الدرس الأخير
للكاتب الفرنسى: دوديه
ترجمة الشاعر: حسن صلاح حسن
ذهبت
إلى المدرسة فى ذلك اليوم متأخراً، وكنت مرعوباً من التوبيخ، وخاصةً أن
الأستاذ هامل قد أخبرنا بأنه سيسألنا فى أسماء الفاعل وأسماء المفعول، ولم
أكن أدرى أى شىء عن هذا الدرس. فى البداية فكرت فى الهرب وقضاء اليوم خارج
المنزل. كان يوماً دافئاً مشرقاً. كنت أسمع سقسقة العصافير على مقربة من
الغابة الصغيرة، أما جنود بروسيا (الألمان) فقد كانوا يحفرون فى الحقل
الواسع خلف ماكينة النشر. وقد كان هذا يغوينى عن درس أسماء الفاعل وأسماء
المفعول. ولكننى تغلبت على هذه الغواية، وأسرعت إلى المدرسة.
وحينما
مررت بمبنى المدينة، كان هناك حشدٌ من الناس أمام لوحة الأخبار. فقد علمنا
كل أخبار بلدنا السيئة منها طوال العاميين الماضيين - معاركنا التى
خسرناها، والانسحاب، وأوامر القائد العام – وسألت نفسى بدون التوقف عن
السير:
- يا ترى ما الأمر الآن؟
بعدئذٍ، وأنا أسرع الخُطى، نادى عليَّ الحداد، ووشتر، الذى كان هناك ومعه صبيه:
- على رسلك يا صبي .. فما زال أمامك المزيد من الوقت لتصل إلى مدرستك.
فاعتقدت أنه يسخر منى، ووصلت إلى حديقة الأستاذ هامل الصغيرة وأنا مقطوع الأنفاس.
أما
اليوم حينما وصلت فكان كل شىء ساكناً. وكنت أُأَمِّل على صخب الأولاد لكى
أمر إلى دكتى بدون أن يرانى الأستاذ هامل، ولكن فى ذلك اليوم كل شيء كان
هادئاً كصبيحة يوم الأحد.
استطعت
رؤية زملائى فى الفصل من النافذة، كلٌ فى مكانه، ورأيت الأستاذ هامل يذرع
الغرفة ذهاباً وإياباً، متأبطاً مسطرته الحديدية المخيفة. كنت مضطراً إلى
فتح الباب والمرور أمام الجميع، ولك أن تتخيل مدى الإحراج والخوف الذى شعرت
بهما.
ولكن لم يحدث شيء، فقد نظر لى الأستاذ هامل وقال بصوتٍ عطوف:
- اذهب إلى مكانك بسرعة يا فرانز الصغير .. كنا قد بدأنا الدرس بدونك.
فقفزت
فوق المدرج، وجلست على مقعدي، ولم أكن قد لاحظت، حتى تلك اللحظة بعد أن
تغلبت على خوفى قليلاً، أن الأستاذ هامل يرتدى معطفه الأخضر الجميل، وقميصه
المهدَّب، وقبعته الحريرية السوداء الصغيرة، وكلها مطرزة، ولم يكن ليرتدى
مثل هذه الملابس إلا فى أيام التفتيش أو تسليم الجوائز. وبالإضافة إلى ذلك
فقد بدت المدرسة جميعها غريبة جداً ومهيبة. أمّا الشىء الذي أدهشنى كثيراً
هو أن أرى فى المقاعد الخلفية، والتى تكون دائماً خالية، فلاحي القرية
يجلسون فى صمتٍ مثلنا تماماً. هوسر العجوز، بقبعته ثلاثية الزوايا، وعمدة
المدينة السابق، ومدير مكتب البريد السابق، والآخرين الذين يجلسون بجوارهم.
بدا على الجميع الحزن، وقد جلب هوسر كتاباً قديماً فى تعليم الهجاء قد
بليت حوافه، وقد وضع الكتاب على ركبتيه مفتوحاً ووضع نظارته الضخمة فوق
الصفحات.
وفى خضم دهشتى، اعتلى الأستاذ هامل كرسيه، وقال بنفس النبرة الرقيقة الحانية التى استخدمها معى منذ لحظات:
- أبنائى .. هذه هى آخر حصة لى معكم .. فقد جاءت الأوامر من ألمانيا بأن تُدرس اللغة الألمانية فقط فى مدارس ألساس[1] ولوراين[2]. معلمكم الجديد سيصل غداً. هذه آخر حصة للغة الفرنسية لكم، أريدكم أن تُعيرونى انتباهكم جيداً.
كانت هذه الكلمات كقصف الرعد فى أذني.
يا للأشرار! إذاً هذا ما وضعوه على لوح الأخبار.
آخر
حصة فى اللغة الفرنسية! لماذا؟ لقد تعلمت بالكاد كيفية الكتابة! ولن أكتب
بها بعد الآن! ومن المفترض أن أتوقف عند هذا الحد عندئذٍ! يا إلهى، كم أشعر
بالأسى لأننى لم أذاكر دروسى، وكل هذا من أجل أن أجمع بيض الطيور، أو أذهب
للتزلج على نهر السار[3] (Sarre).
أما كتبى – التى كانت منذ لحظات قلائل تبدو وكأنها شيء تافه، وثقيلة عند
حملها، وكتاب القواعد، وتاريخ القديسين – أصبحوا الآن أصدقائى القدامى
الذين لا يمكننى التخلى عنهم. والأستاذ هامل أيضاً، مجرد فكرة أنه سيذهب
بعيداً، ولن أراه ثانيةً، جعلتنى أنسى كل شيء عن مسطرته وكيف كان يعاملنا
بقسوة وغرابة.
يا
للرجل المسكين! فقد كان شرف ذلك الدرس الأخير السبب فى ارتدائه ملابسه
الرائعة التى يرتديها أيام الآحاد. فهمت الآن سبب حضور شيوخ القرية وجلوسهم
فى آخر صف فى الفصل. بالتأكيد لأنهم يشعرون بالأسى والأسف لعدم ذهابهم إلى
المدرسة بما يكفى. لقد كانت تلك هى الطريقة التى أرادوا بها شكر المعلم
الذى أفنى سنى عمره الأربعين فى خدمته المخلصة وإظهار إحترامه للوطن الذى
لم يعد وطنهم الآن.
وبينما
كنت أفكر فى كل هذه الأشياء، سمعت المعلم ينادى اسمى. لقد كان دورى فى
إلقاء الدرس. ما الذى لم يكن عندى لأتمكن من أن أسمّع هذه القاعدة الصعبة
لأسماء الفاعل والمفعول بصوتٍ عالٍ وواضحٍ وبدون أية أخطاء؟ لكننى تشوشت فى
الكلمات الأولى، ووقفت هناك متشبثاً بمقعدى، وقلبى يدق دقاً عنيفاً، ولم
أجرؤ على رفع ناظري إلى الأستاذ هامل االذى قال لى:
-
لن أوبخك يا صغيرى فرانز؛ يكفيك ما تشعر به من خزي. أترى! كل يومٍ كنا
نقول لأنفسنا .." مازال أمامى المزيد من الوقت .. سأتعلمها غداً" .. والآن
أترى ما أُلنا إليه؟ هذه هى مشكلة ألساس الكبرى .. دائماً تؤخرون التعلم
للغد .. والآن سيكون لهؤلاء السادة الجالسين فى آخر صف الحق فى أن يقولوا
لك .." كيف هذا؟ أتتظاهر بأنك فرنسي ولا تستطيع أن تقرأ أو تكتب بلغتك
الفرنسية؟" .. ولكنك لست الأسوأ يا صغيرى فرانز، فكلنا يستحق قدراً كبيراً
من هذا التوبيخ.
"لم
يكن لوالديك الدافع الكافى لتعليمك، فهم يفضلان لك أن تعمل فى الحقل أو فى
الطاحونة، لكى تحصل على بنساتٍ قليلة. وأنا؟ .. يجب أن يُلقى اللوم على
عاتقى أيضاً. ألم أرسلك مراتٍ ومراتٍ لتروى زهورى بدلاً من أن تستذكر
دروسك؟ وحين أردت أن أذهب للصيد، ألم أعطك إجازة؟"
وتنقل
الأستاذ هامل من موضوع إلى آخر متحدثاً عن اللغة الفرنسية، وكيف أنها كانت
أجمل لغات العالم - أوضحها وأكثرها منطقية؛ لدرجة أنه يجب علينا حمايتها
بيننا وألا ننساها أبداً، لأنه حينما يوضع فئة من الناس فى الأسر، فإن
لديهم مفتاح سجنهم طالما ظلوا متشبثين بلغتهم تشبثاً وثيقاً. وبعدئذٍ فتح
لنا كتاب القواعد، وبدأ فى قراءة الدرس. لكم كنت مدهوشاً لشد ما وجدتنى
أستوعب كل شىء وأفهمه .. كل شىء قاله كان سهلاً جداً! أعتقد أننى لم أنصت
بحرصٍ كافٍ مثل تلك المرة من قبل، كما أنه لم يشرح الدرس من قبل بمثل هذا
الصبر. وبدا الأمر وكأن معلمنا المسكين يريد أن يلقننا كل ما يعرفه قبل أن
يرحل عنا، ويضع كل العلم فى رؤوسنا دفعة واحدة.
بعد
درس القواعد، أخذنا درساً فى الكتابة. وكان لدى الأستاذ هامل نسخاً جديدة،
مكتوبة بخط جميل: فرنسا، ألساس .. فرنسا، ألساس. بدت هذه الكلمات كأعلامٍ
صغيرة ترفرف فى كل مكانٍ فى الفصل متشبثةً بقضبان الحديد فى المناضد (دكك).
وكان ينبغى عليك أن ترى كيف أن كل واحدٍ منا بدأ فى الحال فى الكتابة،
وكان يلفنا الصمت .. أما الصوت الوحيد الذى يمكنك سماعه هو صوت احتكاك
الأقلام بالأوراق. حتى أن بعض الخنافس كانت تطير، ولكن لم يعرها أحد
انتباهه، حتى الصغار الذين كانوا يتتبعون بأقلامهم رسم صنانير الصيد، وكأن
ذلك كان من دروس اللغة الفرنسية أيضاً. كانت هناك بعض الحمائم التى نسمع
هديلهن المنخفض، فسألت نفسى:
- هل سيجعلون هذه الحمائم تُغنى بالألمانية؟ .. حتى الحمائم أيضاً؟
كلما
رفعت بصرى عن كراسة الخط، رأيت الأستاذ هامل جالساً بلا حراك فى كرسيه
محملقاً إلى شيء ما ثم ينقل ناظريه إلى شيء آخر، كما لو كان يريد أن يثبت
فى عقله مكان كل شيء فى الفصل لآخر مرة. تخيل! لأربعين عاماً وهو يعمل فى
نفس المكان .. يرى حديقته من النافذة .. وأمامه الفصل. الأمر ظل كذلك
دائماً، غير أن المقاعد والمناضد قد تآكلت قليلاً، وأشجار الجوز فى الحديقة
صارت أطول، وشجرة اللبلاب التى زرعها بنفسه كانت قد كبرت ووصلت جدائلها من
النوافذ إلى السقف. يا لفؤاده المسكين الذى سيتحطم بتركه كل هذه الأشياء
.. يا للمسكين! .. أن يسمع أخته تتحرك فى الغرفة الواقعة فوق الفصل تحزم
الأمتعة حيث سيرحلون عن البلد فى اليوم التالى.
ولكن
كانت لديه الشجاعة أن يسمع كل درس حتى النهاية. أخذنا درس تاريخ بعد درس
الكتابة، وبعد ذلك بدأ الأطفال الصغار فى ترتيل أغنيتهم .. با .. بي .. بو
.. وفى آخر الفصل، ارتدى هوسر العجوز نظارته الطبية الضخمة، وأمسك بكتاب
الهجاء بكلتي يديه، متهجيا الحروف مع الأطفال الصغار. وكان يبكى أيضاً
وترتعش نبرات صوته تأثراً، وكان أمراً مضحكاً أننا جميعاً كنا نريد الضحك
والبكاء فى نفس الوقت. يااااه .. مازلت أتذكر هذا اليوم جيداً .. الدرس
الأخير.
وفجأة
دقت أجراس الكنيسة معلنةً تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، ثم صلاة
الظهيرة. فى نفس اللحظة سمعنا أبواق البروسيين (الألمان) العائدين من
المنشرة، تحت نوافذ الفصل. نهض الأستاذ هامل من كرسيه .. شاحب الوجه. لم
أره بهذا الطول من قبل قط.
وقال لنا:
"أصدقائي .. أنا .. أنا .. " ولكن شيئاً كان يتحشرج فى حلقه، فلم يستطع أن يُكمل جملته.
فاستدار إلى السبورة، وأخذ قطعة من الطباشير، وبدأ يكتب - متحاملاً على نفسه بكل ما أوتى من قوة – بأكبر خطٍ يستطيعه:
"عاشت فرنسا"
ثم توقف عن الكتابة، ومال برأسه على السبورة، وبدون أن ينبس بكلمةٍ، أشار لنا بيده:
" انتهى اليوم الدراسي .. يمكنكم الذهاب"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق