محمد عاشور هاشم
"الآن فقط أستطيع الخروج .. هذا وقت القيلولة ، أبي وأمي نائمين ، والبيت ساكن سكون الظهيرة ، لا رقيب ولا محاسب ، حتى جدتي هي الأخرى في حجرتها تشاكس النوم ويشاكسها ولن تسمعني إذا ما خرجت .. إنها الفرصة التي انتظرتها طويلا ، لو فاتتني فالله وحده يعلم متى يمكن أن تسنح لي من جديد .. هيا يا ناصر هيا..."
كان ناصر يحدث نفسه - وهو في حجرته – وقد آل على نفسه أن ينتهز الفرصة التي سنحت له بخلو البيت من الرقباء الذين يمنعونه من الخروج هذه الأيام .
" مالي أنا ومال ما يحدث في الخارج ؟ لماذا يمنعونني من الخروج ؟ لماذا يمنعونني من اللعب وقد اشتاقت نفسي إليه؟ لماذا يحرمونني منه وهو متعتي المفضلة ؟ لماذا يقيدوا حركتي ؟ لقد مللت ولم يعد بي قدرة على البقاء في المنزل أكثر من ذلك .. كم من مرة حاولت فيها الخروج ، ولكن في كل مرة كنت أفشل فشلا ذريعا ، فهناك دائما أبي الذي يضبطني متلبسا ، دائما ما أجده هناك عند عتبة الباب ، ما من مرة فكرت فيها في الخروج ، إلا ووجدته أمامي يسد علي الطريق ، كأنه يعرف أنني في هذه اللحظة سأخرج ، كأنه يقرأ أفكاري ، يا للعجب !
إنه شيء غريب حقا !
وهناك إلى جانبه أمي ، التي تعد علي أنفاسي وتراقبني في صحوي ومنامي ، ولا شاغل لها سواي :-
" إياك والخروج هذه الأيام يا ناصر فالجو في الخارج خطير للغاية!"
" احذر من الظهور في الشارع فاليهود في كل مكان وقذائفهم تحصد الأرواح ، لا فرق في ذلك بين صغير ولا كبير فتى أو فتاة شيخ أو طفل رجل أو امرأة ، لا فرق على الإطلاق فرصاصهم لا هم له إلا إزهاق أرواحنا "
" يجب ألا تظهر في النوافذ ، فربما رأتك عيون الصهاينة فتكون هدفا سائغا لقناصيهم .. "
و.... و....
مالي أنا بكل ذلك ؟ لماذا يحملونني فوق ما أحتمل ؟
لماذا أبقى في البيت هكذا كالسجين ، لا أذهب إلى مدرستي ، ولا أرى أصحابي ، ولا أزور أعمامي وأخوالي ، ولا أتروض في الأماكن التي أحبها ، والأهم من ذلك: لا ألعب !
- آآآآه ....لا ألعب !!
لماذا يحرمونني من اللعب ؟ لي أكثر من شهر ولم تلمس لي قدم كرة ، ولم أجر في شارع ، ولم أشاكس زميلا ونحن نلعب ( المساكة) أو(الأستغماية) .
أيعقل هذا ؟ لم أكن أتصور أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث .. حقا لقد تكرر احتجازي في البيت أكثر من مرة ، ولكن في المرات السابقة لم تكن مدة الاحتجاز تتجاوز بأي حال الأسبوع أو العشرة أيام على أكثر التقدير .. ولكن هذه المرة اختلف الأمر وجاوز كل الحدود .
نعم جاوز كل الحدود.
وياليت الأمر ينتهي عند ذلك ، ولكن هيهات فالحال تنذر بطول البقاء في المنزل خاصة وأن هناك هرجا ومرجا يحدثان في الخارج .
وهبني استسلمت للأمر الواقع ورضيت بالبقاء في المنزل نزولا على رغبة أبوي ، فليس مستبعدا أن أظل سجينا لا أرى الدنيا ولا أستمتع باللعب إلى أن يشيب شعري!
لا لن يحدث هذا ، هيهات أن يحول بيني وبين اللعب شيء بعد الآن ، هيهات أن أترك الفرصة بعد أن جاءتني على طبق من ذهب .
سأخرج وألعب كما أشاء تعويضا عما فات ، نعم سأفعل ..هيا يا ناصر هيا !"
راح ناصر يخاطب نفسه في حماس شديد ، متحولا شيئا فشيئا من الإحجام إلى العزم والإقدام .. لقد عيل صبره وصح عزمه على الخروج واللعب مهما كان الثمن !
عندما وصل إلى هذا الحد من التفكير هب واقفا واتجه صوب سريره فأخرج الكرة من تحته ، ومضى يقلبها بين يديه وقد التمعت عينه بلمعة الفرح .
ثم التقط حذاءه المطاط وشرابه الرياضي فأمسكهما في يده ، ومضى إلى باب الحجرة ففتحه بحرص ، وأخرج رأسه بهدوء وحذر وراح يتلفت هنا وهناك ؛ فرأى الصالة ترفل في هدوءها وسكينتها ، هذا باب أبويه مغلق وكذلك باب جدته ولا أحد يحول بينه وبين باب الشقة.
شبَّ على أطراف قدميه وخرج من الحجرة وراح يرفع قدما عن أخرى في بطء وحرص لا مزيد عليهما ، وجاهد لكي يكتم أنفاسه وفتح عينيه على اتساعهما لكي يكونا معينتان له في مغامرته .
وصل إلى باب الشقة ، فنقل الكرة من يده وجعلها تحت إبطه وتحسس مقبض الباب وقبل أن يديره تلفت حوله من جديد كأنه لص محترف ، وهزته موجة من النشوة والسعادة حينما وجد أن كل شيء على خير ما يرام .
أدار المقبض وفي لحظة واحدة كان قد أصبح بالخارج وباب الشقة خلفه مغلق لم يصدر عنه أدنى صوت سواء عند فتحه أو غلقه .
للحظات لسعته البرودة التي تعشش عند بسطة الباب ، فاقشعر جسده ، ثم زالت القشعريرة سريعا وقد اعتاد الجو المحيط به .
كان ثمة ظلام يهيمن على البسطة والدرجات الصاعدة والهابطة ، فلبث مدة قبل أن تتضح لعينه الأشياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق