الصندوق والكنز
أحمد طوسون
كان رائعا أن يرى سعيد أباه في المنام بعد أن رحل عن
الدنيا، وتركه وأخاه عمران، وحيدين وفقيرين، ولم يترك ما يعينهما على مواصلة
الحياة إلا قطعة أرض صغيرة بجوار كوخهما، حرصا على رعايتها وزراعتها حتى يكبر
المحصول.. حينها يبيعانه في السوق وبثمنه الزهيد يدبران طعامهما ومصاريف دراستهما
حتى يحين موعد حصاد المحصول الجديد.
سعيد كان يريد أن يشتكي لأبيه من طلباته واحتياجاته التي
لا يستطيع أن يلبيها، يحكي عن الملابس التي تمنى أن يشتريها ولم يكن يملك ثمنها،
عن الجهد الذي يبذله مع أخيه عمران وهما يخبزان الرغيف ويطهوان الطعام ويحرثان
الأرض ويبذران البذور ويرويانها من أجل زراعة الأرض، ثم بعد ذلك يذهبان إلى
المدرسة ويستذكران دروسهما لينجحا بتفوق كما تمنى لهما أبوهما.
لكنه لم ينطق بحرف وظل يحدق بأسى في وجه أبيه الذي كان
يشع نورا.
رأى أبوه الأسى الرابض في عينيه، فمسح بكفه الحنون على
رأس سعيد وضمه إلى صدره، وقال:
-
لا
تحزن يا بني
-
فبإمكانك
أن تحقق كل ما تتمناه
-
إذا
فتحت صندوق الكنز بمفتاحه المناسب
تعجب سعيد، وتساءل في نفسه بدهشة: ( هل ترك أبي لنا
كنزا، أستطيع أن أحقق به كل أحلامي، اشتري كل ما تشتهيه نفسي وأسكن في بيت كبير
وواسع وبه حديقة مزهرة؟)
وعاد غير مصدق ليسأل أباه:
-
هل
يعقل هذا يا أبي؟
ابتسم الأب ابتسامة رضا وقال بثقة:
-
نعم
يا بني
-
أنت
وأخوك تمتلكان كنزا
-
تستطيعان
أن تستخرجاه وتنعما به في حياتكما
تساءل سعيد بلهفة:
-
وأين
الكنز يا أبي؟!
قال أبوه:
-
الكنز
في صندوق لا تراه الأعين
(
صندوق لا تراه الأعين، الكنز داخل صندوق؟)
ظل سعيد يحدث نفسه غير مصدق أن الحياة ستضحك له ولأخيه،
وعاد ليسأل أباه عن مكان الصندوق، لكنه لم يجد أباه ورأى نور الصباح يشع داخل
الكوخ، وسمع نفسه يردد بفرح:
( صندوق لا تراه الأعين، الكنز داخل صندوق!)
فعرف أنه استيقظ من النوم قبل أن يعرف من أبيه مكان
الصندوق!
نهض مسرعا وراح يبحث عن أخيه عمران ليحكي له عن حلمه
الغريب!
***
وجد سعيد أخاه عمران يجلس أمام أرضه شاردا.. هرع إليه
وقال:
-
لقد
رأيت حلما وأريد أن أحكيه لك
كانت عينا عمران تمتلئان بالحيرة حين قال:
-
أنا
أيضا رأيت حلما
تبادل الصغيران النظرات وسألا في وقت واحد:
-
هل
أخبرك أبوك عن الصندوق والكنز؟!
وأجابا في صوت واحد:
-
نعم!
تصور الصغيران أن الحلم الذي رأياه رسالة واضحة ليبحثا
عن الصندوق ويجدا كنزهما قبل أن تصل إليه يد غريب أو طماع.
سارعا في لحظتها إلى كوخهما وبحثا بين أشيائهما عن
الصندوق، لكنهما لم يجدا شيئا!
سعيد قال:
-
إذا
كنت امتلك صندوقا به كنز لا بد أن أخفيه عن الأعين
تساءل عمران باستغراب:
-
ماذا
تعني؟
أشار سعيد إلى أخيه إشارة موحية، حمل بعدها عمران
أثاثهما إلى خارج الكوخ، بينما هرع سعيد وأحضر فأسه الصغير وظل يحفر مع أخيه أرض
الكوخ بحثا عن الصندوق حتى هدهما التعب.
عمران قال:
-
لو
استمرينا في الحفر أكثر من ذلك.. سيتهاوى الكوخ فوق رأسينا
قال سعيد وهو يقاوم النوم:
-
لابد
من وسيلة تساعدنا في الوصول إلى الكنز
***
في اليوم التالي سارعا إلى شيخ
الجامع وحكيا له حلمهما وسألاه أن يفسره لهما ويعينهما على معرفة مكان الكنز.
ابتسم الشيخ وربت عليهما وقال:
-
كان
أبوكما محقا
-
أنتما
تملكان كنزا
فرح الصغيران وقفزا في مكانيهما
وصاحا معا:
-
حقا
يا شيخنا؟
ثم أضاف سعيد:
-
وهل
ستساعدنا في الوصول إلى مكانه؟
-
بالطبع..
قال الشيخ بهدوء ووقار وأشار إلى صدر كل منهما، ثم أردف
قائلا:
-
داخل
هذا الصندوق قلب حين يمتلأ بالإيمان والحب والعطاء والعمل يستطيع أن يغير العالم
من حوله
-
المهم
أن ننتبه إلى كنزنا ولا نغفل عنه..
تطلع الصغيران إلى الشيخ بأسى وقالا:
-
ألم
يترك لنا أبونا كنزا حقيقيا؟
وغادرا الشيخ دون أن يستمعا إلى إجابته..
وعادا يجران
أقدامهما بصعوبة بعد أن ضاع حلمهما في العثور على كنز من الذهب والياقوت والمرجان
يغير حياتهما الخشنة التي لا يكفان فيها عن العمل.
***
في طريق عودتهما قابلا دجال
القرية.. نظر سعيد إلى أخيه وقال:
-
تعال
لنقص عليه حلمنا
حاول عمران منعه قائلا:
-
لكنك
تعرف أن الدجالين يجيدون الكذب والخداع!
لكن سعيد جذبه وقال بحماس:
-
إننا
لن نخسر شيئا
وسارعا إليه وحكيا له حلمهما.
غمغم الدجال بكلمات لم يفهماها وألقى
ببعض البخور في موقده فتصاعد دخان أبيض كثيف قبل أن يصيح فيهما:
-
يا
لكما من محظوظين
تبادل الصغيران النظر إلى بعضهما
وإلى الدجال وسألاه:
-
ماذا
تعني؟
-
لقد
ترك أبوكما صندوقا به كنوز لم أر مثيلها من قبل
-
وهل
يمكنك أن تساعدنا على معرفة مكان الصندوق؟
-
بالطبع
قال الدجال وقد حدق في مبخرته وهو
يغمغم بكلماته العجيبة.
سعيد قال بلهفه:
-
إذن
أخبرنا بمكانه أيها العم الطيب
غمغم الدجال وصاح بصورة أرعبتهما:
-
حي
-
هل
تظناني ساذجا
-
أريد
أجري أولا قبل أن أخبركما عن مكان الصندوق.
تساءل الصغيران عن الأجر الذي يريده الدجال ليخبرهما عن
مكان الكنز، وكيف سيدفعان له وهما لا يملكان شيئا.
وقف الرجل يتطلع إليهما ثم قال:
-
سآخذ
محصول الأرض
-
محصول
الأرض؟!
تساءل الولدان في دهشة.
الأرض التي تعبا في حراثها وزراعتها وانتظرا طويلا بعد
عملهما الشاق الذي استغرق شهورا حتى يحصدان الزرع ويبيعانه، ثم بثمنه يسددان
مصاريف دراستهما ويدبران طعامهما وشرابهما حتى يحين موعد حصاد جديد.
-
ومن
أين سننفق؟
قال عمران باستنكار!
لكن الدجال سال لعابه وهو يتخيل كل محصول الأرض وقد أصبح
ملكه، وقال بثقة:
-
وماذا
يمثل المحصول بجوار كنزكما الذي سيجعلكما أغنى أغنياء القرية؟!
سعيد قال:
-
الرجل
معه حق
نهره أخوه عمران قائلا:
-
وماذا
لو كان الرجل كاذبا؟
وأجاب على نفسه:
-
سنفقد
كل شيء
تطلع سعيد إلى الدجال وكأنه يستفهم منه ويريده أن يجيب
عن سؤال أخيه عمران.
الدجال قال بثقة وهدوء:
-
أنتما
حران
-
إذا
كنتما تريدان معرفة مكان الصندوق، لا بد أن آخذ أجري أولا
-
وإن
لم تجدا الصندوق في المكان الذي سأخبركما به..
سأعيد المحصول لكما!
فكر الولدان وتبادلا أحاديث حول عرض الدجال، ووافقا
بعدها.. فإن لم يجدا الصندوق سيستعيدان المحصول ولن يخسرا شيئا.
***
زار الدجال
الأرض تحت ستارة الليل دون أن يراه أحد وكان يحمل صندوقا معه، حفر حفرة عميقة في
الأرض ووضعه بها ثم قام بردمها من جديد ووضع بعض الزرع فوقها حتى لا يلحظها أحد.
وفي الصباح جاء مع رجاله ليحصدوا المحصول ويحملوه فوق
عربات الدجال!
وبعد أن انتهوا من تحميل المحصول، الدجال قال:
-
الآن
يمكنني أن أخبركما عن مكان الصندوق
الولدان قالا بلهفة:
-
أين
هو؟
-
الصندوق
دفنه أبوكما في الأرض
-
ولكن
حذار إن وجدتاه أن تفتحاه كما أوصاكما أبوكما بغير مفتاحه وإلا تحولت كنوزه إلى
حجارة
وتركهما وهو سعيد بالمحصول الوفير الذي أخذه منهما.
***
لأيام ظل الصغيران يحفران الأرض بحثا
عن صندوقهما، حتى وجداه.
حينها زال عنهما تعب الأيام
الماضية.. قفزا عاليا ثم استلقيا على الأرض ، ينظران إلى السماء بسعادة وامتنان.
بعدها نهضا من جديد ليحملا الصندوق
ويخرجاه من الحفرة العميقة.
كان الصندوق من الحديد الصدئ بفعل
الزمن كما أعتقد الصغيران.
ورغم أنه لم يكن كبيرا كما كانا
يتمنيان، إلا أنه كان ثقيلا جدا.. بحيث حملاه وأخرجاه من الحفرة بصعوبة.. وهو ما
برراه بالكنوز الكثيرة التي تختبئ في بطنه وتجعله ثقيلا.
لكن الصندوق كان مغلقا بقفل كبير!
رفع عمران فأسه عاليا ليهبط به على
القفل، لكن سعيد سارع إلى منعه قائلا:
-
ماذا
تفعل يا مجنون؟
قال عمران متعجبا:
-
سأكسر
القفل..
نهره سعيد قائلا:
-
هل
جننت
أنسيت
وصية والدك ألا نفتح الصندوق بغير مفتاحه؟!
-
معك
حق..
ماذا سنفعل إذن وأين سنجد مفتاح الصندوق؟
-
سنستعين
بالرجل الطيب الذي أخبرنا بمكان الصندوق..
ليخبرنا
بمكان المفتاح!
هكذا قال سعيد لأخيه عمران، وكان
يقصد بالطبع الرجل الدجال.
***
هرع الصغيران إلى الدجال يسألانه عن
مفتاح الصندوق وأين يمكنهما أن يجداه؟
الدجال بدا مرتبكا وهو يردد:
-
المفتاح..
المفتاح
بالطبع كل قفل وله مفتاح
ثم نفخ في موقده فتصاعد دخان كثيف،
واستعاد ثقته وهو يقول:
-
وقد
حذركما أبوكما ألا تفتحا الصندوق بغير مفتاحه.. وإلا سيتحول الكنز إلى أحجار لا
قيمة لها!
سعيد قال:
-
لذا
يجب علينا أن نجد المفتاح
هز الرجل رأسه مؤيدا:
-
بالطبع..
بالطبع
المفتاح
ستجدونه مدفونا في الأرض، كما وجدتم الصندوق.
تساءل الصغيران:
-
وكيف
سنجد المفتاح بين تراب وطين أرضنا؟
-
كما
أننا حفرنا الأرض ولم نجد شيئا إلا الصندوق!
قال الدجال :
-
ستجدانه..
لا محالة.. أنا أراه أمامي
لكنكما
ستبذلان بعض الجهد حتى تجداه
ولا تنسيا
أن الحصول على كنز حقيقي يستحق أن تبذلا من أجله الجهد والعرق.
***
مرت الأيام والليالي ولا عمل
للصغيرين إلا حفر أرضهما والتنقيب بين ترابها وطينها عن المفتاح المزعوم، حتى نفد
مخزون طعامهما ولم يعدا يملكان نقودا ليشتريا طعامهما.
ثم زارهما ساعي البريد وأعطى كلا
منهما خطابا من المدرسة ينذراهما بالفصل لانقطاعهما عن الذهاب إلى المدرسة وعدم
سدادهما مصاريف الدراسة.
عمران نفض ما عليه من تراب وغبار
أعمى عينيه عن رؤية الحقيقة وقال:
-
لا
يوجد هنا أي كنز
الكنز الحقيقي كان بين أيدينا وفرطنا فيه من
أجل وهم!
سعيد قال متعجبا:
-
ماذا
تقصد؟
قال عمران :
-
أقصد
أرضنا التي أهملنا زراعتها
ثم تركنا مدرستنا وأهملنا دروسنا!
سعيد ظل متشبثا بأحلام يغطيها
التراب والصدأ، وقال:
-
مازلنا
نمتلك كنزا سيغير حياتنا بمجرد أن نجد مفتاح الصندوق!
-
ومن
أين سنأتي بالطعام بعد أن نفد..
وكيف
سندبر مصاريف المدرسة؟
تساءل عمران مستنكرا، لكن سعيدا قال
باستهانة:
-
وماذا
سنفعل بالمدرسة وسنصبح أغنى أثرياء القرية؟!
أما
عن الطعام فسأقترض بعض المال من أصدقاء أبي
وأشتري
ما يكفينا من طعام.
لكن كلمات سعيد لم تصل إلى أذني
أخيه عمران فقد كانت تملأهما كلمات شيخ الجامع حين أشار إلى صدره وقال: (داخل هذا
الصندوق قلب حين يمتلأ بالإيمان والحب والعطاء والعمل يستطيع أن يغير العالم من
حوله).
نظر عمران إلى أخيه وقال:
-
افعل
ما تشاء يا أخي
أما
أنا فسأذهب إلى البلدة وأبحث عن عمل وأعود إلى مدرستي
حتى
أجد كنزي.
***
ترك عمران أخاه وذهب إلى البلدة بحثا عن عمل يساعده على
سداد مصروفات دراسته، وحرص على تنظيم وقته ما بين العمل في مساعدة الوراق وبين
استذكار دروسه بهمة ونشاط.
أما سعيد فدأب على الذهاب إلى أصدقاء ومعارف أبيه كل
فترة لاقتراض بعض المال ليشتري به طعاما ويعدهم أن يسدد ما عليه بمجرد أن يحصل على
كنزه ثم يعود إلى أرضه يحفر وينقب بحثا عن مفتاح الصندوق.
لكن بعد فترة أصبح الجميع يتهربون من سعيد ولا يقرضونه
النقود بعد أن تراكمت عليه الديون وبات من العسير عليه سدادها.
حينها اضطر سعيد أن يزرع قطعة من أرضه تكفي لإطعامه،
بينما يقوم بالحفر والتنقيب في القطعة الأخرى.. فإذا كبر المحصول حصده، وزرع
القطعة التي انتهى من حفرها والبحث فيها عن مفتاح الصندوق، وبدأ في الحفر والبحث
من جديد في قطعة الأرض الأخرى.
***
لم يدر سعيد كم من السنوات مرت عليه وهو في مكانه هنا..
يرفض كل محاولة من أخيه عمران الذي أصبح مهندسا كبيرا ذائع الصيت في العاصمة
لإثنائه عما سيطر عليه من أوهام والكف عن مطاردة كنز لا وجود له إلا في خياله.
ورغم عدم استجابة سعيد لكلمات أخيه إلا أن عمران ظل
حريصا على زيارة أخيه ومساعدته.
وفي أحد الأيام استيقظ سعيد مهموما..
نظر إلى الصندوق الصدئ وتأمل نفسه في المرآة وقد أبيض
شعره وانحنى ظهره وأضاع عمره دون أن يحصل على الكنز الذي ظل يطارده طوال حياته.
شعر بأسى كبير وزفر دمعة حارة سقطت من عينيه وحمل فأسه
ورفعها عاليا وهبط بها فوق قفل الصندوق وحطمه، ليعرف ما يخبئه الصندوق في بطنه بعد
أن قضى عمره بحثا عن مفتاح لا وجود له.
لم يندهش سعيد حين فتح الصندوق ووجد بعض الحصى والحجارة
داخله.. فقد عرف حينها أن أخاه عمران هو من وجد مفتاح الصندوق وعثر على الكنز
الحقيقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق