربعة اسابيع . وفي بداية شهر حزيران، والربيع ما زالت أثاره
في الهواء و ريف منكَيشي يحتفظ ببعض الأخضرار، صَدّع اول كتكوت قشرة البيضة
ومن ثم كسرها وخرج منها واذا به ” نُسَير” ابيض كثيف الشعر. عملية تفقيس
البيض هي حقاً عملية شاقة بالنسبة الى الدجاجة الحاضنة حيث تَنشر، مُجبَرة،
جناحيها بقدر المستطاع لتحضن كل البيض ويلاحظ راسها متدلياً من عنقها كأن
الضجر قد نال منها بسبب طول فترة الأحتضان.
النسر الصغير استمر في النمو مع بقية الفراخ وهي تسرح مع الأم في
جولاتها اليومية نحو مزبلة القرية حيث الطعام الوافر، وكان مع البقية يلتقط
ما يعثر عليه من حبوب أو طعام زائد من الذي كان يلقيه الأهالي في المزبلة.
وكان ” النُسير” تراه أحياناً في صراع مع اخوته من اجل التقاط دودة صغيرة
حملها حظها العاثر نحو مسيرة هذه المجموعة الباحثة الى لقمة العيشى، وكان ”
النسير” في مثل ذلك الصراع هو الفائز بالغنيمة وكانت بقية الفراخ تقترب
منه لتشاركه في غنيمته.
مرت الأيام ونما النُسير مختلفاً عن بقية أفراخ الدجاج . عينان عسليتان ،
مخالب حادة ، رأس وذيل يلمعان، ريش بنيّ أسود ومنقار معكوف ليس له شبيه في
بقية الطيور. بعد عدة شهور والنُسير لازال يرافق بقية الفراخ متعوداً على
حياة القرية وغير منتبه الى القابلية الخاصة التي وهبته اياها الطبيعة.
في احدى ظهريات فصل الصيف حيث بريق الشمس يلمع عالياً فوق أجواء منكَيشي
ودرجة الحراة قد بلغت اوجها مما يجعل كل حيّ كسول في حركته، كان نيسان
مستلقياً على ظهره على حشيش المرج تحت شجرة البلوط الكبيرة وعيناه تحدقان
في السماء الصافية ،الا من بضعة غيوم متناثرة كالقطن المندوف. حجب نيسان
بعض من بصره بواسطة قبعته االتي جدلها من عود الحشائش البرية وبدأ كانه
يستمع الى هدوء السكينة من حوله. كان السكون من حوله صامتاً لدرجة انه كان
يتميز فيها تضارب اوراق شجر البلوط الوارفة بظلها على جسده المستلقى على
الأرض. الصرصار والجراد البري كل منهما يطنطن بأجنحته كانهما يضربان اوتار
العود بوتيره واحدة. والنحل تُسمع حركته كأنه يتعثر في طيرانه في مطبات
الهواءالساخن. بين الحين والآخر كان نيسان يرفع قبعته ليشاهد النُسَيروهو
يلقط من حوله الحُبيبات المتناثرة هنا وهناك وربما بعض الحشرات او الدود
الأرضي الذي أصبح العوبة لضربات منقاره. في قيظ ذلك النهار اللاسع بحرارته ،
غلب النعاس على الحيوية المتبقية في جسد نيسان اليافع ، كأن صمت الصيف
الهادي قد ملأ سمعه وفكره، وأستسلم لنوم عميق تحت شجرة البلوط و طيف
اوراقها تتراقص بهدوء على قامته النحيلة.
حقيقة الأمر ان الفضاء من حول نيسان لم يكن صامتاً بالتمام، فهناك كان
نسر كبير يحوم بهيبة وقد امتدت قوة جناحيه بسعة ستة أقدام. ريشه مصقول كأنه
درع لمّاع يعكس بريق الشمس الساطعة، منقاره الرصاصي الضارب الى الزرقة
يوحي بالعنفوان، مخالب أرجله حادة وصقيلة. وكان أحياناً ،حين يقبل على
تغيير وجهته، يرفرف جناحيه الضخمين في سكون الهواء. ظِلُ جناحيه زحفتا على
الأرض وفوق مجموعة الفراخ التي كانت تقتات طعامها اليومي. فجأة سمع نيسان ،
وهو في نومه العميق، صخب هرولة وطقطة أجنحة من اتجاه مجموعة الفراخ التي
كانت قبل قليل تجاهد لنيل الحُبيبات من بين جنبات الحشيش. نهض فجأءة ليعرف
سبب الأضطراب الحاصل بالقرب منه. لمح بصره النسر الضخم وهو يحاول الأنقضاض
على المجموعة وقد أعد كماشة مخالبه القوية المعكوفة ليلتقط احدى الفراخ.
فزعت الفراخ واضطربت من هذا المهاجم المفزع وهرولت تطلب الأمان تحت شجرة
التوت القريبة. وفي نفس الوقت صرخ نيسان لاشعورياً بأعلى صوته وفتح ذراعيه
لتخويف هذا المشاكس ، مما جعل النسر الضخم يرتد ويُحلق بعيداً في الفضاء
الشاهق.
هناك تحت شجرة التوت تجمعت الأفراخ حول الأم ، مرتعدة من الخوف وهي
بأنتظار ماذا ستقوله أمهم عن هذا الطير المُبهم. النُسير الذي كان ظمن
الفراخ المرتعبة سأل الدجاجة الأم : من كان هذا الطير الأسود والأبيض ،
الذي كان يحوم بجناحين سعتهما ستة أقدام وحلق فوقنا؟ الدجاجة الأم أجابت
قائلة: ذلك الطائر هو النسر، سيد الفضاء وهو من سلالة الصيادين القدماء،
ولا أحد منا يستطع ان يطير مثله.
ذات مساء ، جلس نيسان اسفل درج البيت وهو يشاهد امه تطعم الفراخ ولاحظ
ان النُسير يهوى الحياة اليومية مع بقية فراخ الدجاج والذهاب في آخرالنهار
الى محل اقامته في القنّ. تأمل نيسان في الحظ التعيس للنُسير فرأى فيه
نسراً انتهى به الأمر ليصبح دجاجة، خُلق ليكون سيداً للطيور وانتهى به
الأمر ليكون هكذا وضيعاً. خُلق ليحلق في الفضاء ولكن انتهى به الأمر يتسعك
في مزبلة القرية، حيث تلقى النفايات. ان صدفة فقس هذا النُسير مع مجموعة من
الكتاكيت جعلته ينسى ان النسور خُلقت لتحلق في الفضاء، لا ان تتسعك على
كومة النفايات مع فِراخ ضعيفة. ولكن المصيبة الكبرى لهذا النُسير هي انه
مقتنع بما انتهى به الأمر ولم يحاول جاهداً ليحرر ذاته ويعود الى حيث يليق
به كسيد الصيادين، في الفضاء الشاهق.
في الصباح التالي، امسك نيسان بالنسر الصغير ورماه في الهواء ، مرة تلو
المرة محاولاً تعويده على الطيران لكن النُسير كان دوماً يفضل ان يبقى مع
بقية الفراخ ويتنقل على رجليه، الأنفلات من الأرض كان أمراً صعباً عليه.
لكن نيسان أصرّ مرة بعد أخرى على تمرين النُسير على الأقلاع. “سوف يكون
اكثر سعادة في الطيران” قالها والد نيسان وهو يخاطب نيسان. اجاب نيسان
بعنفوان: ” انه لكذلك ” ثم كان، ان نيسان وأبيه ذهبا الى سفح الجبل لجمع
الحطب وقطع الأشجار اليابسة، وجلبا معهما النسر الصغير الى تلك الصخرة التي
وجدا عليها عش النسر. ” أظن ان جرف الصخر سوف يسهل الأمر في الطيران ”
قالها والد نيسان. فأجاب نيسان: نعم يا ابي النتوء البارز لهذه الصخرة
المنحدرة سوف يساعد هذا النسر الصغير على الأقلاع.
النسور التي كانت تحوم قريباً أسرعت لنجدة النسر اليافع الذي شدّ عضلات
رجليه المغطاة بالبريش ليقوم بقفزة نحو الأعلى. مرتين حاول ذلك –بالنقيض
ماكان يفعله حين كان مع فراخ الدجاج—في نشر جناحيه كي يحصل على قبضة على
الهواء، ورفرف لأول مرة جناحيه محاولاً الطيران بعنفوان. وفي الختام ومن
خلال تموج بدنه في الهواء ارتفع نحو الأعالي وصار جسماً حياً محمولاً في
الهواء. جناحيه ظلّا يرفرفان بأنتظام، تنبه النسر اليافع لدعوة بقية النسور
وهو يتبعها حتى أدرك انه في رحلة الى واقعهُ الأصلي. أطلق النسر الجديد
صرخة فرح اِذ أحس بتيار الهواء يرفع به نحو العُلى وشعر بنشوة نسيم الهواء
الذي كان يلامس جناحيه، حقاً بدأ يستلذ نشوة السعادة وهي تسري في بدنه. لقد
أدرك انه ليس بحاجة الى امّهُ، الدجاجة. لقد بدأ لأول مرة يشعر انه لأجل
البقاء صارت اواصره مع الدجاجة الأم تخف شيئاً فشيئا.
من على الصخرة كان نيسان وأبيه يشاهدان ما يجري. وفيما نيسان يلوح بيديه
مودعاً نسره الصغير، اردف قائلاً: عالياً، عاليا حَلق ايها النسر ، نَسُلك
هو من افضل الطيور في الخليقة وقريباً سوف تتعود على بيئتك الجديدة. ” انت
محق يا بني، فهذه الصخور وحوافها الحادة سوف تجعله يشعر كأنه في بيته. هنا
في جبل منكَيشي سوف ينعم بالحرية وينعم بموطئ قدم”، قالها والد نيسان
وأردف مضيفاً “عاد النسر الى سربِه. لقد أصبح واضحاً الآن ان الطيور على
أشكالها تقع”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق