أنا عنقود عنب
من كتاب ” حياة محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين قصه ”
عبدالتواب يوسف
كنت أتدلى من فوق حَبلَتي -أي : شجرة العنب - بالطائف ، وكان يملك حَبلَتي رجل اسمه ( عتبة بن ربيعة ) وأخوه ( شيبة ) ، وقد رأيت من مكاني هذا .. محمداً رسول الله ، وقد جاء إلى ( بني ثقيف ) بالطائف .. جاء متخفياً لا يعلم به أحد .. حيث كان يريد أن يدعوهم إلى الإسلام ، وكان يرجو أن تكون ( ثقيف ) أقل تعصباً وأكثر تعقلاً من قريش.
ومنذ ظَهرْتُ إلى الوجود بُرْعُماً صغيراً ، وأنا أسمع عن محمدٍ .. من الذين يأتون من مكة ويستظلون بحَبلَتي؛ فعرفت أن أول من آمن به من النساء .. زوجته خديجة ، ومن الرجال .. أبو بكرٍ ، ومن الأطفال .. عليٌّ بن أبي طالب ؛ وعرفت – أيضاً – أن الذين آمنوا به كانوا عدداً قليلاً ، وأن أغلبية قريشٍ لم تؤمن ، بل سخِرَت منه ، وقاومته بكل سبيل ، وقد حاولَت إغراءَهُ بالملك والمال ، ليعدل ويرجع عن دعوته ، ويكفَّ عن تسفيه الأصنام التي كانت تعبدها قريش.
وسمعتُ من جالسٍ تحتي ..
أنهم أرسلوا إليه مع عمه أبي طالب يقولون له :
ــ إن قريشاً تعرضُ أن تأخذَ منها ما تريدُ من المال ، على أن تترك هذا الدين الذي تدعو إليه.
فأجاب ( صلى الله عليه وسلم ) :
" والله يا عمي .. لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه " .
ثم سمعتُ من ( عتبة ) صاحب حَبلَتي..
أن قريشاً أرسلته – أيضاً – إلى محمدٍ ليقول له :
ــ إن قريشاً مستعدة .. إن كنت تريدُ مالاً أن تعطيك حتى تصبح أغناهم ، وإن كنت تريد شرفاً جعلوك سيداً لهم لا يفعلون شيئاً إلا إذا أخذوا رأيك ، وإن كنت تريدُ أن تصبح مَلِكَاً جعلوك ملكاً وأجلسوك على العرش ، وإن كان هذا الوحيُ مرضاً أتَوْا لك بأمهر الأطباء لعلاجك حتى تُشْفَى.
فرد محمدٌ على ( عتبة ) يتلو هذه الآية الكريمة :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }
[ الآية (110) .. سورة الكهف ]
فعاد عتبة إلى قريش يقول لها :
ــ سمعتُ كلاماً لا هو بالشعر ، ولا هو بالسحر ، ولا هو بالكهانة.
وطلب عتبة من قريش أن تترك محمداً وشأنه قائلاً :
ــ لقد كان محمدٌ فيكم غلاماً حَدَثاً أكرمكم خُلُقاً ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانة ..
حتى إذا كبر وجاءكم بما جاءكم قلتم : كاذبٌ وساحر !
ولم تنفع إغراءات قريش لمحمد بالمال والملك واستمر يدعو لدين الله الواحد الأحد ، فزادت قريش من إيذائها له وتنكيلها به هو وأتباعه ..
ثم دعت إلى مقاطعته وعزله هو والمسلمين الذين اتبعوه ، وعلقت صحيفة من الجلد في الكعبة تدعو فيها الناس إلى ذلك وتقول لهم :
ــ لا سلام ولا كلام مع المسلمين.
ــ لا بيع لهم ولا شراء منهم.
ــ لا زواج ولا مصاهرة.
ــ لا تعامل معهم من أي لون.
ولم تنفع هذه المقاطعة أيضاً ، خاصةً وأن خمسة من كبار رجال قريش أعلنوا بعد ثلاث سنوات من المقاطعة : أنهم لا يعترفون بها ، ومزقوا الصحيفة وأبطلوا العمل بها.
ولكن نهاية المقاطعة لم تصرف كفار قريش عن استمرار التعذيب والإيذاء لمحمدٍ وأتباعه ، وزاد التعذيب وتضاعف الإيذاء بعد موت عمه ( ابي طالب ) وزوجته ( خديجة ) .. فقد كانوا يلقون على الرسول وهو في صلاته أمعاء شاةً مذبوحة .. وهم يضحكون ! ، كما وضع واحد من الكفار ثوباً حول عنق الرسول وكاد أن يخنقه.
وكل هذه الأخبار وغيرها كنت أسمعهاـ أنا عنقود العنب ــ من القادمين من مكة ، وهم جالسون تحتي يستظلون بحَبلَتي، وكانت هذه الأخبار الحزينة تؤلمني ، وكنت أتمنى أن أجد فرصة في حياتي القصيرة أرى فيها محمداً ..
ولم أكن أريد أن يطول بي العمر على حَبلَتي خوفاً من أن يأخذني الكفار ويعصروني خمراً تأخذ بعقولهم ، فيزيدوا في عذاب المسلمين ؛ لذلك كنت أتصور فرصتي في لقاء محمد ، وقد حقق الله أملي .. إذ جاء بنفسه – صلى الله عليه وسلم – إلى هنا لأراه.
وبقدر ما سعدتُ برؤيته .. حزنتُ لما حدثَ ، وكدتُ أبكي وأنزفُ دمعي حين رأيتُ ما جرى له .. فقد جلس إلى أشراف ( ثقيف ) يعظهم ويدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، فإذا هم يردُّونه رداً خشناً ، ويغلظون له القول ؛ ولم يكتفوا بذلك ..
بل سلطوا عليه في طريق عودته صبيةً صغاراً لا يعقلون ، ومعهم بعض السفهاء يطاردونه ويحيطون به ويضربونه بقسوة ويقذفونه بالحجارة ويشتمونه ويهزءون به ، ويمسكون به كلما حاول الجري مبتعداً عنهم ...
وأخيراً .. استطاع أن يفلت منهم ، وأن يلجأ إلى ظل الحَبلَةالتي أتدلى منها ، وجلس تحتها في تعبٍ وإعياء ..
وسمعته يقول :
" اللهم .. إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوٍ ملكته أمري ؛ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي ؛ ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والأخرة .. من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " !
وكان ( عتبة ) وأخوه ( شيبة ) يقفان بالقرب منه ويسمعان كلماته ؛ فإذا عتبه يطلب من غلامه ( عدَّاس ) أن يقطفني – أنا عنقود العنب – من فوق الحَبلَة، ويضعني في طبقٍ ، ويقدمني إلى محمدً – صلى الله عليه وسلم - ...وحينئذٍ .. شعرت بنفسي أهتز فرحا فوق الغصن الذي أنا عليه ، وغمرتني السعادة وأنا أنزل من مكاني إلى الطبق .. ليضعني ( عداس ) أمام الرسول .. فمد يده الكريمة وهو يقول :
ــ بسم الله.
وعندئذٍ .. يعجب عداس لهذه الكلمة التي لم يسمعها من أحدٍ من قبل ؛ فيبدي دهشته للرسول قائلاً :
ــ هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد.
فسأله الرسول :
ومن أهل أي بلاد الله أنت ؟
قال عداس : من أهل ( نينوى ).
فرد الرسول :
من قرية الرجل الصالح ( يونس بن متّى ) ؟
فسأله عداس مستعجباً :
وما يدريك من ( يونس بن متى ) ؟!!
فأجاب الرسول :
كان نبياً ، وأنا نبي.
فانحنى ( عداس ) على رأس الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويده وهو يقبله ويهتف :
ــ نبيٌّ .. نعم ، نبي ..
فلا يمكن أن يحتمل أحد ما تلقى إلا في سبيل الحق ودين الحق.
وانفرطت حباتي بين أصابع
الرسول – عليه الصلاة والسلام - ، وأنا أسعد عنقود عنب في تاريخ الدنيا كلها .. فأنا قد صِرْتُ طعاماً للرسول بعد طول عذابه ؛ - وأيضاً – لأني شهدتُ إسلام وإيمان ( عداس ) بالرسول وبرسالته السماوية العظيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق