المكافأة الغريبة
أبوبكر العيّادي
يُحْكى
أنّ شابّا ماتَ أبَواه، ولم يَترُكا لهُ غيرَ بَيْتٍ بائس، ورَغْم حِرصِهِ
وعَزمِه، عاش عيشةَ فَقرٍ وخَصاصَة. كان يَخْرُجُ كُلَّ يومٍ منذُ
الصّباحِ الباكر ، ويَطوفُ في أنْحاءِ المدينة ، فلا يَكادُ يَظفَرُ بِما
يَسُدُّ الرّمَق ، وكان رغم ذلك مُستقيمًا ، لا يَمُدُّ يدَهُ إلى حَرامٍ
قَطّ .
ذاتَ يوم ، خَرَجَ كَعادتِه ، وبَقيَ يَتَنقّلُ في المدينةِ بَحْثًا عن شُغْل ، دونَ جَدوى ، ولَمّا كان عائدًا في آخِرِ النّهار ، أبْصَرَ مِحفَظةَ نُقودٍ مُلقاةً على الأرض . التقَطَها بِخِفّة ، ورجَعَ إلى بيتِهِ مُسْرعًا ، وما كاد يَفتَحُها حتى بقيَ مَذهولاً ، لا يُصَدّقُ ما يرى :
-آه !! … ذَ…ذَ…ذهب !!؟ دَ…دَ…دنانيرُ من ذهب !!؟
قال ذلك وجَلَسَ يعُدُّ القِطَعَ الذّهبية ، فإذا هي تَفوقُ المائةَ بقليل . غَمرَهُ فرَحٌ شديد ، فحَمِدَ اللهَ كثيرًا ، وقال في نفسِه :
-لقد ولّى الفقرُ بلا رجعة ! حمدًا لكَ يا ربّ ! حمدًا لك يا ربّ !
وباتَ ليلتَهُ تلك سَهْرانَ يَقِظًا، يُقَلّبُ الأفكارَ يَمْنةً ويَسْرَة، لكيْ يتَخيّرَ السّبيلَ الّذي يُسْتَحْسَنُ أن يَستَثمِرَ فيهِ ذلك المبلَغ، ولم يَنَمْ إلاّ في وَقْتٍ مُتأخّر. وما هيَ إلا بِضْعُ ساعاتٍ حتى أفاقَ من النّومِ على صوتِ منادٍ يُنادي :
يا أهلَ المعروف ! يا أهلَ الأمانة !
مَن وجدَ منكم مِحفظةً بالنّقودِ ملآنة !
لهُ نِصفُها بِشارَة !
إنْ جاءنا بالأمارَة !
عندما سَمِعَ الشابُّ ذلك ، قال في نفسه :
-كُنْتُ أظُنُّ أنهُ رزْقٌ ساقَهُ اللهُ إليّ . الآنَ وقَد ظهَرَ صاحبُه ، لم يعُدْ مِن حقّي الاِحتفاظُ به . آخُذُ نِصفَهُ بالحلال ، خيرٌ منَ المبلَغِ كلِّه ، مِنْ طريقٍ لا تَرضاها نَفْسي ولا يَرْضاها ربّي .
أخذ المحفظةَ ولحِقَ بالمنادي وسأله :
-أهذه هي المحفظةُ التي تبحَثُ عنها ؟
نَظَرَ المنادي إلى المحفظة ثُمّ قال :
ذاتَ يوم ، خَرَجَ كَعادتِه ، وبَقيَ يَتَنقّلُ في المدينةِ بَحْثًا عن شُغْل ، دونَ جَدوى ، ولَمّا كان عائدًا في آخِرِ النّهار ، أبْصَرَ مِحفَظةَ نُقودٍ مُلقاةً على الأرض . التقَطَها بِخِفّة ، ورجَعَ إلى بيتِهِ مُسْرعًا ، وما كاد يَفتَحُها حتى بقيَ مَذهولاً ، لا يُصَدّقُ ما يرى :
-آه !! … ذَ…ذَ…ذهب !!؟ دَ…دَ…دنانيرُ من ذهب !!؟
قال ذلك وجَلَسَ يعُدُّ القِطَعَ الذّهبية ، فإذا هي تَفوقُ المائةَ بقليل . غَمرَهُ فرَحٌ شديد ، فحَمِدَ اللهَ كثيرًا ، وقال في نفسِه :
-لقد ولّى الفقرُ بلا رجعة ! حمدًا لكَ يا ربّ ! حمدًا لك يا ربّ !
وباتَ ليلتَهُ تلك سَهْرانَ يَقِظًا، يُقَلّبُ الأفكارَ يَمْنةً ويَسْرَة، لكيْ يتَخيّرَ السّبيلَ الّذي يُسْتَحْسَنُ أن يَستَثمِرَ فيهِ ذلك المبلَغ، ولم يَنَمْ إلاّ في وَقْتٍ مُتأخّر. وما هيَ إلا بِضْعُ ساعاتٍ حتى أفاقَ من النّومِ على صوتِ منادٍ يُنادي :
يا أهلَ المعروف ! يا أهلَ الأمانة !
مَن وجدَ منكم مِحفظةً بالنّقودِ ملآنة !
لهُ نِصفُها بِشارَة !
إنْ جاءنا بالأمارَة !
عندما سَمِعَ الشابُّ ذلك ، قال في نفسه :
-كُنْتُ أظُنُّ أنهُ رزْقٌ ساقَهُ اللهُ إليّ . الآنَ وقَد ظهَرَ صاحبُه ، لم يعُدْ مِن حقّي الاِحتفاظُ به . آخُذُ نِصفَهُ بالحلال ، خيرٌ منَ المبلَغِ كلِّه ، مِنْ طريقٍ لا تَرضاها نَفْسي ولا يَرْضاها ربّي .
أخذ المحفظةَ ولحِقَ بالمنادي وسأله :
-أهذه هي المحفظةُ التي تبحَثُ عنها ؟
نَظَرَ المنادي إلى المحفظة ثُمّ قال :
-تعالَ معي وسَوْفَ نتأكّدُ من ذلك .
رافق الشابُّ المناديَ إلى دُكّانٍ في وَسَطِ المدينة ، يُديرُهُ شَيخٌ وَقور . عندما رأى الشيخُ المحفظة ، أشْرقَ وجهُهُ فرَحًا وقال :
-نَعَم ! إنها هي ! واسْمي مَنْقوشٌ بداخِلِها . اُنظُرا !
عندما اطمأنّ المنادي لِنجاحِ مُهمّتِه ، تَسَلّمَ أجْرَهُ وانْصَرف ، وبَقِيَ الشابُّ يَنتظرُ المكافأةَ الْمَوْعودة . أخَذَ الشّيخُ يعُدُّ مالَه ، وبَعْدَ أن قَسَمَهُ نصفيْن ، هَمَّ بأن يُسَلِّمَ الشابَّ نَصيبَه ، ثمّ تردّدَ وقال :
-أنتَ شابٌّ أمينٌ . كان يُمكِنُ أن تأخُذَ المِحْفظةَ بما فيها ، ولكنّكَ رضِيتَ بالنّصْف ، وهذا دَليلٌ على حُسْنِ أخلاقِكَ وقناعتِك . ما رأيُكَ لو تَقنَعُ بالثُّلُث ؟ الثّلُثُ مبلَغٌ كَبير ، ألَيْس كذلك ؟
قال الشابّ :
-كما تَرى يا عَمّ .
فَرَزَ الشّيخُ ثُلُثَ الْمَبْلَغ ، ولَمّا هَمّ بتسليمِهِ إلى الشابّ ، تردّدَ من جديدٍ وقال :
-حتى الرّبُعُ نصيبٌ لا بأسَ به . هه ! ما رأيُكَ لو تَقنَعُ برُبُعِ الْمَبْلَغ ؟
قال الشابّ :
-كما تَرى يا عَمّ .
عَدّ الشيخُ نقودَهُ مرّةً أخرى، وفَرَزَ منها الرُّبُع، ولَمّا هَمّ بتَسْليمِهِ إلى الشابّ، سَحَبَ يدَهُ وقال :
-ما رأيُكَ في عِشْرينَ قِطْعة ؟ عشرونَ قِطعةً من الذّهَب مَبلَغٌ مُحْترَم. أليس كذلك ؟
قال الشابّ :
-كما ترى يا عَمّ .
أعاد الشّيْخُ العدّ مَرّةً أخرى ، ولَمّا هَمّ بتَسْليمِ الشابّ عِشرينَ قطعة ، تردّدَ قائلاً :
-حتى عَشَرَةُ دنانيرَ منَ الذّهب ، هي مبلَغٌ لا يُستَهانُ به . ما رأيُك ؟
قال الشابّ :
-كما تَرى يا عَمّ .
عدّ الشيخُ عشْرَ قِطَع ، وحينما هَمّ بأن يَمُدّها إلى الشابّ ، تردّدَ ثم قال :
-الْمالُ زائلٌ يا ابني مَهْما كانت قيمَتُه . ما رأيُكَ في دَعَواتٍ صالحات ، ترافِقُكَ مدى الحياة ؟
ازدَرَدَ الشابّ ريقَهُ ثُمّ قال :
-كَـ…كما تَرى يا عَمّ .
عندئذٍ رفَعَ الشيخُ يَدَيْهِ إلى السّماء وقال :
-اذهَبْ يا ابني! جعلَ اللهُ من نصيبِكَ الرّبْحَ إنْ سَعيْت ، والمرأةَ الصالحةَ إن تَزَوّجْت ، والبيتَ الْعامِرَ إن سَكَنْت !
شَكَرَهُ الشابُّ على مَضَض ، وعاد يَجُرُّ رجليْهِ جَرّا ، ويَلومُ نفسَه :
-يا لَهُ من رجلٍ عَديمِ الوفاء ! جئتُهُ بِمالِهِ كاملاً فأنْكَرَ وعْدَه . تبّا له ! لقد سَخِرَ منّي .
ومرّتِ الأيّامُ وحالُ الشابِّ تَزدادُ سوءًا يومًا بعد يوم ، حتى اضطرّهُ الجوعُ إلى التّسوّل ، وصار يَستجدي الناسَ عَشاءه . وفي ليلةٍ شَتَويّةٍ قارسة ، بينما كان يَطوفُ في الْحَواري ويَطرُقُ الأبواب ، لَعلّ النّاسَ يَجودونَ عليهِ بِما يُطْفئُ جوعَه ، لَمَحَ ضوْءًا خافتًا ينبعِثُ من أحَدِ البيوت ، سارَ نحوَهُ فإذا بابُهُ مُفْرَج . طرقَ البابَ وقال :
-لله يا أهلَ البرّ والإحْسان ! يا أهْلَ الْمَعْروف ! حسنَةً لوَجْهِ الله !
ثمّ أطلّ من فُرْجَةِ الباب وأعادَ الرجاءَ فلم يُجبْهُ أحد . عندئذٍ دفَعَ البابَ ودخَل . رأى الغرفةَ التي ينبعثُ منها الضّوءُ مفتوحةً فاتّجَه نَحْوَها ، فإذا بوسَطِها مائدةٌ مَنصوبة ، وعليها قَصْعةٌ مُغطّاةٌ ومِلعَقتان . رفَعَ الغِطاءَ بِحَذَر فإذا كُسْكُسٌ حامٍ بلَحْمِ الخروف ، تَفوحُ منهُ رائحةٌ شَهيّة . لم يَشعُرِ الْمِسكينُ إلاّ وهوَ يَمْلأ مِلْعقةً ويَرفَعُها إلى فَمِه . ثُمّ توقّفَتْ يدُهُ فجأةً ، فقال في نَفسِه :
-عجبًا ! كيف أدخُلُ بيتَ الناس ، وأمُدُّ يَدي إلى طَعامِهِم بغَيرِ استئذان ؟ اِغْفِرْ لي يا ربّ ! الجوعُ أنساني السّلوكَ القَويم .
ندِمَ المسكينُ على ما فرَطَ منه وأعادَ الملعقةَ بلُقْمَتِها إلى القَصْعة ، وخرَجَ على عَجَل .
ذلك البيتُ تَسْكُنُهُ فَتاةٌ يَتيمَة ، اعتادتْ أن تَدعُوَ جارتَها لتُؤانِسَها ، وتَتناولَ مَعَها طَعامَ العَشاء . في تلك اللّيلة ، أعَدّتِ الفتاةُ العَشاء ، غيرَ أنّ الجارةَ تأخّرتْ عن مَوْعِدِها ، فخَرَجَتِ الفتاةُ تسألُ عنها .
-أين أنتِ يا خالة ؟ لِماذا تأخرْتِ ؟
أجابتْها جارتُها قائلةً :
-لا لا , لا شيءَ يا ابنتي . أمرٌ بسيطٌ شغَلَني حتى الساعة .
قالت لها الفتاةُ تَستعجِلُها :
-دَعيهِ ليَوْمِ الغَد . الكُسْكسُ سَيَبرُد .
قالت لها :
-حسنًا . اسبَقيني وسَوْفَ ألْحَقُ بك .
عادتِ الفتاةُ إلى بَيتِها ، وما كادتْ تدخُلُ الغرفةَ حتّى رأتِ الغِطاءَ مَوْضوعًا بجانبِ القَصعة ، وإحدى الملعَقتيْنِ مَغْروسةً في الطّعام ، فاسْتَبدّ بها الخَوف . عندما أقبلَتْ جارتُها وجَدَتْها تبكي ، فتَحيّرتْ وسألتْها :
-ما لكِ تَبْكينَ يا ابنَتي ؟
فحَكَتْ لها الفتاةُ الحكاية ، ثمّ أضافت قائلةً :
-هذا شخصٌ يَعرِفُ أنّي وَحيدة . لو كان لي أبٌ أو أخٌ أو زَوجٌ لَما تَجاسَرَ على اقتِحامِ بيتي أحد . ولكنّي يتيمة …
وأجْهَشتْ بالبكاء . وبينما كانتِ الجارةُ تُواسيها ، كَفْكَفتِ الفتاةُ دُموعَها وقالت :
-أرجوكِ أن تُحْضري زَوْجَكِ الآن . أنا بحاجةٍ إليه .
هدّأتِ الجارةُ رَوْعَها ، ونادتْ زَوجَها . ولَمّا حَضَرَ قالت لهُ الفتاة :
-لن أبْقى بَعْدَ اليومِ وَحْدي يا عَمّ . لقد قَرّرتُ أن أتزوّج ، وأودّ أن تختارَ لي عريسًا .
ربّتَ الجارُ على كَتِفِها وقال :
-نِعمَ الرأيُ يا ابنتي . غدًا إن شاءَ اللهُ سأشرَعُ في البَحثِ عن زَوجٍ يَليقُ بكِ .
وهَمّ بالخروج ، فإذا بها تَستوقِفُهُ وتقولُ له :
-لا ! أريدُهُ الليلة !
اهتزّ الجارُ لِلمفاجأةِ ثُمّ قال لها :
-ماذا ؟ الليلة ! وأينَ سأجدُه ؟
قالت لهُ الفتاةُ والإصرارُ يبْرُقُ في عَينيْها :
-نَعم . الليلة . سأرضى بأوّلِ رجُلٍ تُصادفُهُ ولَو كان مُتسوّلاً أو بائعَ أسْمالٍ بالية .
حاولتْ جارتُها إقناعَها ، ولكنّ الفتاةَ أصرّتْ على رَأيِها ، فأذعَنَ الجارُ إكرامًا لِروحِ والِدِها ، وخرَجَ يبحَثُ لها عن عَريس .
كانت ليلةً شديدةَ البرد ، كثيفةَ الظلام ، وكانتِ الشوارعُ خاليةً في تلك السّاعةِ من الليل ، فلم يُصادِفْ في طريقِهِ سوى ذلك الشابّ البائسِ الّذي لا يَزالُ يَسْتَجدي عَشاءه . سَمِعَهُ يردّدُ في الظلام :
-لله يا أهلَ البرّ والإحسان ! للهِ يا أهلَ المعروف !
ناداهُ فأسرَعَ إليهِ الشابّ وهو يأمَلُ كسرةَ خبْز أو فَضْلَةً من طعام ، فإذا بالجار يسألُه :
-هل تريدُ أن تتزوّجَ هذه الليلةَ ؟
بُهِتَ المسكينُ أولَ الأمر ، ثمّ قال للرّجل :
-أتَسْخَرُ منّي ؟ أنا أستَجدي لُقْمَة أسُدُّ بها غائلةَ الجوع ، وأنت تُحدّثُني عنِ الزّواج !
قال لهُ الجارُ مؤكّدًا طلبَه :
-أنا جادٌّ فيما أقول . أجبْنِي . هَلْ تَرْغَبُ في الزّواجِ أمْ لا ؟
كان الشابّ يَرتَجِفُ من شِدّةِ البرْدِ والجوع . فَكّرَ قليلاً ثم قال في نفسِه :
-ماذا سأخسَر ؟ أتبعُهُ ولْيَكُنْ ما يكون .
وتَبعَهُ ، فمَرّ الرّجلُ بكاتبِ عَدْل وشاهِد ، والتقَوْا جميعًا في ذلك البيت ، فشَهِدوا عَقْدَ قِرانِ الشابّين ، ثم تَركوهما وانْصَرفوا إلى بيوتِهِم .
بعد ذلك جاءتِ الفتاةُ بثيابِ أبيها ، وقدّمَتها لزَوجِها ، فتطهّرَ وحَلَقَ ذقَنَه ، وسَوّى مَظهَرَه ، ثمّ جَلَسَ حِذوَها إلى المائدةِ لتَناولِ العشاء . وما كاد يَمُدّ يدَهُ إلى الطعامِ حتى افترّ فمُهُ عن بَسْمة . استاءتِ الفتاةُ وقالت له :
-لماذا تَضْحَك ؟ هل تَسْخَرُ منّي لأنّي سَعيْتُ للزّواجِ منك ؟
أجابَها الشابّ بقَولِه :
-معاذَ الله ! إنّما ضحِكتُ لعَبثِ الأقدار . منذ حين ، دخَلتُ هذا البيتَ بغيرِ اسْتِئذان ، ومدَدتُ يَدي إلى هذا الطّعام بغَيرِ إذْن ، ثمّ كَرِهتُ أن يَصْدُرَ منّي ذلك ، فتركْتُ الأكْلَ وأنا أكادُ أهلَكُ منْ شِدّةِ الجوع . وها أنّي أعودُ إليهِ لآكلَهُ بالحَلال . فسُبْحانَكَ يا رَبّ ، يا مُغيّرَ الأحوال !
بَعْدَ تناوُلِ العَشاء ، قامتِ الفتاةُ لإعدادِ الشّاي ، بينما نَهَضَ الشابُّ يَجولُ في البيت ، ويَكتشِفُ حُجُراتِه . ولَمّا عادتْ زوجتُهُ بأقداحِ الشايِ قال لها :
-منذ مدّةٍ غير بعيدة ، عَثَرتُ على محفظةٍ ملآنَةٍ بقِطعٍ ذهبية ، كُنتُ أحْسَبُ أنّها رزقٌ ساقهُ اللهُ إليّ ، ولكنّ صاحبَها ظَهَرَ وعرَضَ النّصفَ على مَن يُعيدُ إليهِ مالَه . قلتُ في نفسي آخُذُ النّصفَ بالحلال خيرٌ من الاحتفاظِ بِمالٍ حَرام . غير أنّ الرجلَ لم يُعْطني غيرَ الدّعاء .
سألتْهُ زوجتُهُ :
-كيف ؟
ترشّفَ قليلاً من الشاي ثُمّ أضاف قائلا :
-قال لي : جعلَ اللهُ من نَصيبِكَ الرّبْحَ إنْ سَعيْت ، والمرأةَ الصّالحةَ إن تَزوّجّت ، والبيتَ الْعامِرَ إن سَكَنْت . كنتُ أعتقِدُ أنهُ استغفلني ، ولكنْ ها أن اللهَ يَستَجيبُ لدعائه . اليومَ وُهِبْتُ الزّوجةَ الصّالحة ، والبيتَ العامر ، ولم يبقَ غيرُ المال .
لَم يَكَدْ يُتِمُّ كلامَهُ حتّى نهضتِ الفتاةُ ، وغابتْ بُرهةً في إحْدى الحجُرات ، ثم عادتْ تَحْملُ في يدِها محفظة . ناولتْهُ إيّاها وهي تقول :
-أهذهِ هي الْمِحْفظةُ التي عَثَرتَ عليها ؟
هتَفَ الشابّ قائلا :
-نعم ! إنها هي بعَينِها ! من أينَ جاءتْكِ ؟
فنظرتْ إليهِ باسِمةً وقالت :
-هذه محفظةُ أبي رحمةُ اللهِ عَليه ، وقد رَوى لي الحكايةَ في حينِها ، وحدّثني عنكَ بإعْجابٍ كبير ، قائلا إنّ اللهَ سيرزُقُكَ بالطيّبات ، لأمانتِكَ وقناعتِكَ وحُسْنِ أخْلاقِك . الآنَ وقد أصبَحتَ زَوجي ، فهيَ لك ، وكذلك الدكّانُ الّذي وَرِثتُهُ عن والدي .
وهكذا تغيّرَت حياةُ الشابّ من حالٍ إلى حال ، وعاش مع زوجتِهِ أرغَدَ عيْش .
رافق الشابُّ المناديَ إلى دُكّانٍ في وَسَطِ المدينة ، يُديرُهُ شَيخٌ وَقور . عندما رأى الشيخُ المحفظة ، أشْرقَ وجهُهُ فرَحًا وقال :
-نَعَم ! إنها هي ! واسْمي مَنْقوشٌ بداخِلِها . اُنظُرا !
عندما اطمأنّ المنادي لِنجاحِ مُهمّتِه ، تَسَلّمَ أجْرَهُ وانْصَرف ، وبَقِيَ الشابُّ يَنتظرُ المكافأةَ الْمَوْعودة . أخَذَ الشّيخُ يعُدُّ مالَه ، وبَعْدَ أن قَسَمَهُ نصفيْن ، هَمَّ بأن يُسَلِّمَ الشابَّ نَصيبَه ، ثمّ تردّدَ وقال :
-أنتَ شابٌّ أمينٌ . كان يُمكِنُ أن تأخُذَ المِحْفظةَ بما فيها ، ولكنّكَ رضِيتَ بالنّصْف ، وهذا دَليلٌ على حُسْنِ أخلاقِكَ وقناعتِك . ما رأيُكَ لو تَقنَعُ بالثُّلُث ؟ الثّلُثُ مبلَغٌ كَبير ، ألَيْس كذلك ؟
قال الشابّ :
-كما تَرى يا عَمّ .
فَرَزَ الشّيخُ ثُلُثَ الْمَبْلَغ ، ولَمّا هَمّ بتسليمِهِ إلى الشابّ ، تردّدَ من جديدٍ وقال :
-حتى الرّبُعُ نصيبٌ لا بأسَ به . هه ! ما رأيُكَ لو تَقنَعُ برُبُعِ الْمَبْلَغ ؟
قال الشابّ :
-كما تَرى يا عَمّ .
عَدّ الشيخُ نقودَهُ مرّةً أخرى، وفَرَزَ منها الرُّبُع، ولَمّا هَمّ بتَسْليمِهِ إلى الشابّ، سَحَبَ يدَهُ وقال :
-ما رأيُكَ في عِشْرينَ قِطْعة ؟ عشرونَ قِطعةً من الذّهَب مَبلَغٌ مُحْترَم. أليس كذلك ؟
قال الشابّ :
-كما ترى يا عَمّ .
أعاد الشّيْخُ العدّ مَرّةً أخرى ، ولَمّا هَمّ بتَسْليمِ الشابّ عِشرينَ قطعة ، تردّدَ قائلاً :
-حتى عَشَرَةُ دنانيرَ منَ الذّهب ، هي مبلَغٌ لا يُستَهانُ به . ما رأيُك ؟
قال الشابّ :
-كما تَرى يا عَمّ .
عدّ الشيخُ عشْرَ قِطَع ، وحينما هَمّ بأن يَمُدّها إلى الشابّ ، تردّدَ ثم قال :
-الْمالُ زائلٌ يا ابني مَهْما كانت قيمَتُه . ما رأيُكَ في دَعَواتٍ صالحات ، ترافِقُكَ مدى الحياة ؟
ازدَرَدَ الشابّ ريقَهُ ثُمّ قال :
-كَـ…كما تَرى يا عَمّ .
عندئذٍ رفَعَ الشيخُ يَدَيْهِ إلى السّماء وقال :
-اذهَبْ يا ابني! جعلَ اللهُ من نصيبِكَ الرّبْحَ إنْ سَعيْت ، والمرأةَ الصالحةَ إن تَزَوّجْت ، والبيتَ الْعامِرَ إن سَكَنْت !
شَكَرَهُ الشابُّ على مَضَض ، وعاد يَجُرُّ رجليْهِ جَرّا ، ويَلومُ نفسَه :
-يا لَهُ من رجلٍ عَديمِ الوفاء ! جئتُهُ بِمالِهِ كاملاً فأنْكَرَ وعْدَه . تبّا له ! لقد سَخِرَ منّي .
ومرّتِ الأيّامُ وحالُ الشابِّ تَزدادُ سوءًا يومًا بعد يوم ، حتى اضطرّهُ الجوعُ إلى التّسوّل ، وصار يَستجدي الناسَ عَشاءه . وفي ليلةٍ شَتَويّةٍ قارسة ، بينما كان يَطوفُ في الْحَواري ويَطرُقُ الأبواب ، لَعلّ النّاسَ يَجودونَ عليهِ بِما يُطْفئُ جوعَه ، لَمَحَ ضوْءًا خافتًا ينبعِثُ من أحَدِ البيوت ، سارَ نحوَهُ فإذا بابُهُ مُفْرَج . طرقَ البابَ وقال :
-لله يا أهلَ البرّ والإحْسان ! يا أهْلَ الْمَعْروف ! حسنَةً لوَجْهِ الله !
ثمّ أطلّ من فُرْجَةِ الباب وأعادَ الرجاءَ فلم يُجبْهُ أحد . عندئذٍ دفَعَ البابَ ودخَل . رأى الغرفةَ التي ينبعثُ منها الضّوءُ مفتوحةً فاتّجَه نَحْوَها ، فإذا بوسَطِها مائدةٌ مَنصوبة ، وعليها قَصْعةٌ مُغطّاةٌ ومِلعَقتان . رفَعَ الغِطاءَ بِحَذَر فإذا كُسْكُسٌ حامٍ بلَحْمِ الخروف ، تَفوحُ منهُ رائحةٌ شَهيّة . لم يَشعُرِ الْمِسكينُ إلاّ وهوَ يَمْلأ مِلْعقةً ويَرفَعُها إلى فَمِه . ثُمّ توقّفَتْ يدُهُ فجأةً ، فقال في نَفسِه :
-عجبًا ! كيف أدخُلُ بيتَ الناس ، وأمُدُّ يَدي إلى طَعامِهِم بغَيرِ استئذان ؟ اِغْفِرْ لي يا ربّ ! الجوعُ أنساني السّلوكَ القَويم .
ندِمَ المسكينُ على ما فرَطَ منه وأعادَ الملعقةَ بلُقْمَتِها إلى القَصْعة ، وخرَجَ على عَجَل .
ذلك البيتُ تَسْكُنُهُ فَتاةٌ يَتيمَة ، اعتادتْ أن تَدعُوَ جارتَها لتُؤانِسَها ، وتَتناولَ مَعَها طَعامَ العَشاء . في تلك اللّيلة ، أعَدّتِ الفتاةُ العَشاء ، غيرَ أنّ الجارةَ تأخّرتْ عن مَوْعِدِها ، فخَرَجَتِ الفتاةُ تسألُ عنها .
-أين أنتِ يا خالة ؟ لِماذا تأخرْتِ ؟
أجابتْها جارتُها قائلةً :
-لا لا , لا شيءَ يا ابنتي . أمرٌ بسيطٌ شغَلَني حتى الساعة .
قالت لها الفتاةُ تَستعجِلُها :
-دَعيهِ ليَوْمِ الغَد . الكُسْكسُ سَيَبرُد .
قالت لها :
-حسنًا . اسبَقيني وسَوْفَ ألْحَقُ بك .
عادتِ الفتاةُ إلى بَيتِها ، وما كادتْ تدخُلُ الغرفةَ حتّى رأتِ الغِطاءَ مَوْضوعًا بجانبِ القَصعة ، وإحدى الملعَقتيْنِ مَغْروسةً في الطّعام ، فاسْتَبدّ بها الخَوف . عندما أقبلَتْ جارتُها وجَدَتْها تبكي ، فتَحيّرتْ وسألتْها :
-ما لكِ تَبْكينَ يا ابنَتي ؟
فحَكَتْ لها الفتاةُ الحكاية ، ثمّ أضافت قائلةً :
-هذا شخصٌ يَعرِفُ أنّي وَحيدة . لو كان لي أبٌ أو أخٌ أو زَوجٌ لَما تَجاسَرَ على اقتِحامِ بيتي أحد . ولكنّي يتيمة …
وأجْهَشتْ بالبكاء . وبينما كانتِ الجارةُ تُواسيها ، كَفْكَفتِ الفتاةُ دُموعَها وقالت :
-أرجوكِ أن تُحْضري زَوْجَكِ الآن . أنا بحاجةٍ إليه .
هدّأتِ الجارةُ رَوْعَها ، ونادتْ زَوجَها . ولَمّا حَضَرَ قالت لهُ الفتاة :
-لن أبْقى بَعْدَ اليومِ وَحْدي يا عَمّ . لقد قَرّرتُ أن أتزوّج ، وأودّ أن تختارَ لي عريسًا .
ربّتَ الجارُ على كَتِفِها وقال :
-نِعمَ الرأيُ يا ابنتي . غدًا إن شاءَ اللهُ سأشرَعُ في البَحثِ عن زَوجٍ يَليقُ بكِ .
وهَمّ بالخروج ، فإذا بها تَستوقِفُهُ وتقولُ له :
-لا ! أريدُهُ الليلة !
اهتزّ الجارُ لِلمفاجأةِ ثُمّ قال لها :
-ماذا ؟ الليلة ! وأينَ سأجدُه ؟
قالت لهُ الفتاةُ والإصرارُ يبْرُقُ في عَينيْها :
-نَعم . الليلة . سأرضى بأوّلِ رجُلٍ تُصادفُهُ ولَو كان مُتسوّلاً أو بائعَ أسْمالٍ بالية .
حاولتْ جارتُها إقناعَها ، ولكنّ الفتاةَ أصرّتْ على رَأيِها ، فأذعَنَ الجارُ إكرامًا لِروحِ والِدِها ، وخرَجَ يبحَثُ لها عن عَريس .
كانت ليلةً شديدةَ البرد ، كثيفةَ الظلام ، وكانتِ الشوارعُ خاليةً في تلك السّاعةِ من الليل ، فلم يُصادِفْ في طريقِهِ سوى ذلك الشابّ البائسِ الّذي لا يَزالُ يَسْتَجدي عَشاءه . سَمِعَهُ يردّدُ في الظلام :
-لله يا أهلَ البرّ والإحسان ! للهِ يا أهلَ المعروف !
ناداهُ فأسرَعَ إليهِ الشابّ وهو يأمَلُ كسرةَ خبْز أو فَضْلَةً من طعام ، فإذا بالجار يسألُه :
-هل تريدُ أن تتزوّجَ هذه الليلةَ ؟
بُهِتَ المسكينُ أولَ الأمر ، ثمّ قال للرّجل :
-أتَسْخَرُ منّي ؟ أنا أستَجدي لُقْمَة أسُدُّ بها غائلةَ الجوع ، وأنت تُحدّثُني عنِ الزّواج !
قال لهُ الجارُ مؤكّدًا طلبَه :
-أنا جادٌّ فيما أقول . أجبْنِي . هَلْ تَرْغَبُ في الزّواجِ أمْ لا ؟
كان الشابّ يَرتَجِفُ من شِدّةِ البرْدِ والجوع . فَكّرَ قليلاً ثم قال في نفسِه :
-ماذا سأخسَر ؟ أتبعُهُ ولْيَكُنْ ما يكون .
وتَبعَهُ ، فمَرّ الرّجلُ بكاتبِ عَدْل وشاهِد ، والتقَوْا جميعًا في ذلك البيت ، فشَهِدوا عَقْدَ قِرانِ الشابّين ، ثم تَركوهما وانْصَرفوا إلى بيوتِهِم .
بعد ذلك جاءتِ الفتاةُ بثيابِ أبيها ، وقدّمَتها لزَوجِها ، فتطهّرَ وحَلَقَ ذقَنَه ، وسَوّى مَظهَرَه ، ثمّ جَلَسَ حِذوَها إلى المائدةِ لتَناولِ العشاء . وما كاد يَمُدّ يدَهُ إلى الطعامِ حتى افترّ فمُهُ عن بَسْمة . استاءتِ الفتاةُ وقالت له :
-لماذا تَضْحَك ؟ هل تَسْخَرُ منّي لأنّي سَعيْتُ للزّواجِ منك ؟
أجابَها الشابّ بقَولِه :
-معاذَ الله ! إنّما ضحِكتُ لعَبثِ الأقدار . منذ حين ، دخَلتُ هذا البيتَ بغيرِ اسْتِئذان ، ومدَدتُ يَدي إلى هذا الطّعام بغَيرِ إذْن ، ثمّ كَرِهتُ أن يَصْدُرَ منّي ذلك ، فتركْتُ الأكْلَ وأنا أكادُ أهلَكُ منْ شِدّةِ الجوع . وها أنّي أعودُ إليهِ لآكلَهُ بالحَلال . فسُبْحانَكَ يا رَبّ ، يا مُغيّرَ الأحوال !
بَعْدَ تناوُلِ العَشاء ، قامتِ الفتاةُ لإعدادِ الشّاي ، بينما نَهَضَ الشابُّ يَجولُ في البيت ، ويَكتشِفُ حُجُراتِه . ولَمّا عادتْ زوجتُهُ بأقداحِ الشايِ قال لها :
-منذ مدّةٍ غير بعيدة ، عَثَرتُ على محفظةٍ ملآنَةٍ بقِطعٍ ذهبية ، كُنتُ أحْسَبُ أنّها رزقٌ ساقهُ اللهُ إليّ ، ولكنّ صاحبَها ظَهَرَ وعرَضَ النّصفَ على مَن يُعيدُ إليهِ مالَه . قلتُ في نفسي آخُذُ النّصفَ بالحلال خيرٌ من الاحتفاظِ بِمالٍ حَرام . غير أنّ الرجلَ لم يُعْطني غيرَ الدّعاء .
سألتْهُ زوجتُهُ :
-كيف ؟
ترشّفَ قليلاً من الشاي ثُمّ أضاف قائلا :
-قال لي : جعلَ اللهُ من نَصيبِكَ الرّبْحَ إنْ سَعيْت ، والمرأةَ الصّالحةَ إن تَزوّجّت ، والبيتَ الْعامِرَ إن سَكَنْت . كنتُ أعتقِدُ أنهُ استغفلني ، ولكنْ ها أن اللهَ يَستَجيبُ لدعائه . اليومَ وُهِبْتُ الزّوجةَ الصّالحة ، والبيتَ العامر ، ولم يبقَ غيرُ المال .
لَم يَكَدْ يُتِمُّ كلامَهُ حتّى نهضتِ الفتاةُ ، وغابتْ بُرهةً في إحْدى الحجُرات ، ثم عادتْ تَحْملُ في يدِها محفظة . ناولتْهُ إيّاها وهي تقول :
-أهذهِ هي الْمِحْفظةُ التي عَثَرتَ عليها ؟
هتَفَ الشابّ قائلا :
-نعم ! إنها هي بعَينِها ! من أينَ جاءتْكِ ؟
فنظرتْ إليهِ باسِمةً وقالت :
-هذه محفظةُ أبي رحمةُ اللهِ عَليه ، وقد رَوى لي الحكايةَ في حينِها ، وحدّثني عنكَ بإعْجابٍ كبير ، قائلا إنّ اللهَ سيرزُقُكَ بالطيّبات ، لأمانتِكَ وقناعتِكَ وحُسْنِ أخْلاقِك . الآنَ وقد أصبَحتَ زَوجي ، فهيَ لك ، وكذلك الدكّانُ الّذي وَرِثتُهُ عن والدي .
وهكذا تغيّرَت حياةُ الشابّ من حالٍ إلى حال ، وعاش مع زوجتِهِ أرغَدَ عيْش .
هناك تعليق واحد:
سفه أغلبها مسروق والحكاية من غير تيق في الفرج بعد الشدة للتنوخي وهي هناك ابدع واجمل
إرسال تعليق