آتٍ مع الشمس
طلال حسن
العش الدافىء
أرخى الليل سدوله ، وأويت إلى العش مع زوجي ،
وجثمنا كالعادة متجاورين ، وتطلع إلى السماء ، المتشحة بالظلام والنجوم ، وبدا
وكأنه يحلق بعيداً ، لكن سرعان ما أشرقت عيناه بالحنان ، والتفت إليّ ، وقال :
يبدو أن الصغيرين قد هجرانا .
فأجبته مازحة : هذا أفضل .
وابتسم قائلاً : لا أصدقك .
وضحكت بمرح ، فتابع : ليتني
أراهما مرة أخرى .
وأثارت كلماته مشاعري ، وتذكرت
طيرانهما الأول ، يا لله ، كم كانا رائعين ، وهما يرفرفان حول العش ، وتشجع
أصغرهما مرة ، ومضى حتى الجدول ، وحين عاد ، لاحظت آثار ضفدع على منقاره ، لقد كبر
صغيرانا ، فليطيرا حيثما يريدان ، وليختارا حياتهما كما فعلنا نحن ذات يوم ، عندما
كنا في عمريهما .
وهبت نسمة باردة ، وكالعادة
التصقت به ، لأستمد منه الدفء ، فرفع رأسه متلفتاً ، ثم قال : سيحل البرد قريباً .
وابتعدت عنه بعض الشيء ، وقلت :
لكن الجو دافىء .
ومدّ جناحه ، وسحبني إليه ،
وقال : وسيبقى دافئاً إذا عدت إلى جانبي هكذا .
والتصقت به ثانية ، وقلت : ليت
السنة كلها دافئة .
وابتسم قائلاً : طبعاً لتبقي
هنا .
ورفع رأسه ، وتطلع إلى الآفاق
المتشحة بالظلام النجوم ، ثم قال : عزيزتي ، لقد هاجر الكثير من اللقالق ، ولابد
أن نهاجر نحن أيضاً .
فرفعت عينيّ إليه ، وقلت : دعني
أودع القرية وأهلها الطيبين أولاً .
فلفني بجناحيه ، وقال : حسن ،
ودعيهم غداً ، وسنبدأ الهجرة بعد غد .
الجناح المكسور
لم أمض ِ معه ، حين مضى مبكراً إلى الجدول ،
فقد أردت أن أودع القرية وأهلها الطيبين ، وهبطت إلى الساحة ، ورحت على عادتي ،
ألهو مع أصدقائي الأطفال الصغار .
وأقبل سالم ، وأراد أن يأخذني
معه إلى بيته ، لكن الأطفال الآخرين ، لم يرضخوا لإرادته ، فأمسكني من جناحي ،
وصاح : سآخذها رغماً عنكم .
فصحت به ، والألم يمزقني :
أرجوك ، يا سالم ، دعني ، ستحطم جناحي .
لكن سالماً لم يلتفت إليّ ،
وفجأة تهاوى جناحي إلى جانبي ، فصاح أحد الأطفال : أيها المجنون ، لقد كسرت جناحها
.
وانتفضت بقوة ، لعلي أفلت من
بين يديه ، لكنني سقطت في هوة مظلمة ، لا قرار لها ، لم أدر ِ كم مرّ من الوقت ،
حين أفقت من غيبوبتي ، ووجدتني في بيت سالم ، يحيط بي مع والديه ، وتطلع الأب إليّ
، وابتسم قائلاً : اطمئن ، يا بنيّ ، لقد زال الخطر ، ستعيش .
وهزت الأم رأسها ، وقالت :
لكنها لن تستطيع الهجرة هذا العام .
وجنّ جنوني ، ورحت أنتفض وأصيح
، لكن الأب ضمني بذراعيه ، وقال : لا عليك ، ستبقين في رعايتنا ، نحن نحبك .
وتناهت من العش طقطقة زوجي ،
إنه يناديني ، فصحت متألمة كأني أستنجد به ، فقالت الأم : لندعها تمضي إلى رفيقها
.
وأطلقني الأب قائلاً : اذهبي .
وقبل أن ينتهي من كلامه ، أسرعت
إلى الشجرة ، التي بنينا عشنا فوقها ، وما إن رآني مقبلة ، حتى هتف بي : أين كمت ؟
لقد ناديتك طويلا ، تعالي .
فرفعت رأسي إليه ، وقلت بصوت تخنقه
الدموع : لا أستطيع الصعود إلى العش .
وعلى الفور هبط إلى جانبي ،
وتساءل : ما الأمر ، يا عزيزتي ؟
فقلت وأنا أحاول أن أخفي دموعي
: لن أهاجر معك هذا العام .
واتسعت عيناه ، وتفرس فيّ
متسائلاً : ماذا تقولين ؟
فأجبته وأنا أريه جناحي : لقد
كسر جناحاي .
واشتعلت عيناه غضباً ، فسارعت
إلى القول : سالم يحبني ، ولم يتعمد إيذائي .
وتطلع إليّ بعينين دامعتين ،
دون أن ينبس بكلمة ، فارتميت بين جناحيه ، وأجهشت في البكاء .
الليلة الأخيرة
قضينا تلك الليلة كلاجئين ، تحت الشجرة ،
وبدا عشنا للمرة الأولى ، منذ أن بنيناه ، خاوياً مهجوراً ، واشتد البرد ، عند
منتصف الليل ، ففرد جناحيه ، وضمني إلى صدره ، فقلت في نفسي ، وقد تندت عيناي
بالدموع : آه ليتني أبقى هكذا إلى الأبد .
وانثالت دموعي ، إذ انتابني
شعور ، بأني لن أنعم ، بعد الليلة ، بهذا الدفء ، وكفكفت دموعي ، حين سمعته
يخاطبني متسائلاً : كيف أنت الآن ؟
فأجبته وأنا ألتصق بصدره : بخير
، اطمئن .
وتنهد قائلاً : أي خير وجناحك
..
وسكت ، ولم يستع أن يكمل ، فقلت
: لا عليك ، يا عزيزي .
فقال بصوت مذنب : كان عليّ أن
أبقى إلى جانبك .
وحاولت أن ابتسم ، لكني لم
أستطع ، فقلت : لا تلم نفسك فالخطأ ليس
خطأك .
ورفع رأسه ، وتعلقت عيناه في
الآفاق البعيدة ، فقلت بصوت حاولت أن أجعله فرحاً : الوقت متأخر ، نم الآن ، يا
عزيزي .
لم يجب بشيء ، فأضفت قائلة :
أمامك غداً طريق طويل متعب .
فالتفت إليّ ، وقال : لن أهاجر .
وتطلعت إليه مذهولة ، وقبل أن
أتفوه بكلمة ، تابع قائلاً : سأبقى إلى جانبك .
فهززت رأسي ، وقلت : كلا ، يا
عزيزتي ، هاجر غداً ، إن سالم وأبويه سيعنون بي .
ولاذ بالصمت ، فتابعت قائلة :
هاجر ، ولكن لا تنسَ ، إنني أنتظرك .
ثم خبأت رأسي في صدره الدافيء ،
وقلت : سأجدد العش ، وأزينه بالأزهار ، وسنحيا فيه ، ولن نفترق ثانية .
ومع الفجر ، فتح جناحيه ، ومضى
نحو الآفاق البعيدة ، فرحت ألوح له ، والدموع تنثال من عينيّ ، حتى تلاشى في زرقة
السماء .
أجنحة الحلم
اصفرت أوراق الأشجار ثم راحت تتساقط ، واشتدّ البرد ، وتساقطت الثلوج
، حتى غطت الحقول ، والأشجار العارية ، ومرّ الوقت ببطء ، ورغم عناية سالم وأبويه
بي ، لكني رحت أذوي ، وأذوب كما تذوب الشمعة .
وأرقدني سالم ، ذات يوم ، قرب
الموقد ، وجلس إلى جانبي ، يحدق فيّ مذهولاً ، وجاء أبوه ، فرفع عينيه الدامعتين
إليه ، وقال : بابا .
واختنق بدموعه ، فتطلع أبوه
إليه ، وقال : لا تخف ، إنها بخير .
وتملكني الخوف ، رغم كلماته ،
فقد كانت عيناه تقولان شيئاً آخر ، وارتفعت حرارتي خلال الليل ، وغشيتني غيبوبة
عميقة ، ورأيتني في العش أنتظر ، والشمس تكاد تغرب ، ولاح سرب من اللقالق، لعله بينهم ، نعم ، إنه بينهم ، لكن ماذا لو
نسيني ، وهاجر إلى مكان آخر ، مع أنثى أخرى ؟ كلا ، إنني أعرفه ، إنه يحبني ، ولن
يهجرني ، وفجأة رأيته مقبلاً مع الشعاع الأخير للشمس الغاربة ، وقد فرد جناحيه
القويين ، فطقطقت بمنقاري ، وفردتُ جناحيّ فرحاً ، و .. يا ويلي ، إنه ليس وحيداً
، هناك أنثى أخرى معه ، الخائن .. انتظرته حتى ذبت كما تذوب الشمعة .. وها هو
يخونني .. سأمزقه .. وأمزق أنثاه و .. ،
وهجمت عليه ، ورحت أطعنه وأطعن أنثاه بمنقري .. و .. ، وأفقت على أم سالم تنحني
عليّ ، وتقول : المسكينة .إنها الحمى ، يا إلهي كيف فكرت لحظة ، أنه يمكن أن
يخونني ، سأصارحه بالأمر حين يعود ، وسيضحك مني كعادته ، و .. وجاءني صوت سالم
تبلله الدموع : بابا .
فمد الأب يديه ، واحتضنه وقال :
لا عليك ، يا بنيّ ، ستشفى .
وأغمضت عينيّ ، نعم ، سأشفى ،
فأنا أنتظره ، إنه يحبني ، وسيعود حتماً ، ونحيا من جديد معاً .
وحلقت على أجنحة الحلم ، في
سماء زرقاء كالبحر ، وتفجر الفرح في أعماقي ، فقد رأيته آت وحده مع الشمس ، يحمل
لي في جناحيه الدفء والحياة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق