الحذاء الهرّاب
محمد عاشور هاشم
كان الحذاء قد وصل لقمة تضجّره من بقائه في حيازة صاحبه .. فصاحبه ذو وزن ثقيل جدا ما أن يلبسه حتى يشعر بأن جبلا قد انحط فوق رأسه ولا يعود يشعر بالراحة إلا عندما يخلعه فيتنفس الصعداء ويشعر أنه قد عاد للحياة من جديد .
كثيرا ما اشتكى الحذاء لإخوته – الأحذية الأخرى التي في حيازة صاحبه - طالبا منهم أن يجدوا له حلا في مشكلته التي ناء بحملها .. وكان صاحبه لا يلبس حذاء غيره ، رغم أنّ لديه عددا وافرا منها ، فهو – لسوء حظ الحذاء – لا يرتاح إلا معه هو بالذات .
- أنجدوني يا عالم .. فسأتلف عما قليل إن لم يتركني صاحبي في حالي ويلبس حذاء آخر.
كان دائما ما يقول لهم ذلك .. وكانوا هم يضحكون منه ويسخرون ، وهم يشعرون أن ما يحدث له إنما هو في صالحهم فهم لا يَتْعَبُون ولا يُهْلِكهم صاحبهم في مشاويره الكثيرة .
اليوم وصل الحذاء لقمة غضبه ولم يعد يستطيع أن يتحمل أكثر من ذلك .. قال لهم بغيظ :
- لقد فاض بي الكيل .. ولن أتحمل أكثر من ذلك إما أن تخففوا الحمل عني ، فيلبس صاحبي بعضا منكم ، وإلا انتقمت منكم ...
ضحك إخوته من قوله وسألوه :
- وكيف ستنتقم منا يا ( أبو الأحذية ) ؟
- سأنتهز الفرصة وأهرب تاركا لكم الجمل بما حمل ؟
ضحكوا منه من جديد وقالوا في لهجة ساخرة :
- أرنا شطارتك وافعل ما حلا لك .. فأنت المتضرر من هذه الحال أما نحن فمستريحون ولن نعمل على تغييرها أبدا ..
زفر الحذاء في ضيق وهو يشعر باضطهاد إخوته.. تمتم في أسف :
- أهكذا يا إخوتي ..إذن والله لا أقعدن معكم بعد الآن .
في الليل حينما نام الجميع تسلل الحذاء محاولا الهرب ، مضى في الظلام فخرج من تحت السرير حيث يضعه صاحبه ، راح يمشي على بوزه محاولا ألا يحدث أيّ صوت ، خرج إلى الصالة ووجد الباب مغلقا ، فقرر أن يتسلل من النافذة إلى الشارع ، حقا سيصيبه الألم من وقوعه من ذلك العلوّ الشاهق - حيث يسكن صاحبه في الدور الرابع – لكن أيّ ألم يهون أمام ذلك الألم الذي يشعر به وهو تحت قدميّ صاحبه . في اللحظة التي كان سيلقي فيها بنفسه من النافذة أقبل إخوته عليه وهم يتصايحون قائلين له :
- إلى أين يا ( أبو الأحذية ) ؟ إلى أين تريد أن تذهب وتتركنا ؟
وتكاثروا عليه وحملوه وأعادوه إلى مكانه وهم يقولون له :
- لن ندعك تهرب .. ولن تغيب عن أعيننا بعد اليوم .
وضع الحذاء يده تحت خده وهو يشعر أنه مغلوب على أمره ، شعر باستياء شديد .. لكنه قرر ألا يستسلم فسيحاول من جديد الهروب .
بعد يومين آخرين غافل الجميع وقذف بنفسه من النافذة في وضح النهار ولكن لسوء حظه وقع على رأس أحد المارة الذي أخذه وصعد لصاحبه وقد آلمه سقوطه فوقه ، فقذف به أمامه بقوة وهو يبرطم ، طالبا منه أن ينتبه ولا يقذف بأحذيته من النوافذ حتى لا تقع على رءوس الناس .
تأسف صاحبه للرجل وهو يؤكد له إنها غلطة لن تتكرر ثانية ، كان يظن أن أحدا من البيت هو الذي ألقى به من النافذة ، لهذا كان يشعر بأسف حقيقيّ تجاه الرجل .
بعد أن انصرف ، لبس الحذاء وخرج ، وراح يسير به ماضيا إلى منزل أحد أصدقائه .. كان الحذاء يشعر أنه سيموت من تحته ، راح يتأوه مع كل خطوة يخطوها وهو يقول مستغيثا :
- آآآآه يا يأفوخي .. الحقوني يا ناس ..ألا يوجد من يرحمني من هذا العذاب ؟
وصل صاحبه إلى بيت صديقه ، فخلعه على عتبة حجرة الصالون ، فتنفس الحذاء من الأعماق ، ووجدها فرصة جيدة للهرب ، فزحف بهدوء ، كلص محترف ، إلى أن وصل إلى إحدى الأرائك فاختبأ خلفها وظل وراءها إلى أن حان وقت انصراف صاحبه.
بحث صاحبه عنه فلم يجده ، تساءل في عجب : أين ذهب ذلك الحذاء ؟ بحث معه صديقه لكنهما لم يعثرا عليه ، سأله الصديق : هل جئت وأنت تلبس حذاء ؟ فنظر إليه باستهجان وقال : وهل سأسير حافيا ؟
وتابعا البحث ولكنهما لم يجداه فعرض عليه صديقه أن يأتيه بحذاء آخر من عنده ، وحينما سمع الحذاء ذلك ، أخذ يتمتم في سرّه قائلا :
- نعم .. نعم .. أرجوك هات له بحذاء آخر !
لكنّ الصديق عاد فرفع الأريكة التي كان يختبأ خلفها ووجده ، وأمسكه وأخذه إلى صاحبه وهو يقول :- ما هذا أتجيء معك بأحذية تمشي .. أمسك يا رجل .. وفي المرة القادمة انتبه جيدا أين تضع حذاءك !
وبالرغم من فشله الجديد إلا أنه لم يستسلم ، فانتهز فرصة أخرى عرضت له ، وذلك حينما لبسه صاحبه وخرج به إلى المسجد ، وتركه بجانب أحذية أخرى كثيرة .. فاندس وسط الأحذية بحيث لا يراه صاحبه ، وحينما عاد الأخير لم يجده ، وبينما راح يبحث عنه أقبل رجل آخر ولبسه ، وهو يظن أنه حذاؤه ، ومضى به إلى بيته .
فرح الحذاء بنجاته من صاحبه ، وازداد فرحه عندما وجد أن صاحبه الجديد ذو وزن خفيف جدا مقارنة بصاحبه السابق ، وأن لديه هو الآخر أحذية كثيرة ، ولكنه لا يركز على أحدها بعينه وإنما يتناوب على لبسها جميعا .
استخفت الفرحة بالحذاء فكاد أن يجن ، ولكن لسوء بخته رآه صاحبه القديم في المسجد ثانية ، تعرف عليه من بين الأحذية الكثيرة المتراصة إلى جانب بعضها ، وكأنما عثر على كنز ، فأخذه بعد أن أقنع الرجل الذي أخذه قبل سابق بأنه صاحبه وأنه ضاع منه منذ عدة أيام .
أسقط في يد الحذاء وكاد أن يجن من جديد ولكن هذه المرة من الحزن .
ظل عدة أيام أسيرا لحزنه ، ثم عاد وقرر ألا يستسلم للأمر فسيحاول الهرب من جديد..
راح يتحين الفرص ولكن حدث شيء غيّر تفكيره وجعله يرضى بالبقاء في حوزة صاحبه ، فقد ذهب الأخير يخطب إحدى الفتيات ، واشترطت الفتاة عليه أن ينقص من وزنه لكي تقبله زوجا.
فلجأ صاحب الحذاء لحِمْيَة قاسية (رجيم) أنقصت من وزنه كثيرا ... فأصبح خفيفا لا يتأذى الحذاء حينما يلبسه ، ففرح الحذاء لهذا كثيرا بل وأصبح يفاخر إخوته بأن صاحبه يفضله عليهم جميعا ولا يلبس حذاء آخر سواه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق