عبد التواب يوسف الحكَّاء غير الشعبي
محمد حسن عبد الحافظ
منذ وعيه الباكر، أدرك عبد التواب يوسف أن الكتابة الإبداعية للطفل تتطلب دُربة ودراية، مثلما تتطلب وعياً ورقابة ذاتية. وإذا كانت الدُّربة تُكتسب بالمران، فإن الدراية سابقة على الممارسة؛ أي إن للكيفية التي يُكتب بها للطفل مواصفات يقتضيها أدبه. وإذا كان الوعي مما يشترط في الكاتب قبل الإقدام على الكتابة على وجه العموم، فإن الرقابة الذاتية ترافق كاتب الطفل على الخصوص، ونكرر: «الذاتية»، وفقاً لحسه ولتجربته الخاصة. فمسؤوليته إزاء النشء الذي يتحكم في اختيار النهج الذي يتغيا تكوينه عليه، أكبر مما لو كان متوجهًا بخطابه إلى شريحة من القراء الرُّشَّد ممن يتمتعون بمستوى من التنبه والتحوط والحذر والرفض والمواجهة الضدية والتفاعل المتكافئ. فهشاشة الطفل تُحمِّل المبدع المسؤولية مضاعفة؛ فهو ـ وإن كان حرّاً في اختيار موضوع أدبه ـ مدفوع إلى أن يكيِّف هذه الحرية طبقًا لحاجات الطفل. وهو ـ إن لبَّى هذه الحاجات، وتخلى عن قدر من حريته ـ مجبرٌ على أن يفيَ بالحقوق الجمالية للأدب، ليفي ـ من ثم ـ بحق المتلقي/ الطفل عليه، إمتاعاً وتسامياً، وإلا صار الأدب الذي يسهم في إنتاجه باهتًا فاتراً. ولعل المفلح من كُتَّاب الطفل هو ذاك الذي يحقق المعادلة المتمثلة في اكتناز أدبه بجماليات النص من جانب، واكتناز روحه باحترام المتلقي/ الطفل من جانب موازٍ. ويعرف عبد التواب يوسف ـ بحس عميق ـ أنه متى اختل أحد العنصرين، فقد أدب الطفل ألقه الجمالي، وباء قارئُه/ الطفل بخيبة أمل لا جُناح عليه في عدم الوعي بها(1).
لم يجد عبد التواب يوسف مناصًا من البدء بالمصنفات المعرفية الكبرى: دوائر المعارف والموسوعات العلمية، في مختلف التخصصات والحقول، ليبرأ من خطأ فادح قد يتسرب في قصصه إلى أطفاله على صورة ظاهرة علمية، أو من معلومة مصوغة بوصفها حقيقة، بينما هي عَرَضٌ قابل للدحض وللتشكيك. بل لا يكفي ـ في تصور عبد التواب يوسف ـ امتلاك ناصية المعارف النظرية بأصول التربية، وبعلم نفس الطفل، وبمراحل وعيه، وبالإشكالات النوعية لفئات من الأطفال، ناهيك عن معرفة فضاءات أدب الطفل نفسه، إلى غير ذلك، إذا لم يترافق مع كل ذلك خبرات التعاطي «الميداني» المباشر مع الطفل، وفقًا لما أضاءته العلوم الإنسانية التي صار الطفل واحدًا من أبرز موضوعاتها، تلك العلوم التي تكشف عن الأهمية الحاسمة للسنوات الأولى من الحياة، وعن القدرة الكامنة التي يتمتع بها اللاشعور، والرغائب، والتواترات النفسية، والانفعالات، والخيال الخلاق. ليتنصل ـ برفق ـ مما يحمله بعض الراشدين من أوهام عن الطفل وعن عالمه، كأنهم يهربون من ذواتهم، وينسون طفولتهم القديمة، أو يتحاشون طفولتهم التي لا تزال تسكن فيهم. لا ينفكون من تصورات يقوم معظمها على «نوايا حسنة»، لكنها في الحقيقة مشوشة، قلقة، خائفة، حيال الطفل، بوصفه كائناً ناقصاً، فيمارسون مختلف أنواع السلطة التي ينجم عنها ضمور فرصه في الاختيار، وفي الاكتشاف، وفي القفز، في امتطاء الخيال
وتأمل الغامض، والبعيد، والخبيء.
بعض هؤلاء الراشدين يشتغلون في ميدان الأعمال النقدية التي تتناول نصوص أدب الطفل بالدرس والفحص، ويستنسخون التوجيهات الإرشادية والوصايا النازعة إلى «التبسيط» و«السهولة» و«الوضوح» و«الانتقاء» و«المنطقية» و«الملاءمة» و«تحديد الفئة العمرية» و«الترشيد اللغوي والخيالي»، و«الحذر من التجريب»، وغير ذلك مما يمثل «تابو» تربويّاً مؤثراً في ـ ومسيطراً على ـ ميدان «الكتابة الأدبية»، حيث تتمثله مجموعات قصصية، وروايات، ومجموعات شعرية، ومسرحيات، تزخها المطابع زخاً، ويستهلكها الآباء شراءً، ويطالعها ملايين الأطفال في العالم العربي.
بعض هؤلاء الراشدين يشتغلون في ميدان الأعمال النقدية التي تتناول نصوص أدب الطفل بالدرس والفحص، ويستنسخون التوجيهات الإرشادية والوصايا النازعة إلى «التبسيط» و«السهولة» و«الوضوح» و«الانتقاء» و«المنطقية» و«الملاءمة» و«تحديد الفئة العمرية» و«الترشيد اللغوي والخيالي»، و«الحذر من التجريب»، وغير ذلك مما يمثل «تابو» تربويّاً مؤثراً في ـ ومسيطراً على ـ ميدان «الكتابة الأدبية»، حيث تتمثله مجموعات قصصية، وروايات، ومجموعات شعرية، ومسرحيات، تزخها المطابع زخاً، ويستهلكها الآباء شراءً، ويطالعها ملايين الأطفال في العالم العربي.
إزاء شرك «التابو التربوي» هذا، يبدي عبد التواب يوسف سؤاله الحائر عن كنه الطفل الذي يتوجه إليه بكتاباته، فأي «طفل هذا الذي نكتب له؟ هل هو طفل الريف، أم البدو، أم المدينة؟ أهو الطفل الفقير في قرى السودان ومصر، أم هو طفل الخليج والنفط؟ هل هو طفل في مدرسة حكومية رسمية، أم طفل مدرسة أجنبية يقرأ بلغتها؟ وهل نكتب لطفل من الماضي العريق الذي نحنُّ إليه، أم الحاضر الذي نحياه؟ هل يمكننا أن نكتب عن المستقبل الذي سيعيشه القارئ أم نهرب للكتابة الدينية التي يرغب فيها الآباء؟»(2).
يقطع عبد التواب يوسف النظر عن هذا النمط من التصنيف التراتبي للأطفال؛ ذلك لأنه يجاوز ـ في الأصل ـ التمييز بين الثقافات الإنسانية، حيث يرى الفن فضاءً جماليّاً وإنسانيّاً، ولا يعني اختلاف الثقافات بين الشعوب انشقاقًا بين الشعوب، وإنما يعني أن التنوع من طبائع البشر ومن سمات الطبيعة، وأن التنوع يثري الفنون، ويحقق المتعة الجمالية عندما تتبادل الشعوب فنونها، وقد قدم التراث العربي إسهامات جليلة لثقافات العالم، وحكايات ألف ليلة وليلة خير دليل على ذلك، وكانت «الليالي» - ولا تزال - نموذجاً فنيّاً فريداً يربط بين الشرق والغرب بأواصر قوية، ويمهد للبحث في المشترك الثقافي الإنساني بين شعوب العالم. ويستلهم عبد التواب يوسف من حكايات «علة الحكايات وأصلها» ما يملأ وجدانه بوحدة التراث الإنساني، فهذه الحكايات انتثرت على جميع البشر بلا تمييز، ونبتت في كل أرض، وحكاها كل لسان. وعندما يعيد عبد التواب يوسف رواية عدد من «حكايات الشعوب» (اليابان، إندونيسيا، إسبانيا، السلاف، أفريقيا، الهنود الحمر)، لا يساورنا الشعور باختلافات بيِّنة بينها والحكايات الشعبية المصرية التي جمعها الباحثون الميدانيون ـ شفاهة ـ من حلاليب وشلاتين وأبي رماد، وأعاد يوسف كتابتها للأطفال في قصص مسلسلة (مثل «قصير الذيل»، «البقرة المسحورة»، «الطفل الطائر»). ففي حكاية «حضرة العمدة» (السلافية) الممتعة، يسرد الراوي قصة مزارع يعمل عند صاحب مزرعة، على أن يمنح الثاني الأول فرسًا. وعندما انتهى المزارع من عمله، تنكر صاحب المزرعة لوعده، فلجأ المزارع إلى «القاضي» الذي يمثل القيمة الرمزية لـ «حضرة العمدة» في الريف المصري حسب ما يشي به العنوان.
ويدعم عبد التواب يوسف الرؤية نفسها عبر سلسلة قصص «غنوة وحدوتة» (مثل «علي عليوة»، و«الغراب النوحي»، و«الضفدعة شايلة المركب»)، وفيها يبث للأطفال معلومات، وحقائق علمية، وأفكاراً، وأسئلة، وأساليب حوارية، وقيماً وطنية ودينية، وصوراً نفسية، ومهارات. ونعاين الشأن نفسه في سلسلة حكايات معنونة بـ «حكايات غير شعبية»، وهي غير شعبية بوصفه كاتبها، والمتصرف في أحداثها، وواضع نهاياتها. ففي قصص «الإمبراطور العريان» و«السندباد لم يخرج من بغداد» و«كلام الناس» و«العزف الشافي» و«علي بابا يبرئ نفسه» و«البنت ذات الرداء الأ...» و«علاء الدين يرفض مصباحه»، يجتهد عبد التواب يوسف في صوغ نهايات غير متداولة على صعيد الثقافة الشعبية التي أنتجت هذه الحكايات، كما يغيِّر - في بعض القصص - الأحداث الرئيسة ليسوق السرد في مسارات مغايرة عن الحكايات الشعبية، ويعيد سرد الحدث غير المنطقي بحدث أقرب إلى الواقع، بحيث تتسق المقدمة والنتيجة، ويستبدل المسميات الحديثة والأماكن والأدوات المعاصرة بنظائرها القديمة في الحكايات الشعبية، فلا بأس من أن يواجه الهاربون «شرطة الحدود» في قصة «الإمبراطور العريان» التي خلق فيها عبد التواب يوسف شخصية لافتة لطفل جريء أعلن للإمبراطور ـ المخدوع برياء الشعب ـ أنه لا وجود للثوب الذي يتوهم أنه مغزول من الضوء، وأنه يراه عارياً تماماً، وأن الناس تراه عارياً أيضاً لكنها تتملقه، فاختبأ الإمبراطور عن الأنظار. ولا بأس من أن يصف السندباد البري الواقع بأنه «very bad»، في سياق حواره مع السندباد البحري الذي عرفناه في حكايات ألف ليلة وليلة. وفي قصة «ذات الرداء الأ...»، تستعمل البطلة الأدوات التي يعرفها عصرنا كالموبايل، وتبدو في مظهرها مثل «الكاوبوي»؛ ترتدي الجينز وتستخدم المسدس ذا الطلقات المطاطية. وفي قصة «كلام الناس» يعيد عبد التواب يوسف صياغة حكاية «جحا والحمار» عبر وضع نهايات متعددة للقصة تكسر سيطرة النهاية الواحدة المحتومة للقصة، لتفتح أفق الاحتمالات في أذهان الأطفال عن تحليل أحداث القصة. فجحا وابنه يركبان الحمار سويًّا مما يدل على قوة بنية الحمار التي تساعده على حملهما معًا. وعندما يركب جحا ويمشي ابنه فهذا يعزز قيمة احترام الابن للأب. وعندما يركب الابن الصغير ويمشي جحا الأب، فإن هذا يدعم إيثار الأب لابنه. وعندما يمشون جميعاً (جحا وابنه والحمار)، فهي صورة للرفق بالحيوان الذي أجهده ثقل وزنهما. ويطرح يوسف في نهاية القصة عددًا من الأسئلة التي تخلق تلقياً حيوياً لدى الأطفال.
وفي استلهامه للسيرة الشعبية العربية العربية، متمثلة في نموذج «سيرة الزير سالم»، يبني عبد التواب يوسف قصته «جليلة وحسان اليماني» على فكرة محورية يفضي بها لقرائه في النهاية: «هل كتب على العرب أن يصبحوا دائماً بني مرة وبني ربيعة!... وتشتعل النيران بين الجيران، والأهل ـ كل يوم ـ من أجل بسوس جديدة... أما آن لنا نحن العرب أن نقر ونعترف بأن السلام والوئام يجب أن يحل محل الحرب والخصام؟ وإلا نلنا ما نالوه من دمار وحطام». وبهذه الفكرة، يعلل عبد التواب يوسف أحداث القصة، بدءًا بغزو التبع حسان اليماني لبني قيس وقتل ربيعة، وانتهاءً بحرب البسوس التي درات رحاها أربعين عاماً بين بني ربيعة وبني مرة. وقد اعتنى عبد التواب يوسف بفكرته عناية فائقة، وأحكم بناء العناصر الفنية للقصة، دعماً لهذه الفكرة المحورية التي تفتح للطفل العربي أفقاً جديداً غير الذي أفضت إليه «سيرة الزير سالم»(3).
عندما يعيد عبد التواب يوسف إنتاج المتون السردية والحكائية في التراث الشعبي العربي4، ليصوغها قصصاً للطفل، فإنه يفعل ذلك استنادًا لاستراتيجية خاصة؛ فهو ـ ابتداءً ـ قارئ حصيف لهذه المتون، وهو - ثانياً - مواكب لما تم إنجازه من جهود علمية وثقافية وأدبية في مضمار المأثورات الشعبية الأدبية، جمعاً وتصنيفاً واستلهاماً. وهو ـ ثالثاً ـ صاحب رؤية في أساليب استلهام المأثور في الكتابة الإبداعية للطفل، فهو يميل إلى أن أشكال التعبير الشعبي يجب أن تمر بمقاييس العصر ومعاييره قبل أن تعاد كتابتها للأطفال، ويطرح عبد التواب يوسف رؤيته صراحة في مستهل سلسلة «حكايات غير شعبية»، حيث يكتب: «الحكايات الشعبية جميلة، والأجمل أن نعيد صياغتها لتناسب عصرنا»، دون أن يعني ذلك التضحية بالخيال الثري الذي يتمتع به الحكي الشعبي الذي يراه عبد التواب يوسف مستحقًا لأن ننحني له إجلالاً وتقديراً(5).
الهوامـش:
1ـ راجع: أحمد المساوي: الكتابة حاجة بسيكولوجية طفلية، كتابات معاصرة (بيروت)، العدد 74، المجلد 19، تشرين الأول – تشرين الثاني 2009، ص 120.
1ـ راجع: أحمد المساوي: الكتابة حاجة بسيكولوجية طفلية، كتابات معاصرة (بيروت)، العدد 74، المجلد 19، تشرين الأول – تشرين الثاني 2009، ص 120.
2ـ عبد التواب يوسف: ديكتاتور صغير، الدوحة (الدوحة)، العدد 15، ص 94. نقلاً عن: أحمد طوسون: إشكالية الكتابة للطفل، مؤتمر أدباء الفيوم حول أدب الطفل: سؤال الهوية والإبداع، إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي، فرع ثقافة الفيوم (الفيوم، 25 مارس 2009).
3ـ انظر: أحمد عادل القُضَّابي: الاستلهام في أدب الأطفال: أعمال عبد التواب يوسف نموذجًا، بحث غير منشور.
3ـ انظر: أحمد عادل القُضَّابي: الاستلهام في أدب الأطفال: أعمال عبد التواب يوسف نموذجًا، بحث غير منشور.
أفادت الحكاية الشعبية من انتشار الكتابة للأطفال في أوروبا، فبعد الإسهام البارز الذي قدمه شارل بيرو بكتابه «حكايات وخرافات من الزمن الماضي»، عام 1696، وكان للأخوين جريم ولأندرسون دور مهم في رواجها في ألمانيا وانجلترا. وخلال عقود القرن العشرين، شهد العالم العربي إقبالاً متناميًا على الكتابة للأطفال بالاعتماد على التراث والمأثور الحكائي الشعبي، كحكايات ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والحكايات والحواديت الشفهية التي تخص كل بلد عربي على حدة. وتمثل الحكاية الشعبية إبداعاً مجاوزاً للثقافة المهيمنة، بما فيها من محظورات وممنوعات اجتماعية ودينية، وهي تنطلق من مخيلة حية وتلقائية في تصوراتها للطبيعة والواقع، فبطل الحكايات الشعبية غالبًا ما يواجه قدره بمفرده، بعيداً عن الأطر الثابتة وعن الأوامر والنواهي، وله أن يخرق المسلمات المتوارثة التي عادة ما تكبل طاقة الطفل، فكثيراً ما ينقض البطل السلوك القويم الذي يراد للطفل أن يلتزم به، كالطاعة العمياء للوالدين والتزام الصدق المطلق. ومع ذلك، لا تخرج الحكاية الشعبية عن البنى المؤسسة للذهنية الجماعية، وعن انسجامها مع الوعي الاجتماعي. وتقدم المقاربات النقدية التي تستعين بأدوات التحليل النفسي بشكل أكثر عمقًا للقيم الرمزية القارة في القص الشعبي، وتأويلاً مناقضاً للتصورات الشائعة تجاه ما يبدو ـ لدى بعض التربويين وكتاب أدب الطفل - أنه عنف ورعب وانحراف عن السلوك القويم الذي يُراد للطفل أن ينهجه.
4ـ راجع: رفيقة بحوري: الحكاية الشعبية والكتابة للطفل، ضمن أعمال المؤتمر الدولي السابع لقسم اللغة الفرنسية، كلية الآداب جامعة القاهرة، حول: الحكي الشعبي بين التراث المنطوق والأدب المكتوب، عين للنشر، القاهرة، 2009، ص 197: 210.
5ـ عبد التواب يوسف، الحكاية الشعبية وعلوم العصر، مجلة تراث (أبو ظبي)، العدد 61، ديسمبر 2003، ص 89.
http://www.arrafid.ae/arrafid/f7.html
http://www.arrafid.ae/arrafid/f7.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق