محمد علي شاهين
رسوم: رواء طارق
رسوم: رواء طارق
قالت والدتي ذات يوم وقد جاء أخي يحمل على رأسه طبق قش دائري كبير، في وسطه صرّة
قماش ملوّنة، تنبعث منها رائحة أرغفة قمح سمراء
ساخنة، تكفي ثلاث وجبات لإثني عشر
فماً، هم جميع أفراد أسرتي، والابتسامة تملأ وجهها الجميل: يبدو أنّ المخبز مزدحم
بأطباق العجين هذا الصباح يا بني.
ـ
في المخبز أطباق قش بعدد بيوت الحي، فيها أقراص عجين لا تحصى.
ـ
وهل يستطيع الناس الاستغناء عن خبزهم اليومي يا بني؟
ـ
كلاّ إنّهم لا يستطيعون، ولكن ألا يستطيع صاحب المخبز زيادة عدد عمّاله، أو أن
يشيّد الناس مخبزاً جديداً يا أمي.
وجاءت والدتي بطعام شهي في عدّة صحون داخل طبق نحاسي، فتربّعت الأسرة حول طعام
الإفطار، وبدأت الأيدي الصغيرة تتقاسم الأرغفة الساخنة، بينما كانت والدتي تقف خارج
الدائرة سعيدة فرحة.
وجاء دوري فاستلمت بعد أخي مهمة حمل طبق العجين إلى المخبز كل صباح، والعودة به
وقد تحول إلى أرغفة حمراء ناضجة، كنت لا أقوى على شم رائحتها الشهيّة وأنا في
الطريق إلى المنزل، دون أن أتذوق طعمها الذي لا ينسى.
وتحملت وزن الطبق، والكمية الإضافية من الأرغفة التي كانت تزداد سنة بعد أخرى،
كلّما كبر الأولاد، وزاد عدد أفراد الأسرة.
وتعلّمت في المخبز اصطلاحات الفرّان، وأسماء عدّة الفرن، وصرت صديقاً لصاحب الفرن
وعمّاله، أمّا زبائن الفرن من أبناء الحي فكنت أعرفهم واحداً واحداً، وأعرف طبق
عجين كل واحد منهم.
افتتح في الحي مخبز جديد، حرص صاحبه على كسوة جدرانه بالقاشاني، وأرضه بالرخام،
وجعل وقوده الزيت، وجذبت لافتته الملونة سكّان الحيّ، فانحازوا إليه، وانفضّوا من
حول صاحب المخبز القديم، الذي كان يتلقف أسماء زبائن المخبز الجديد بقلق، والويل
لهم إذا حاولوا العودة إلى مخبزه.
ذات يوم رفض الخبّاز استلام أطباق العجين من الزبائن، وردّهم خائبين، وهو يقف خلف
ميزان جديد له كفّتان من نحاس، فعلمت أن الخبز يباع وزناً بالدراهم، وصرت أتقاضى
ثمن الخبز اليومي كل صباح من والدي.
ومنذ ذلك اليوم فقدت رائحة الخبز التي كنت لا أصبر على التهام رغيفها الشهيّ الأسمر
في الطريق إلى المنزل.
وكثيراً ما كانت الدراهم التي يحملها أصدقائي الصغار في الصباح، ونحن على عتبة
المخبز تسقط من أيديهم، وتتدحرج بعيداً، فيعودوا أدراجهم خائبين، فارغي الأيدي.
وقبل أن أسلّم هذه المهمة إلى أخي الأصغر، سقطت قطعة نقدية معدنيّة من يدي فأخذت
تتدحرج فوق بوّابة المخبز، وأنا أراقب حركتها الدورانيّة، حتى رأيتها تستقرّ في
حفرة قديمة أمام المخبز، وتتوقّف عن الدوران، قبل أن تختفي.
قفزت نحو الحفرة، لألتقط القطعة النقدية التي فرّت من قبضتي، وأنقدها صديقي الخباز
وهو يضع الأرغفة في كفة الميزان، لتستوي مع السنجاة، إلاّ أنّني لم أعثر على القطعة
النقديّة التي يتوقّف عليها إطعام أفواه جائعة تقف بانتظاري.
التقطت من الحفرة غصناً جافاً وجدته صدفة، فأخذت أعبث به في التراب، بحثاً عن قطعة
معدنيّة سقطت في الحفرة أمام عيني، فلم أعثر عليها، إلاّ أنّني كنت واثقاً أنّها لا
تزال مستقرّة في الحفرة الترابيّة، فتابعت البحث عنها.
عثرت على قطعة نقدية صغيرة، ولكنها لم تكن القطعة النقدية التي فقدتها، فوضعتها في
كفي الأيسر، ثم تابعت البحث فعثرت على قطعة ورقيّة كبيرة، ساقتها الريح إلى تلك
الحفرة، ولم تكن القطعة النقدية التي أبحث عنها، فوضعتها في جيب قميصي، ثم تابعت
البحث فعثرت على مجموعة صدئة من القطع النقدية قبل أن أعثر على القطعة التي
افتقدتها.
خرجت من الحفرة فنفضت التراب عن ثيابي، ونقدت الخباز ثمن الخبز الذي بدا بارداً بعد
انتظاري، ثم توجّهت إلى المنزل فنثرت القطع النقدية التي عثرت عليها بين يدي
والدتي، فقالت متجهمة: من أين لك هذه القطعة النقديّة الورقيّة يا بني؟
فقصصت عليها قصة الكنز الذي عثرت عليه في حفرة رصيف المخبز، وحدّثتها عن أصدقائي
الصغار الذين يفقدون قروشهم أمام بوابة المخبز.
قالت والدتي: هيّا يا بني إلى المخبز.
ـ
وماذا أفعل بالمخبز وقد أتيت بنصيبي من الخبز هذا الصباح؟.
استدارت والدتي نحو بوابة المخبز، بعد مشاهدة حفرة القروش وهي تبتسم، ثم حيّت
الخبّاز تحية الصباح، وهو يقف كالمارد أمام الميزان، فوضعت القطع النقديّة الصدئة
في كفة الميزان، ثم أضافت إليها القطعة الورقيّة التي عثرت عليها.
وقالت:
اعط كل طفل يفقد قروشه وهو في طريقه إلى المخبز ما يطلبه من خبز، وهذا هو الثمن
مقدّماً.
تناول الخباز النقود الصغيرة فرماها في درج مستقر تحت كفتي الميزان، وجعل القطعة
النقديّة الورقيّة تستقرّ في جيب سترته، بينما كنت أقف خلف أمي أسجل في ذاكرتي صورة
لا تنسى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق