سماح أبوبكر عزت
كنا ثلاثة فى الصندوق، شمعة قديمة وقطعة صغيرة من الصابون.. وأنا.. ذابت الشمعة، وتلاشت قطعة الصابون ولم يبق إلا أنا.. أعيش فى وحدة قاسية لم أكن أتصورها ولم أعد أتحملها برغم أننى قادر على تحمل كل الأخطار بما فيها النار.
انتهت قصتى وعرفت فى النهاية أننى مجرد مسمار!
ليست ميزة أن أترك علامة فى أى جدار، أثرى باق لا يستطيع الزمن أن يمحوه، بينما كل من حولى صاروا فى طى النسيان لكن أثرهم باق فى كل ركن من أركان الصندوق.. صندوق الصياد العجوز الذى لا يفارقه مثل شبكته وسنارته وقاربه الصغير الذى يتسع له ولصندوقه الصغير وسكانه الثلاثة.
تفتحت عيناى لأجدنى مثبتاً فى قاع قارب صيد صغير يملكه الصياد، حولى الكثير من المسامير كل فى مكانه يؤدى عمله بصبر وثبات.. بمرور الوقت مللت من هذا الثبات وتمنيت أن أتحرر، أرى البحر الواسع الذى تتلاطم أمواجه ليل نهار دون توقف وتصطدم بالقارب.
كم حلمت بأن ألمس الموج الذى يحاصرنى هديره.. وكلما بحت بأمنيتى لجيرانى من المسامير كان أكبرها يقول لى فى هدوء وثقة..
أنت لا تعرف قيمة أن تكون مسماراً تترك علامة وبصمة فى أى جدار، لا بد أن تثق فى نفسك وفى قيمتك.
وفى يوم من الأيام اشتدت العواصف واصطدم القارب الصغير بصخرة عنيدة حطمته، حزن الصياد العجوز لكنه لم يستسلم ويشعر باليأس فبدأ يعمل ويقطع الأخشاب ليصنع قارباً جديداً، علمه البحر الصبر على الشدائد والرضا والقناعة بما يهبه له الله.. ولم ينس الصياد أن يحمل معه شبكته وسنارته من القارب القديم الذى نزع منه بعض المسامير ليستخدمها فى صنع قاربه الجديد.
وبدأت حياتى فى مكان جديد وقارب جديد، لكنى فى هذه المرة لم أكن مثبتاً على الجدار ولأول مرة أشعر بالحرية والانطلاق، ومن أخشاب القارب القديم، صنع الصياد صندوقاً صغيراً ليضع فيه ما يحتاجه من أشياء صغيرة.. وتعرفت على جيرانى الذين لم أشعر معهم فى البداية بأى ألفة، شمعة بيضاء، وقطعة من الصابون.. اقتربت من الشمعة فوجدتها ضعيفة يمكننى أن أفتتها فى لحظة، أما قطعة الصابون المسكينة ما إن اقتربت منها قليلاً حتى بكت من الخوف وانهمرت دموعها فى شكل فقاعات صغيرة.. ضحكت من السعادة بصوت عال وتعجبت.. قائلاً: لا أفهم لماذا جمعنى الصياد بهذه الأشياء التافهة فى مكان واحد؟! وكلما اشتدت العواصف وارتطم الموج بعنف فى القارب يتدحرج الصندوق ونصطدم ببعض من دون قصد، وفى يوم اصطدمت بالشمعة فأحدثت بها ثقباً صغيراً ولدهشتى تلاشى هذا الثقب عندما أمسكت بها يد الصياد لتوقدها، لم أكن أتصور أن الشمعة الصغيرة يمكنها أن تبعث النور فى المكان، كنت أرتجف من البرد فشعرت بجوارها بالدفء والأمان.. تتساقط دموعها ويصغر حجمها لكنها لم تشك يوماً ما.. أما قطعة الصابون فيمسكها الصياد ويغسل يديه، فتتلاشى رائحة السمك النفاذة وينتشر أريج الورد والفل وأشعر كأن الصندوق قد صار بستاناً، وتعجبت كيف تسكنها كل هذه الزهور! برغم ذلك كنت أشعر أننى أفضل منهما، أبحث عن أى ثقب ربما أكون قد تركته على أى جدار لم يستطع الموج أن يمحوه ولم تقدر العواصف أن تعبث به.
ومرت الأيام، ويوماً بعد يوم تذوب الشمعة وتتساقط دموعها تلمسها النار فتتألم لكنها تمنح الآخرين النور ولا تزال قادرة على العطاء، وقطعة الصابون تلمسها الماء فتغسل الكون كله وتغمره بعطرها، وما زلت أشعر بالفخر لأنى لم أتناقص مهما لمست الماء أو مستنى النار.. من ثقب صغير فى الصندوق كنت أتأمل البحر الواسع بأسماكه وأصدافه التى كانت تتجمع حول ضوء الشمعة ورائحة الصابون لكنها لم تشعر يوماً بوجودى، وذابت الشمعة تلاشت ولم يبق منها إلا دموعها تحيط بى كعقد من اللؤلؤ الأبيض فى قاع الصندوق، وكلما اندفعت قطرات الماء من ثقب فى الصندوق تتجدد رائحة الفل والزهور حتى بعد أن تلاشت قطعة الصابون، لم أعد أبحث عن ثقب فى أى جدار، فقد تعلمت أن وجودى وأهميتى هو بما أتركه من أثر فى نفوس من حولى، بعطائى وتضحيتى من أجل أن أمنحهم السعادة، لا أشعر بوجودى برغم أنى لم أتلاش مثل جيرانى، ما أهمية أن أترك ثقباً فى جدار، المهم أن أترك أثرا فى النفس يبقى نابضاً بالحياة ليل نهار.