شيخ
الحكماء
اقتباس: روضة السالمي
هل سمعتم يا أعزائي
حكاية الملك عبّاس وشيخ الحكماء وراعية الأغنام سلمى؟ لم تسمعوا بها بعد؟ هيا معي
إذن لأقصّها عليكم، وأنصتوا جيّدا لجدّكم الحنون يخبركم عن الحكاية من البداية.
عَاشَ فِي قديمِ الزّمانِ،
فِي مغارةٍ أعلى الجبلِ، شيخٌ طاعنٌ في السنِ أطلقَ عليه سكانُ القريةِ اسمَ "شيخِ الحكماءِ" لِمَا تميّز به من حكمةٍ
وطيبةٍ.
وأطلقوا على مغارته اسم "مغارةِ الحكمةِ والطيبةِ".
فقد كان أهل القرية، يا
أعزائي، يحبون هذا الشيخ ويقدّرونه ويجلّونه أشد إجلال. فهو لم يكن يبخل عليهم
بعلمه وبمعرفته، بل كان يساعدهم في حلّ ما استعصى عليهم من مسائل، بفضل ما أوتي من
حكمة وذكاء وطيبة قلب ونقاء سريرة.
ونظير ذلك يا أحفادي، كان أهل القرية يرسلون
إليه مع سلمى راعية الأغنام ما يحتاجه من طعام وشراب ولباس وأوراق وأقلام وكتب.
أما سلمى فقد كانت فتاة
يتيمة، مات أبوها في الحرب وهي في سنّ السابعة ولحقته أمها كمدا وحزنا
بعد أشهر قليلة. فتكفّل أهل القرية الطيبون بالطفلة
الوحيدة، واهتموا بها ورعوها حتى كبرت، وأوكلوا إليها مهمة
رعي الأغنام.
هل أخبركم يا أحبتي
ماذا فعلت سلمى؟ لقد أخلصت في عملها لما تتمتّع به من شجاعة
وذكاء وطيبة وحسن أخلاق، فكانت محلّ حب الجميع وتقديرهم، وكانوا
يعوّلون عليها في الاهتمام بماشيتهم، وجلب الأعشاب الطبيّة
لهم من أعلى الجبل حيث يعيش شيخ الحكماء.
لقد كانت سلمى، يا
أحبّتي، في العاشرة من عمرها، في مثل سنكم تقريبا، عندما تعرّفت على شيخ الحكماء،
فتعهّد بتعليمها القراءة والكتابة، حتى برعت فيها، وأطلعها على مختلف
أنواع أسماء النباتات وفائدتها الطبية، فكانت نِعم الطالبة المجتهدة.
ثمّ مع تقدّمها في
السنّ، عرّفها شيخ الحكماء على مختلف أسماء الكواكب والنجوم، وعلوم الحساب والجبر
والهندسة حتى صارت ملمّة بالكثير من المعارف والعلوم، وكانت
بدورها تتقاسم ما تعلّمته على يد الشيخ مع نساء القرية
وأطفالها.
وهل تعرفون ماذا فعلت
سلمى؟ لقد كانت همزة الوصل بين أهل القرية والشيخ الحكيم،
فكانت
تنقل إليه الأخبار، وتستشيره في أمورهم، وتحمل إليه رسائلهم، وكان
شيخ الحكماء يجيب على استفساراتهم وما استعصى عليهم من أمور دنياهم ويحكم بينهم
بالعدل والإنصاف.
بالفعل يا أحبتي، معكم
حقّ، الأهالي أيضا فكّروا في الشيخ الحكيم لينقذهم من بطش وجبروت ملكهم عبّاس، وكم
طلبوا من شيخ الحكماء أن يغادر مغارته في الجبل ويعيش بينهم لينصّبوه
ملكا عليهم ويحكّموه عوضا عن حاكمهم القاسي ولكن من دون فائدة.
فقد كان شيخ الحكماء
يفضّل حياة الزهد والتأمّل على حياة البذخ والقصور، حتى يئس القرويون من
إمكانية نزوله من جبله العالي، ورضوا بما اختاره لنفسه، وبما قدّر لهم من العيش
تحت حكم من لا رحمة في قلبه ولا حكمة في عقله.
وكان الملك عبّاس، كما
أخبرتكم، شخصا قاسيا متهوّرا، لا تعرف الطيبة طريقا إلى قلبه، وكان
يرعب القرويين بأخذ أموالهم، وإرسال أبنائهم إلى محاربة ممالك الجوار.
وكان جميع الأهالي
يخشون سلطته وبأسه، ويجارونه في كلّ ما يطلبه منهم تجنبا لإثارة غضبه وتوقّيا من
شرّه،
وفي سرّهم كانوا يتمنوّن حدوث معجزة تريحهم منه ويطلقون عليه اسم "شيخ
البَغْضَاءِ" لصلفه
وتكبّره وجبروته، وأطلقوا على قصره اسم "بؤرة
الجشع والكبرياء".
وكما توقّعتم يا أحبتي،
فقد كان للملك حاشية أعمى الطمع قلوبهم وأفسد التكبّر والغرور أخلاقهم، فكانوا
يشيرون عليه أسوء التدبير ويعيثون فسادا في المملكة، إلا وزير العدل صابر الذي كان
يشفق على الأهالي ويحاول جاهدا كفّ أذى الملك وبطانة السوء عنهم. ولكنه،
يا أحفادي، كان ضعيفا عاجزا أمام استفحال الفساد في القصر، فلم يفلح في تحقيق
العدل والإنصاف بين الناس.
وكان للملك ابن وحيد اسمه
حسن، ماتت أمه وهو في سنّ الرابعة، وقد
كان يحبّه حبا جمّا، ويخاف عليه خوفا شديدا.
وكان هذا الابن، يا
أحبتي، زاهدا في الدنيا، راغبا في العلم والأدب، هاويا للرسم والفنّ، رقيق
الإحساس، طيّب القلب، محبّا لوالده مخلصا في نصحه، ولكن دون جدوى، فلم يكن الملك
ورغم حبّه الشديد لابنه، ينفك يقلّل من شأن الفنّ وطلب العلم، ويدعو ابنه في
المقابل إلى التحلي بالشدّة والقسوة ليتمكّن من إدارة شؤون المملكة بقبضة من حديد.
وحدث يا أحفادي، أن رأى
الملك ذات ليلة كابوسا أيقظه فزعا، فقد
رأى في ما يراه النائم بأن رأسه تحوّلت إلى شجرة كثيفة الأغصان يأكل صغار الأغنام
والماعز الجبلي من أوراقها، وأصبحت عيناه جوهرتان جامدتان لا روح فيهما.
وعاود هذا الكابوس
المخيف يا أحبائي الملك طيلة ثلاث ليال متتالية حتى أقضّ مضجعه، وانتابه مرض غريب
عجز الأطباء عن علاجه، مثلما عجز حكماء القصر عن تفسير حلمه المزعج.
اشتدت الحمى، يا
أحفادي، على الملك عبّاس الذي أنهك المرض جسمه، وغطى الطفح جلده، وأخذ يهذي بكلام
غير مفهوم، ولم يساعده في محنته تلك غير ابنه حسن الذي لازمه، ووزير
العدل صابر الذي أرسل في طلب الأطباء لعلاجه واستقدم المفسرين ليحلوا لغز الحلم
الذي أسقمه.
ومثلما توقّعتم يا
أحفادي فقد انتشر خبر مرض الملك عبّاس سريعا، فاستبشرت بطانة السوء وأخذوا يجهّزون
أنفسهم للاستيلاء على الحكم، ورحّب القرويون بالخبر وفرحوا بقرب
الخلاص، إلا سلمى التي لم تشمت بمرض الملك والشيخ
الحكيم الذي هزّ رأسه عدّة مرات لدى سماعه الخبر من دون أن ينبس ببنت شفة.
وعندما يئس الأطباء
والعلماء من إيجاد علاج لجسم الملك وروحه المعذّبة، أشاروا على الأمير بلقاء شيخ
الحكماء لعلّه يساعدهم.
فكّر الأمير، يا صغاري،
مليّا وتشاور
مع وزير العدل صابر الذي نصحه بأخذ الملك معه خشية أن تعمد بطانة
السوء، التي أعمى الطمع بصيرتها، إلى قتل الملك في غياب ابنه.
حمل حسن والده عبّاس في
عربة خشبية قديمة وخرج متنكّرا من القصر، وقضى أياما طويلة يجوب
القرى متنكرا باحثا عن مكان الجبل الذي يقيم فيه شيخ الحكماء.
وكان أشد ما أحزن
الأمير، يا أحفادي، هو السعادة التي لمسها لدى سكان المملكة وتشفيهم في مرض والده
عبّاس،
ولذلك فقد عمد إلى المرور من الطرق الزراعية حتى لا يعترض طريقهم أحد.
ورغم شدّة اعتناء الابن
بأبيه وحرصه على سلامته، فقد ساءت حالته وما انفكت الكوابيس المزعجة تراوده ليلا
نهارا، حتى ازداد سقمه، وغطت القروح جسمه، وكادت الحمى تذهب بصره.
وذات يوم، يا أعزائي،
وبينما كان الأمير يأخذ قسطا من الراحة تحت شجرة وارفة الظلال، بعد أن اطمأنّ على
والده النائم في العربة، رأى سلمى عائدة بخرافها من المرعى.
لمحته سلمى من بعيد
فقصدته وألقت عليه التحية، وبسخاء وطيبة قلب ومن دون تردّد أعطته ما معها من زاد، فشكرها
حسن على صنيعها، وسألها أن تدلّه على مكان شيخ الحكماء.
تفطّنت، يا أحبابي،
الفتاة الذكية إلى هوية مخاطبها ولكنها تظاهرت بعدم معرفته، فلم تسأله عن
قصّته مراعاة لمشاعره، وطلبت منه أن ينتظرها ريثما تعيد
الأغنام إلى أصحابها، ثم ترجع إليه فتصطحبه إلى الشيخ الحكيم.
فرح حسن بلقاء سلمى
واستبشر خيرا بها، وأحسّ بأن شفاء والده بات قريبا. وكانت الشمس توشك على
المغيب عندما وصلوا إلى باب المغارة بعد أن اجتازوا بصعوبة بالغة طرقا شائكة
وملتوية في الجبل.
ولما نظر إليهم الشيخ
الحكيم، يا أحفادي، فهم مقصدهم قبل حتى أن ينبسوا ببنت شفة، وطلب من سلمى إعداد
شراب دافئ من الأعشاب الجبلية مع حليب الماعز والعسل، ومرهم جلدي من مسحوق أوراق
شجرة وصفها لها.
أعدت سلمى الدواء بكلّ
همّة وإخلاص، وكانت تدعو من كلّ قلبها أن يشفى المريض. وفي الأثناء كان حسن يقصّ
على الشيخ الحكيم تفاصيل الكابوس الذي أقضّ مضجع والده.
وبعدما أنصت
الحكيم بانتباه إلى حسن، بشّره بقرب شفاء والده بفضل برّه به وإخلاصه في محبته.
وبالفعل، يا أحبابي،
فبعد أيام من تناول الدواء بانتظام وبفضل إخلاص سلمى في رعاية عبّاس وتفاني ابنه
حسن في العناية به بناء على توجيهات شيخ الحكماء، تحسّنت حالة المريض وبدأ يتخلّص
من سقمه شيئا فشيئا حتى استعاد عافيته.
وذات مساء، بعد أن شفي
الملك عبّاس تماما، وعندما كان الجميع يتأملون الكواكب والنجوم ويدرسون أهم
الأحداث الفلكية الدورية، انتحى الملك عبّاس بابنه على جنب، وهل تعرفون يا أعزائي
ماذا أخبر ابنه؟ لقد أخبره رغبته في العودة إلى مملكته.
تظاهر كلّ من الحكيم
وسلمى بأنهما لم يسمعا الحوار الدائر بين الأب وابنه، وحاول حسن إثناء أبيه عن
رغبته، ولكن، ومثلما توقّعتم، فإن الملك عبّاس كان
متعنّتا كعادته وأبى أن يستمع إلى النصح، عندها تدخّل الشيخ
الحكيم طالبا من الملك عبّاس أن ينظر إليه مليا وقال له:
-
هل عرفتني يا عبّاس؟
استغرب الملك، مثلما أنتم الآن تستغربون، من سؤال شيخ
الحكماء، ولكن ذلك تبدّد عندما تفرّس مليا في وجه الشيخ وهنا صاح صيحة مدوّية:
-
أهذا أنت؟
أجابه شيخ الحكماء بكلّ هدوء:
-
نعم إنه أنا الملك نعمان الذي انقلبت عليه حالما مرض
وأمرت حرسك بأن يقتلوه..
ووسط دهشة الجميع، يا
أحبابي، تحدّث الشيخ الحكيم نعمان عن المحنة التي تعرّض لها منذ أكثر من عشرين
عاما عندما مرض وتدهورت صحّته وخانه أخلص أصحابه وهو الوزير عبّاس، ولكنه تمكّن من
الهرب بفضل مساعدة أحد حراسه المخلصين.
وعند سماع الملك عبّاس
هذه الحكاية تأثّر بالغ التأثّر وأجهش بالبكاء الشديد، وأخفى وجهه بين يديه،
معبّرا عن خجله وندمه عما بدر منه متمّنيا لو أنّ الأرض تنشق وتبتلعه.
وحاولت
سلمى، يا أحبابي، والتي حرصت طوال المدة الماضية على إخفاء أمر استيلاء الوزير
الأول صفوان على الحكم في غيابه، أن تخفّف عن عبّاس محنته وتشدّ
من عزيمته، فنصحته بلهجة رقيقة وهي تمسح دموعه برقّة بأن يعتبر ما حدث فرصة ثمينة
تجعله ينظر إلى الحياة بشكل مختلف ويقدّر الأشياء حقّ قدرها.
وبعد تلك الحادثة،
اعتكف الملك عبّاس، عدّة أيام، مقلّبا بصره في ما عاشه من المحن، ثم قرّر أن يغيّر
حياته ويستفيد من قربه من الشيخ الحكيم. واستجمع ذات يوم شجاعته وقال له:
-
لقد كنتُ
يا نعمان أعتقد أنني إنما انتزعت منك الملك لأنني أقوى منك.. ولكن
في الحقيقة كنت أنت الأقوى.. لأنك استطعت أن تؤسس
مملكة من الحكمة والطيبة والكلمة الحسنة..
وهل تعرفون يا أحفادي
كيف انتهت هذه القصّة؟ فبعد تلك الليلة بسنوات، وبعد أن توفي شيخ الحكماء، تمكّن
الحكيم عبّاس وابنه حسن وزوجة ابنه سلمى (طبعا مثلما توقّعتم ومثلما يحدث في كلّ
الحكايات فقد تزوّج حسن ابن الملك بسلمى الفقيرة وأنجبوا العديد من الأبناء
والبنات)، قلت إذن يا أحفادي قبل أن تقاطعوني بأنهم تمكّنوا من أن يعلّموا
القرويين ويبنوا المدارس والمستوصفات وينشروا الفنّ والعلم في كلّ أرجاء المملكة.
وكان الحكيم عبّاس
كثيرا ما يردّد بأن الفنون والعلوم هي الشجرة التي تغذي الأجيال، وأنّ
العين التي لا تبصر جوهر الأشياء إنما هي عين لا ترى.
وكان ذلك، مثلما خمّنتم يا أحبتي، تفسير الحلم الذي كان سببا في ضياع كرسي الملك
منه وتعويضه بما لا يقدّر بثمن من الحكمة والعلم والمعرفة.
وتمكّن الأهالي بفضل
التعليم أن يغيّروا الملك صفوان، هل تذكرونه يا أحفادي؟ إنه ذلك الذي استولى على
الحكم بعد مرض عبّاس، وجعلوه يدرك أهميتهم بقوّتهم ووحدتهم، فحكمهم بالعدل مستعينا
بالثقاة من الوزراء.
وهكذا انتهت حكاية اليوم وإن أعجبتكم يا أعزائي فاحكوها عندما تكبرون
لأبنائكم وأحفادكم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق