لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الثلاثاء، 16 فبراير 2016

"آتٍ مع الشمس "قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



آتٍ مع الشمس
طلال حسن
    العش الدافىء
    أرخى الليل سدوله ، وأويت إلى العش مع زوجي ، وجثمنا كالعادة متجاورين ، وتطلع إلى السماء ، المتشحة بالظلام والنجوم ، وبدا وكأنه يحلق بعيداً ، لكن سرعان ما أشرقت عيناه بالحنان ، والتفت إليّ ، وقال : يبدو أن الصغيرين قد هجرانا .
فأجبته مازحة : هذا أفضل .
وابتسم قائلاً : لا أصدقك .
وضحكت بمرح ، فتابع : ليتني أراهما مرة أخرى .
وأثارت كلماته مشاعري ، وتذكرت طيرانهما الأول ، يا لله ، كم كانا رائعين ، وهما يرفرفان حول العش ، وتشجع أصغرهما مرة ، ومضى حتى الجدول ، وحين عاد ، لاحظت آثار ضفدع على منقاره ، لقد كبر صغيرانا ، فليطيرا حيثما يريدان ، وليختارا حياتهما كما فعلنا نحن ذات يوم ، عندما كنا في عمريهما .
وهبت نسمة باردة ، وكالعادة التصقت به ، لأستمد منه الدفء ، فرفع رأسه متلفتاً ، ثم قال : سيحل البرد قريباً .
وابتعدت عنه بعض الشيء ، وقلت : لكن الجو دافىء .    
ومدّ جناحه ، وسحبني إليه ، وقال : وسيبقى دافئاً إذا عدت إلى جانبي هكذا .
والتصقت به ثانية ، وقلت : ليت السنة كلها دافئة .
وابتسم قائلاً : طبعاً لتبقي هنا .
ورفع رأسه ، وتطلع إلى الآفاق المتشحة بالظلام النجوم ، ثم قال : عزيزتي ، لقد هاجر الكثير من اللقالق ، ولابد أن نهاجر نحن أيضاً .
فرفعت عينيّ إليه ، وقلت : دعني أودع القرية وأهلها الطيبين أولاً .
فلفني بجناحيه ، وقال : حسن ، ودعيهم غداً ، وسنبدأ الهجرة بعد غد .

    الجناح المكسور
    لم أمض ِ معه ، حين مضى مبكراً إلى الجدول ، فقد أردت أن أودع القرية وأهلها الطيبين ، وهبطت إلى الساحة ، ورحت على عادتي ، ألهو مع أصدقائي  الأطفال الصغار .
وأقبل سالم ، وأراد أن يأخذني معه إلى بيته ، لكن الأطفال الآخرين ، لم يرضخوا لإرادته ، فأمسكني من جناحي ، وصاح : سآخذها رغماً عنكم .
فصحت به ، والألم يمزقني : أرجوك ، يا سالم ،  دعني ، ستحطم جناحي .
لكن سالماً لم يلتفت إليّ ، وفجأة تهاوى جناحي إلى جانبي ، فصاح أحد الأطفال : أيها المجنون ، لقد كسرت جناحها .
وانتفضت بقوة ، لعلي أفلت من بين يديه ، لكنني سقطت في هوة مظلمة ، لا قرار لها ، لم أدر ِ كم مرّ من الوقت ، حين أفقت من غيبوبتي ، ووجدتني في بيت سالم ، يحيط بي مع والديه ، وتطلع الأب إليّ ، وابتسم قائلاً : اطمئن ، يا بنيّ ، لقد زال الخطر ، ستعيش .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : لكنها لن تستطيع الهجرة هذا العام .
وجنّ جنوني ، ورحت أنتفض وأصيح ، لكن الأب ضمني بذراعيه ، وقال : لا عليك ، ستبقين في رعايتنا ، نحن نحبك .
وتناهت من العش طقطقة زوجي ، إنه يناديني ، فصحت متألمة كأني أستنجد به ، فقالت الأم : لندعها تمضي إلى رفيقها .
وأطلقني الأب قائلاً : اذهبي .
وقبل أن ينتهي من كلامه ، أسرعت إلى الشجرة ، التي بنينا عشنا فوقها ، وما إن رآني مقبلة ، حتى هتف بي : أين كمت ؟ لقد ناديتك طويلا ، تعالي .
فرفعت رأسي إليه ، وقلت بصوت تخنقه الدموع : لا أستطيع الصعود إلى العش .
وعلى الفور هبط إلى جانبي ، وتساءل : ما الأمر ، يا عزيزتي ؟
فقلت وأنا أحاول أن أخفي دموعي : لن أهاجر معك هذا العام .
واتسعت عيناه ، وتفرس فيّ متسائلاً : ماذا تقولين ؟
فأجبته وأنا أريه جناحي : لقد كسر جناحاي .
واشتعلت عيناه غضباً ، فسارعت إلى القول : سالم يحبني ، ولم يتعمد إيذائي .
وتطلع إليّ بعينين دامعتين ، دون أن ينبس بكلمة ، فارتميت بين جناحيه ، وأجهشت في البكاء .

