أوَّلُ دقَّةٍ..
وسام الحلو
رسم: ياسر حسين
سألتني أمّي ذات ليلةٍ صيفيةٍ هادئة عن شيءٍ تهديني إيّاه في العيدِ، لم أعرفْ لماذا دقّت في رأسي فكرةُ أن تكون عندي ساعةٌ ليدي، قلت ساعة.. ساعة ليدي، حين طلبتها ظننتُ أنني طلبتها من ماردٍ يسكن قنديلاً قديمًا أو من بابا نويل الذي يحملُ الهدايا رغم كل الثلوجِ، وتوقعت أن تظهرَ يدُها من خلفِ ظهرها بساعةٍ ليدي إلا أن ذلك لم يحدث.
في يومِ العيدِ الذي فرحتُ به وبأرجوحاتِهِ الملونةِ ومزاميرِهِ ذات النغماتِ غير المرتبةِ والطراطيرِ الملونةِ التي علت رءوس كل من هم في سني، انشغلتُ بهذه الأشياءِ وبجرحِ إصبع قدمي الكبير من أثرِ حذائي الجديدِ، ونسيتُ أنني طلبتُ ساعةً ليدي من أمي الطيبةِ، لكن أمي الطيبةَ لم تنس، ففي المساءِ دخلتْ حجرتي، وجدتني ألمّعُ حذائي الجديدِ بعد أن ضمّدت جرح إصبع قدمي. نادتني إلى الشرفةِ وأضاءت المصباحَ الذي أحلمُ بأن أطول مفتاحَه، وأخرجت من جيبِها ما أدهشني حقًا، ساعة يد، وكأنها صُنعت من أجلي فقط. فعلى إطارِها الذي سيلفُّ معصمي الدبُّ الذي أحبه، وورداتٌ متناثرةٌ بغيرِ ترتيبِ تمامًا كخلفيةِ صفحتي التي رسمتُ عليها شجرةً ذات زهور، قال عنها أستاذي إنها جميلةٌ يكاد يشمُّ رائحتها. وأنا أقلّبُ الساعةَ بحنوٍ بين يدي، همست أمي وكأنها تسر لي أن الزرَ الإضافي ليضيء شاشةَ ساعتي حتى أستطيع أن أعرفَ كم الساعة حتى في الظلامِ، وأطفأتْ المصباحَ، ضغطتُ الزرَّ فبهرني الضوءُ.
في الليلةِ الأولى، لم أستطعْ النومَ، حيث أخذتُ أضعَ الساعةَ على أذني كل فترةٍ قصيرةٍ لفترةٍ طويلةٍ حتى أتأكّدَ مما سمعتُ، فقد خيّل إليّ أن الساعةَ تحوّل اسمَ التدليلِ الذي تناديني به أمي إلى دقاتٍ متتابعةٍ متناغمةٍ.. أُس.. أُس.. أُس.. أُس.
في أولِ صباحٍ لعامي الدراسيِ الثاني، ساعدتني أمّي في ارتداءِ ملابسي وربطت حذائي، لم تذكّرني بارتداءِ ساعتي التي شمّرتُ من أجلِها كُمَّ الزيّ المدرسي حتى تظهرَ، حين قرّبتها من أذني لم تدقْ باسمي، ولكن دقّت: تُك.. تُك، فذكرت أمي أنها لم تضعْ في شعري «توكتي» المفضلة.
حملتُ حقيبتي ونزلتُ، أمام البيتِ، وقفتُ أنتظرُ باصَ المدرسةِ ونظرتُ في ساعتي وتأففتُ، ورفعتُ رأسي لأقولَ لأمي الواقفةَ بالشباكِ إن الباصَ تأخر دقيقتين ونصفًا عن موعدِهِ، وأني أخاف التأخير على طابورِ المدرسةِ الذي سيبدأُ في السابعةِ، وأنني أحبُّ الطابورَ لأحييِّ العلمَ في السابعةِ وخمس دقائق.. ابتسمت أمّي بينما فزعني نفيرُ الباصِ.
في المدرسةِ، لم أنزّل كُم الزي حتى لا يغطّي ساعتي، وكانت يدي ذات الساعةِ البديعةِ تتربّعُ فوقَ يدي الأخرى، وأنا جالسة في الصفّ. حين سألت المعلمةُ سؤالاً رفعتُ يدي ذات الساعة لأجيب عن السؤالِ، قرب نهايةِ الحصةِ، أحسستُ بأن أذني تكبر حتى تستطيع أن تسمع همسَ زميلتي بسؤالِها عن موعدِ انتهاءِ الحصةِ لأجيبها بعشرِ أو سبعِ أو أربعِ دقائق، أو عن سؤالِها عن متى يحينُ موعد الفسحةِ (الفرصة) لأقولَ لها في العاشرةِ وخمس دقائق، سيدقُّ الجرسُ ونخرجُ لنلعبَ، وربما نأكلُ ما معنا من شطائر تنبعثُ منها روائحٌ مختلفةٌ، في الحقيقةِ لم يسألْني في هذا اليومِ أيُّ أحد عن التوقيتِ، لكن في الفسحةِ دارَ الحديثُ مع صديقاتي عن أنه صار لي ساعةٌ جميلةٌ عليها دبٌّ أعجبهنّ معي، وكيف أكدن لي أنهن يشممن رائحةَ زهورِها البديعةِ، وتمنين لو يصبح عندهن ساعةً مثلي، فأسررتُ لهن بما أدهشني جدًا.. جدًا.. وهو أن الساعةَ في الصباحِ الباكرِ همست لي بالوقتِ وأيقظتني قبلَ أن يدقَّ المنبهُ.
........
نقلا عن موقع مجلة العربي الصغير
نقلا عن موقع مجلة العربي الصغير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق