دقدق الرمادى
نشأت
المصري
القط دقدق سعيد الحظ، فهو يعيش فى قصر جميل مع الأطفال
والكبار، الجميع يحبونه ويداعبونه، ويقدمون له ما يفضل من طعام وشراب
ودقدق نظيفٌ دائماً، وفروته الرمادية لامعةٌ ناعمة مثل
فراء الحيوانات القطبية النادرة، وهو يمرحُ فى أنحاء القصر ومن حين إلى حين
ينادونه: دقدق، فيسرع إليهم، فقد تعلم دقدق النظام والطاعة، فمثلاً حين يكون
أصدقاؤه نائمين لا يموء حتى لا يوقظهم، وكم يكون سعيداً وهو يسمعهم يتحدثون عنه
بود وإعجاب.
وكثيراًما يُّحدِثُ القطُ الرمادىُّ نفسه قائلاً:"إننى
أسعدُ قطٍ فى العالم".
لكن.. لم تدمْ فرحته وسعادته، فقد ظهر قطٌ آخر أبيض
اللون من قطط الشوارع، لا اسم له، ولا عنوان، وقد اعتاد هذا القطُ من وقتٍ إلى آخر
أن يشاكسَ القطَ دقدق، ويفسد عليه راحته، وصارحه مرات عديدة بأنه يحسده على ما هو
فيه من نعيم ورفاهية، ولهذا كان دائمَ الاشتباك معه، بل وجرحه أكثر من مرة.
إن القط الأبيض قاسى القلب، قوى الجسم، ومما زاد من غيظه
وحقده أنه سأل دقدق عن عمره، فوجد أنه نفس عمره وذات مرة وقف إلى جواره ليرى أيهما
أطول وأعلى فوجد أنهما متساويان عندئذ قال القط الأبيض فى حسرة: حتى الصوت متشابه،
ولون الأعين لا اختلاف فيه، والفرق الوحيد بينى وبينك هو قوة أسنانى ولون الفروة،
فلماذا تعيش أنت فى نعمة وراحة ووفرة من الطعام وأنا أعيشُ فى العراء وفى الأماكن
الرطبة حيث الروائح الكريهة لابد أن نجد حلاً.. لابد...
عندئذ هجم الأبيض على ذيل دقدق بأسنانه، وضغط عليه بقوة،
فظل يصرخ حتى أتى صاحبُ القصرِ فطرد القطَ الأبيض، ومسحَ بحنانٍ على ذيل دقدق.
فى اليوم التالى تسلل القطُ الأبيض عبر إحدى نوافذ القصر
ولمح دقدق نائماً مبتسماً على فراش صغير نظيف معد له فامتلأ كراهية له ونبش الفراش
بأظافره، فاستيقظ دقدق مرعوباً وسأل نفسه: أهو كابوس؟! أم حقيقة؟! وكشرَ القطُ
الأبيض عن أنيابه، وطوح بأظافره الطويلة باتجاه دقدق، فحاول دقدق أن يصارعه ففشل،
ومضى القطُ الأبيض وقد توعده بأنه لن يتركه مطمئناً.
نام دقدق فى هذه الليلة نوماً متقطعاً، لقد بات يتوقعُ
أن يرى القطَ الأبيض فى أى وقت، وبالفعل فى صباح اليوم التالى أتاه القطُ الأبيض
وكأنه خرج من تحت الأرض وحذره أن يستغيثَ بأحد، بل هدده بأن يقطع ذيله بأسنانه
الحادة التى تعودتْ على قضم بقايا الطعام الجاف.
آثر دقدق السلامة فسأل القط الأبيض عما يريد حتى تنتهى
هذه الحربُ فقدم القط الأبيض اقتراحاً عجيباً إذ قال له:"هناك حلٌ واحد وهو
أن نتبادل الفِراء فتصبح أنت الأبيض وأنا الرمادى ثم أعيش فى القصر بدلاً منك لمدة
أسبوع واحد، فيظن صاحب القصر أننى دقدق وأتمتع بما تتمتع به".
قال دقدق: "أسبوعٌ واحد فقط ثم تعيد لى فروتى
الرمادية ولا أراك بعد ذلك".
قال الأبيض: أوافق.. وأعدُك بهذا.
كان دقدق يشفق عليه بقدر خوفه منه
وفى عتمة الليل تبادلا الفراء
وخرج دقدق فى فروته البيضاء ليعيش حزيناً خارج القصر..،
أما القط الأبيض فى ثوبه الرمادى فقد راح يقفز إلى أعلى سعيداً .
لم ينمْ دقدق المزيف طوال اليوم، لا يصدق ما هو فيه من
راحة وطعام رائع يقدم له دون مجهود، ولا أحد يطرده من وقتٍ لآخر، ولا أحد يزجره
وينهره أو ينظر إليه فى ضيق، بل إن جميع أهل القصر ينادونه ويقدمون إليه اللبن
الطازج واللحم والسمك، ويتوددون إليه
وكأنه هو صاحب القصر.
لكنه بدأ يواجه بعض المتاعب التى لم يتوقعها.
فذات مرة تبول فى أحد أركان حجرة الاستقبال، فشعر بالغضب
يطل من عيونهم، ونهروه بشدة، فما الخطأ فى ذلك، وهل هناك مكان محدد لا يعرفه يجب
أن يقضى فيه حاجته ؟! هكذا حدث نفسه.
وفى اليوم التالى تبول على السجادة، فحاولوا ضربه لكنه
ابتعد مسرعاً وبعد حين أراد أن يمزح معهم فاختبأ فى حجرة النوم، وعندما نام ياسر
وأخوه انطلق دقدق المزيف فى الحجرة، وقفز على فراشهم وغنى بصوتٍ عالٍ، ففزعا من
النوم، وأخرجاه من الغرفة وهم فى ضجر واستياء.. لقد فشلت محاولة المزاح.
ومرة أخرى فكر فى لفت انتباه صاحبة القصر إليه، فتسلل
إلى داخل الثلاجة دون أن تشعرَ صاحبةُ القصر بذلك، وكانت تجربة قاسية فقد ظل يرتجف
ويرتعش، وكادت أعضاؤه ودماؤه تتجمد وأوشك أن يموت لولا أن الخادمة فتحتْ الثلاجة
فقفز منها ونجا من الهلاك وظل يتساءل: لماذا يكون هذا الصندوق الأبيض بارداً رغم
أن المطبخ نفسه دافئ ؟! وفى المساء كانت الخادمة تضع مقلاة بها زيت على نار الموقد
وكان الزيت يغلى، وقرر دقدق المزيف أن يصنع دعابة جديدة فقفز إلى جوار المقلاة لكن
قدمه اصطدمت بيد المقلاة فسقطت على الأرض واشتعل الزيت وشبت النار فى المطبخ
وأصيبت الخادمةُ بحروقٍ ففر القط واختبأ تحت الدولاب نادماً.
فى اليوم الرابع شعر بجوع شديد، ورأى أمام عينيه طبق من
السمك المشوى على المائدة، لم يستطع الانتظار، فاختطف سمكة كبيرة والتهمها،
فشتموه، وهددوه بالطرد، تُرى ماذا كان يفعل دقدق طوال الشهور الطويلة السابقة إذا
جاع؟!
فى الليل ظهر دقدق فى فروته البيضاء، وحاور عدوه وغريمه
واحتد النقاشُ بينهما، وبدأ الاشتباك بالأرجل وتصاعدتْ منهما صرخاتُ الغضب، فأقبلت
صاحبةُ القصر مسرعة، وأحضرت عصا فأوشكت أن تضرب دقدق لتبعده، فابتعد ووقف بعيداً
عنها للحظات، وسدد نظراته إليها يعاتبها يذكرها بنفسه وعيناه تقولان لها: إننى أنا
دقدق الذى كان يسليك، وكنتِ تبتسمين لى دائماً، تأملى عينىَّ جيداً.. إنهما
مختلفتان عن عينىّْ دقدق المزيف الشرس المتشرد. لكن صاحبة القصر واصلت تهديده، ولم
تفهمْ شيئاً بالطبع ففر مندفعاً إلى خارج القصر، وأوصى نفسه بالصبر، فبعد ثلاثة
أيام فقط سينتهى الأسبوع ويتبادلان الفراء.
بعد قليل من الوقت حملت فاطمة ابنة صاحبة القصر دقدق
المزيف على رجلها تكلمه وتشرح له خطأ ما فعل بل وصفته بالجنون، وقررت أن تعاقبه–
كالعادة– بالضرب ثلاث خبطات خفيفة على ظهره، ومن أول ضربة فيها من الدعابة والعتاب
أكثر ما فيها من العقاب. انتفض القط وقوسَ ظهرَه وتوهم أنها ستضربه ضرباً شديداً
متوالياً فضرب يدها بأظفاره بشدة حتى جرحها وسالت منها الدماءُ أصابَ الجميعَ
الفزعُ والتعجبُ لما فعله القط فلم يكن ذلك معتاداً.. عندئذ أعلنَ صاحبُ القصر
أنها النهاية، ولا بقاءَ لهذا القط المتوحش بينهم بعد اليوم.. ثم.. أحضر العصا وهو
غاضبٌ كل الغضب وأدرك دقدق المزيف أنهم لن يسامحوه، فغادر القصر وهو يلهث من الخوف
وعندما التقى بدقدق عندما كان رمادياً حكى له ما جرى ولامه لأنه لم يشرح له كيف
يعيشُ مع أصحاب القصر.. وطلب منه دقدق أن ينفذ الاتفاق ويستعيد كل منهما فروته
الأصلية فضحك دقدق المزيف ساخراً ثم قال: لا لن أنفذ الاتفاق ولن يعود إليك فراؤك
أبداً وسأجربُ العيشَ مع أسرة أخرى بهذه الفروة الرمادية البديعة وحتى لو أعطيتك
فراءك، فلن تستطيع الرجوع إلى القصر ولن يفتحوا بابهم للقط الرمادى الذى جرح يد
فاطمة وحرق المطبخ وسرق السمك.
وبعد لحظاتٍ تراجعَ القطُ المزيف عن عناده، فاقترب من
دقدق وأبدى استعداده أن يعيد له فروته بشرط أن يعلمه أصول التعامل برقة مع الناس،
وأن ينقل له خبرته ومعلوماته فكر دقدق طويلاً ثم أعلن موافقته بشرط أن يستعيد
فروته أولاً ولم يجدْ القطُ المزيف بديلاً عن الموافقة، فابتسم فى غيظ لأنه كان
ينوى أن يخدعه مرةً أخرى، وتم الاستبدال، وقام دقدق بتعليمه تنفيذاً للاتفاق.. ثم
انصرف دقدق سعيداً بعودة فروته الرمادية إليه ومضى يقوى عضلات فكيه بالرياضة
والطعام الخشن حتى صار قوياً لكى يدافع عن نفسه إذا هاجمه أحد.
واهتدى إلى طريقة يعود بها إلى أصدقائه الأطفال، فقد
اشتاق إلى اللعب معهم وتدليلهم له وتذكر أنهم علموه أن يعتذر حين يخطئ بأن يمسك
منديلاً أو ورقةً بيضاء، ويرفعها على رأسه، فاتجه نحوهم، وخربش الباب بأظافره،
فظهرت فاطمة ، فأسرع القط ورفع ورقة بيضاء على رأسه وقد امتلأت عيناه بالحزن
والرجاء وظل دقدق يموء حزيناً أسِفاً.
تأثرتْ فاطمةُ بمنظر دقدق، وقفزت إلى ذاكرتها أوقاتُها
الجميلةُ معها، فَرقَ قلبُها، وسمحتْ له بالدخول ومنحته فرصةً جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق