الشبل و الحمل
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــــــــــ
رأيتُ الحمل ، لأول مرة ، عندما
جاء به الذئب لأبي ، وبقدر ما أحببته ، وتمتعتُ بصحبته ، تمنيتُ لو لم يأتِ به ذلك
الذئب ، ولم أره .
ويبدو أن أبي كان له موقف من الذئب ، فقد حدجه بنظرة صارمة ، وزجره قائلاً
: أيها الذئب اللعين ، أراك مازلت هنا .
فجثا الذئب أمام أبي ، وقال متذللاً : عفواً مولاي ، جئتك بهدية .
فصاح أبي : لا أريدك ، ولا أريد
هديتك .
ورفع الذئب الحمل ، وأراه لأبي ، وقال : إنه حمل لذيذ ، يا مولاي .
وأشاح أبي عنه ، وقال : خذ حملك ، واذهب .
وتطلع الذئب إليّ ، ثم قال : سآكله مع صغاري ، وأغادر الغابة ، يا مولاي .
وقبل أن يخطو خطوة بالحمل ، انتفضتُ من حضن أمي ، وصحتُ بالذئب : دعه .
والتمع الأمل في عيني الذئب ، وتطلع إليّ ثانية ، وقال : حمل جميل ، لكن
مولاي ..
وأسرعتُ إلى أبي ، وقلتُ : بابا ، أريد هذا الحمل .
واختلس الذئب نظرة مترددة إلى أبي ، ثم قال : مولاي .
وقال أبي للذئب ، دون أن يلتفت إليه : دع ِ الحمل ، وامض ِ إلى صغارك .
فانحنى الذئب لأبي فرحاً ، وقال : ألف شكر ، يا مولاي ، ألف شكر .
" 2 "
ــــــــــــــــــــــــــ
وعلى العكس مما توقعه الآخرون
، أصبحنا صديقين حميمين ، أنا والحمل ، نلهو معا طول النهار ، ومعاً نسمر في الليل
، ونأكل .. عفواً .. هاهاها .. المضحك أن الحمل لا يأكل ما آكل ، إنه يأكل الحشائش
، ويقول ، إنها لذيذة جداً ، وقد جربتها مرة ، وكدتُ أختنق، فضحكت أمي مني ، وقالت
لي ، أنت شبل ، يا عزيزي ، والشبل لا يأكل الحشائش مثل الحملان . ونصحتني أن لا
أخبر أبي بذلك ، وإلا غضب مني .
وذات ليلة ، سألته عن أمه ، فتنهد ، ثم قال : أمي لا تشبه أمك .
فهززتُ رأسي ، وقلتُ : هذا ما توقعته ، إن أمي تحبني كثيراً .
وتطلع إليّ مندهشاً ، ثم قال : لكن أمي أيضاً تحبني .
فهززتُ رأسي ثانية ، وقلتُ : لو كانت تحبك لما أعطتك للذئب .
واحتج الحمل قائلاً : لم تعطني أمي للذئب ، بل اختطفني عنوة ، ودافعت أمي
عني ، حتى كادت تهلك .
وصمت الحمل لحظة ، ولذتُ أنا بالصمت ، فتطلع إليّ ، وقال بصوت حزين :
مسكينة أمي ، لابد أنها تظن أني قد هلكتُ .
فمددتُ يديّ ، واحتضنتُ يده ، وقلتُ : لو سنحت الفرصة لك إذن لذهبت إلى أمك
.
فأجاب دون تردد : طبعاً .
وتساءلت مندهشاً : وتتركني !
وتطلع الحمل إليّ ، ثم قال : لا أحب أن أتركك ، لكن ..
لم أدعه يكمل ، وأخذته بي ذراعيّ ، واحتضنتُه بقوة ، وسرعان ما تسلل النعاس
إلى عيوننا ، واستغرقنا في سبات عميق .
" 3 "
ـــــــــــــــــــــ
لسبب لا أدريه ، ضاق أبي بالحمل
، ولم يعد يرتاح لوجوده معي ، وسمعته مرة يقول لأمي : هاهو الحمل قد كبر .
أجابته أمي : انتظر قليلاً ، يا عزيزي .
فصاح أبي غاضباً : لن أنتظر أكثر .
وبلين قالت أمي : إنه هزيل ، أمهله حتى يسمن .
تأفف أبي ، وقال : أنتِ لم تفهميني .
وأنا أيضاً لم أفهمه ، كما لم أفهم أمي أيضاً ، لكني شعرتُ بالخوف يعتصر
قلبي ، وقد جاءت الأيام بما يبرر خوفي ، ففي ذات يوم ، كنا نلهو أنا والحمل ، على
مقربة من أبي ، فنطحني الحمل مازحاً ، وكاد يلقيني على الأرض ، فهبّ أبي ، وصاح بي
: أقتله .
تمالكتُ نفسي ، واستجمعتُ قواي ، وارتميتُ فوق الحمل ، وطرحته أرضاً ، فقد
ظننتُ أن أبي يمزح ، لكنه صاح بي ثانية : أقتله .. أقتله .
ابتعدتُ عن الحمل ، وتطلعتُ إلى أبي مذهولاً ، وقلتُ : لكنه صديقي .
اشتعلت عينا أبي بالغضب ، وصاح : أيها الجبان .
ورفع يده ، وهمّ أن يلطمني ، لكن أمي أسرعت إليّ ، وأخذتني بين ذراعيها ،
وقالت لأبي : لا تضربه ، يا عزيزي ، إنه مازال صغيراً .
فصاح أبي غاضباً : لن يكون أسداً إذا بقي هكذا .
وبلينها المعهود ، ردت عليه أمي : دعه لي ، دعه يا عزيزي ، وسيكون كل شيء
مثلما تريد .
" 4 "
ــــــــــــــــــــــــ
قادتني أمي إلى العرين ، ولحق
الحمل بنا ، فتوقفت أمي في المدخل ، وقالت لي : بنيّ ، أريد أن أحدثك وحدك .
وتوقف الحمل ، وتراجع قليلاً ، وقال : عفواً .
فالتفتُ إليه ، وقلتُ : انتظرني هنا ، سأعود حالاً .
وأطرق الحمل حزيناً ، ولم ينبس بشيء ، فتقدمتني أمي إلى الداخل ، وهي تقول
: هيا يا بنيّ ، لابد أن نحسم هذا الأمر .
انقبض قلبي ، فلهجة أمي لم تكن تبشر بخير ، وهربت بعينيّ من الحمل ، ودلفتُ
مسرعاً إلى الداخل .
وحين انفردت أمي بي ، أخذتني بين ذراعيها ، وقالت لي : بنيّ ، أنت شبل .
وقلتُ في تردد : أعرف .
فتابعت أمي : ولا يصح أن يكون الشبل صديقاً لحمل .
قلتُ محتجا : لكني .. أحبه .
ردت أمي : أنا أيضاً .. أحبه .. أحبه كثيراً .
وتطلعتً إلى أمي ، دون أن أجيب بشيء ، فتابعت قائلة : وستحبه مثلي ، حين
تتذوقه .
وانتفض قلبي ، وصحتُ مستنكراً : ماما .
فقالت أمي : إنه لذيذ .
صحتُ : لا تقولي هذا .
هزتني بنفاد صبر ، وقالت : تذكر ، أنت شبل .
تملصتُ من بين يديها ، وأنا أصيح : لا .. لا .. لا .. لا .
فتقدمت مني ، وقالت : لقد كبر ، وسمن ، وسنتغدى به غداً .
لذتُ بالهرب ، وأنا لا أكاد أتمالك نفسي ، وما إن رآني الحمل ، حتى أسرع
إليّ ، وتساءل مذهولاً : ما الأمر !
فتطلعت إلى عينيه ، وقلتُ : لا شيء ، يا عزيزي ، لا شيء .
" 5 "
ــــــــــــــــــــــــــ
حلّ الليل ، وراحت النجوم
تتلامع في السماء ، وكالعادة غط ّ الحمل في نوم عميق ، ورقدتُ إلى جانبه ، وأغمضتُ
عينيّ ، لكني لم أنم ، وكيف أنام والحمل في خطر ؟
ومن بعيد ، تناهى نعيب بومة ، وارتفع غطيط أبي وأمي ، إنهما مستغرقان في
نوم عميق ، وهذا ما أريده ، فتحتُ عينيّ ، وتطلعتُ حولي ، لابد أنه منتصف الليل ،
لقد أزف الوقت ، مددتُ يدي ، وهززتُ الحمل برفق ، فتململ الحمل قليلاً ، وتمتم في
نومه : سأنطحك ، لن تغلبني .
هززته ثانية ، وهمستُ في أذنه : هيا .. استيقظ .
فتح الحمل عينيه ، وتطلع حوله ، وقال : نحن في منتصف الليل .
لم أدعه يكمل ، فقد وضعتُ يدي فوق فمه ، وهمستُ له : هش .
تمتم بدهشة : ما الأمر ؟
أمسكتُ بيده ، وقلتُ بصوت خافت : هش ، تعال معي .
قدته بهدوء إلى خارج العرين ، وحين انفردتُ به ، قلتُ له بصوت يوحي
بالخطورة : لقد آن لك أن تمضي إلى أمك .
والتمعت عيناه في الظلام ، وتساءل مندهشاً : أمي !
أجبته : نعم ، وبسرعة .
احتج قائلاً : لكنك قلت فبل أيام ..
قاطعته : دعك مما قلته .
ودفعته أمامي برفق ، وقلتُ : أنت تعرف الطريق .
فتلفت حوله بخوف ، وقال : أعرفه ، لكني أخاف السير وحدي ليلاً في الغابة .
دفعته ثانية ، وقلتُ : لا عليك ، سأرافقك .
سار أمامي بخطوات مضطربة ، وهو يتمتم : أنت تحيرني .
وسرتُ في إثره ، وقلتُ : هيا ، لابد أن نصل ، قبل شروق الشمس .
وقبل أن تطل الشمس ، من وراء الأفق ، وصلنا مشارف الغابة ، فتوقف الحمل ،
وأشار إلى كوخ صغير بين الأشجار ، وقال : أمي هناك .
لذتُ بالصمت لحظة ، ثم قلتُ : حسن ، هيا ، امض ِ ، امض ِ .
تطلع الحمل إليّ ، وقد اغرورقت عيناه بالدموع ، وتساءل : ألن نلتقي ثانية ؟
هززتُ رأسي ، وأنا أغالب دموعي ، واتسعت عيناه ، وصاح : لكن لماذا ! نحن
أصدقاء .
لم أعد أتمالك نفسي ، فتراجعتُ إلى الوراء ، وأنا أقول بصوت باك : ستعرف
هذا في المستقبل ، وداعاً ، يا صديقي ، وداعاً .
هناك تعليق واحد:
سوف أبكي من الحزن😭😭😭😭😭😭😭
إرسال تعليق