    الليلة الأخيرة
    قضينا تلك الليلة كلاجئين ، تحت الشجرة ، وبدا عشنا للمرة الأولى ، منذ أن بنيناه ، خاوياً مهجوراً ، واشتد البرد ، عند منتصف الليل ، ففرد جناحيه ، وضمني إلى صدره ، فقلت في نفسي ، وقد تندت عيناي بالدموع : آه ليتني أبقى هكذا إلى الأبد .
وانثالت دموعي ، إذ انتابني شعور ، بأني لن أنعم ، بعد الليلة ، بهذا الدفء ، وكفكفت دموعي ، حين سمعته يخاطبني متسائلاً : كيف أنت الآن ؟
فأجبته وأنا ألتصق بصدره : بخير ، اطمئن .
وتنهد قائلاً : أي خير وجناحك ..
وسكت ، ولم يستع أن يكمل ، فقلت : لا عليك ، يا عزيزي .
فقال بصوت مذنب : كان عليّ أن أبقى إلى جانبك .
وحاولت أن ابتسم ، لكني لم أستطع ، فقلت : لا تلم نفسك  فالخطأ ليس خطأك .
ورفع رأسه ، وتعلقت عيناه في الآفاق البعيدة ، فقلت بصوت حاولت أن أجعله فرحاً : الوقت متأخر ، نم الآن ، يا عزيزي . 
لم يجب بشيء ، فأضفت قائلة : أمامك غداً طريق طويل متعب .
فالتفت إليّ ، وقال : لن أهاجر .
وتطلعت إليه مذهولة ، وقبل أن أتفوه بكلمة ، تابع قائلاً : سأبقى إلى جانبك .
فهززت رأسي ، وقلت : كلا ، يا عزيزتي ، هاجر غداً ، إن سالم وأبويه سيعنون بي .
ولاذ بالصمت ، فتابعت قائلة : هاجر ، ولكن لا تنسَ ، إنني أنتظرك .
ثم خبأت رأسي في صدره الدافيء ، وقلت : سأجدد العش ، وأزينه بالأزهار ، وسنحيا فيه ، ولن نفترق ثانية .
ومع الفجر ، فتح جناحيه ، ومضى نحو الآفاق البعيدة ، فرحت ألوح له ، والدموع تنثال من عينيّ ، حتى تلاشى في زرقة السماء .

    أجنحة الحلم
    اصفرت أوراق الأشجار  ثم راحت تتساقط ، واشتدّ البرد ، وتساقطت الثلوج ، حتى غطت الحقول ، والأشجار العارية ، ومرّ الوقت ببطء ، ورغم عناية سالم وأبويه بي ، لكني رحت أذوي ، وأذوب كما تذوب الشمعة .
وأرقدني سالم ، ذات يوم ، قرب الموقد ، وجلس إلى جانبي ، يحدق فيّ مذهولاً ، وجاء أبوه ، فرفع عينيه الدامعتين إليه ، وقال : بابا .
واختنق بدموعه ، فتطلع أبوه إليه ، وقال : لا تخف ، إنها بخير .
وتملكني الخوف ، رغم كلماته ، فقد كانت عيناه تقولان شيئاً آخر ، وارتفعت حرارتي خلال الليل ، وغشيتني غيبوبة عميقة ، ورأيتني في العش أنتظر ، والشمس تكاد تغرب ، ولاح سرب من اللقالق،  لعله بينهم ، نعم ، إنه بينهم ، لكن ماذا لو نسيني ، وهاجر إلى مكان آخر ، مع أنثى أخرى ؟ كلا ، إنني أعرفه ، إنه يحبني ، ولن يهجرني ، وفجأة رأيته مقبلاً مع الشعاع الأخير للشمس الغاربة ، وقد فرد جناحيه القويين ، فطقطقت بمنقاري ، وفردتُ جناحيّ فرحاً ، و .. يا ويلي ، إنه ليس وحيداً ، هناك أنثى أخرى معه ، الخائن .. انتظرته حتى ذبت كما تذوب الشمعة .. وها هو يخونني .. سأمزقه  .. وأمزق أنثاه و .. ، وهجمت عليه ، ورحت أطعنه وأطعن أنثاه بمنقري .. و .. ، وأفقت على أم سالم تنحني عليّ ، وتقول : المسكينة .إنها الحمى ، يا إلهي كيف فكرت لحظة ، أنه يمكن أن يخونني ، سأصارحه بالأمر حين يعود ، وسيضحك مني كعادته ، و .. وجاءني صوت سالم تبلله الدموع : بابا .
فمد الأب يديه ، واحتضنه وقال : لا عليك ، يا بنيّ ، ستشفى .
وأغمضت عينيّ ، نعم ، سأشفى ، فأنا أنتظره ، إنه يحبني ، وسيعود حتماً ، ونحيا من جديد معاً .
وحلقت على أجنحة الحلم ، في سماء زرقاء كالبحر ، وتفجر الفرح في أعماقي ، فقد رأيته آت وحده مع الشمس ، يحمل لي في جناحيه الدفء والحياة .

ليست هناك تعليقات: