الاثنين، 20 ديسمبر 2010

"حكاية صاحب الغزلان" قصة للأطفال بقلم أحمد طوسون

حكاية صاحب الغزلان
( عن قصة حي بن يقظان لابن طفيل )
القصة الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي 2005
أحمد طوسون

لملمت الشمس أشعتها الشاحبة ورحلت بعيدا وانتظرت الحيوانات الأليفة حتى زار الليل الغابة وألقي ستارة الظلام عليها ومرت أصابعه على الجفون أغمضتها، فغرقت الوحوش والسباع في نوم عميق.
تحسست الحيوانات طريقها وسط الغابة وسارت على أطراف أقدامها وحوافرها حتى لا تشعر بها ملكة الغربان الشريرة وصديقها الذئب.
وصلت الحيوانات إلي شاطى البحر دون أن يشعر بها أحد.. صعدت الحيوانات والطيور إلى مركبهم كي يهاجروا إلى الجزيرة المهجورة التي أرشدتهم إليها الحمامة الوديعة ليعيشوا في سلام بعيدا عن شر ملكة الغربان وصديقها الذئب.
ظلت ملكة الغربان نائمة حتى لسعتها أشعة الشمس الذهبية فاستيقظت متعجبة أنها نامت حتى سخنت أشعة الشمس ولسعتها، ولم تسمع الديك ذا العرف الأحمر الكبير يصيح كعادته مع أول ضوء للشمس: (كوكو.. كوكو ).. قالت ملكة الغربان لنفسها:
ـ لِمَ لمْ يصح الديك اليوم كعادته ويوقظني؟!
وقررت أن تذهب لتعرف السبب بنفسها، لكنها لم تجد الديك، كما لم تجد أحدا من الطيور أو الحيوانات الأليفة في الغابة.
غضبت ملكة الغربان وثارت.. ظلت تحدث نفسها وتقول:
ـ أين ذهبت الحيوانات والطيور الضعيفة والمسالمة؟!
ـ لابد أنهم وجدوا مكانا آمنا اختبأوا فيه....
ـ وأين وجدوا هذا المكان ؟!
ـ سأبحث عنه.. لن أترك مكانا في الغابة حتى أجدهم..
بينما ترقرقت أمواج البحر وادعة هادئة حتى وصل مركب الحيوانات الأليفة إلى الجزيرة الآمنة.
غردت الطيور وضربت الفضاء بأجنحتها وهللت الحيوانات ورفعت أقدامها سرورا.. رقصوا وغنوا فرحا بجزيرتهم الجديدة.. ماعدا الظبية الطيبة.. كانت حزينة على وليدها الذي سقط من المركب أثناء رحلتهم في البحر الكبير.. بقيت الظبية الحزينة عند الشاطئ تراقب الموجات الصغيرة وتبكي على وليدها الذي فقدته.. تردد في أذنيها أنين قادم من ناحية البحر.. انفطر قلب الظبية حين سمعت الأنين وقالت لنفسها:
ـ أنصتي جيدا.. كأني أسمع صوت صغيري يبكي.
ونظرت بلهفة وشوق إلي البحر الكبير.. وجدت البحر يتماوج ويدفع تابوتا خشبيا ناحية الشاطئ.. ربتت الموجات الصغيرة على التابوت وتركته عند رمال الشاطئ و تابعت رحلتها الهادئة صفا وراء صف.
أسرعت الظبية إلي التابوت ولمحت داخله جنينا جميل الشكل يبكي.. فرحت الظبية بالصغير وقالت :
ـ لقد أرسله الله لي ليعوضني عن وليدي الذي فقدته.
وألقمته حلمتها ليشرب ويرتوي من لبنها ويكف عن البكاء.. ثم حملته وأسرعت به سعيدة إلي حيوانات وطيور الجزيرة.. تفحصت الحيوانات الكائن الغريب الذي وجدته الظبية بارتياب وشك.
قال شيخ الغزلان مندهشا :
ـ هذا الكائن لا يشبه أحد من حيوانات الغابة.
وألقى الأرنب نظرة إليه وتراجع دون أن يتعرف عليه وقالت النعامة:
ـ ربما كان كائنا بحريا.
الحمامة الوديعة تفحصته جيدا وقالت:
ـ لا.. لا.. أظن أنه ينتمي إلي بني الإنسان.
قالت الحيوانات بدهشة:
ـ الإنسان؟!
ـ نعم.. لقد كنت أطير بالقرب من بلاد الإنسان وشاهدت بعض الناس وهو يشبههم كثيرا، ولابد أن يكون واحدا منهم.
قال الحمار قلقا:
ـ أري أن نتخلص من هذا الكائن ونعيده إلي البحر ثانية.
انزعجت الظبية من كلام الحمار وخفق قلبها بسرعة خوفا على الصغير، فضمته إلي صدرها وحملته بعيدا عن الحيوانات وقالت:
ـ لا شأن لأحد بصغيري، سأحتفظ به لنفسي.
طمأن شيخ الغزلان الظبية الطيبة وقال:
ـ لا تقلقي يا ظبية، لن يؤذيه أحد لكننا نتناقش من أجل مصلحة الجزيرة وسكانها. ونظر إلى الحمار مستفسرا وقال:
ـ ولم نتخلص منه.. إنني لا أرى له أنيابا أو مخالب ولا اعتقد أنه سيشكل خطرا علينا؟
قال الحمار شارحا وجهة نظره:
ـ لقد كان جدي يعمل في بلاد الإنسان وكان يشتكي من سوء معاملة بعض الناس له وأخشى أن يكبر هذا الإنسان ويسيء معاملتنا.
صاح الديك وقال:
ـ لقد قرأت في بعض الكتب أن الإنسان يجمع في نفسه بين الخير والشر ولو كبر هذا الإنسان بيننا ربما تسبب في دخول الشر إلى جزيرتنا.
رفرفت الحمامة الوديعة معترضة وقالت:
ـ صحيح أن الإنسان يجمع بين الخير والشر،لكنه يمتلك طاقة وعقلا يمكننا أن نستفيد منهما.. خاصة والحياة بجزيرتنا صعبة وربما أفادنا الإنسان بعقله وأفكاره.
فكرت الحيوانات فيما قالته الحمامة، ثم قال شيخ الغزلان:
ـ وجهة نظر الحمامة صحيحة، يمكن أن يفيدنا الإنسان، وسنحرص على أن نربي فيه قيم الخير والحب فنستفيد من طاقته وعقله ونأمن الشر الذي بداخله.
وافقت الحيوانات والطيور على هذا الرأي وقرروا الاحتفاظ بالإنسان بينهم وتربيته على قيم الخير والحب والسلام.. فرحت الظبية الطيبة لاحتفاظها بالصغير وربت شيخ الغزلان على الصغير وقال لها:
ـ وماذا ستسميه ؟
فكرت الظبية قليلا وقالت:
ـ سأسميه صاحب الغزلان .
(2 )
عاش صاحب الغزلان لا يعرف أما له إلا الظبية الطيبة ،وحوطته الحيوانات بالحب والمودة، ومنذ كبر صاحب الغزلان وأصبح عمره سبع سنوات، فكر في أفكار جميلة لصالح الجزيرة.. فقد كان بالجزيرة نهر يثور ويهيج كل عام في موسم الفيضان ويغرق الجزيرة ويقتلع المزروعات ويجرف الأشجار ويسبب الفزع للحيوانات فتهرب خوفا من الغرق إلي سفح الجبل البعيد بأقصى الجزيرة حتى يهدأ النهر وينتهي الفيضان وتبتلع الأرض الماء.
فكر الولد في بناء سد يحمي الجزيرة من الفيضان وساعدته الحيوانات على بنائه وشق الترع ليروي الأرض ويزرع الحبوب والقمح والشعير والبرسيم حتى نضجت الثمار وزادت الغلال وبات الطعام وفيرا، كما مهد طرقا تسلكها الحيوانات بسهولة ويسر وبني بيوتا وأودية وحظائر وأعشاشا وجحورا لتسكنها الحيوانات والطيور، حتى ارتدت الجزيرة ثيابها المزركشة وغمرها العشب الأخضر وازدانت بالورود والأزهار، وحرص الولد على أن يصنع صناديق يجمع وأصحابه فيها القمامة لتظل الجزيرة نظيفة وجميلة، ثم يذهب ليستحم في البحر ويداعب الموجات الصغيرة وبعد أن ينتهي من استحمامه يعود إلى الجزيرة يمتطي أرجوحته ويحلق كطائر صغير حتى يلامس السحابات البيضاء ثم يعود إلى البساط الأخضر يغازل الزهرات المتفتحة ويلعب ويلهو مع الحيوانات والطيور ويغنون في سعادة:
ما أجمل الجزيرة في ساعة الظهيرة
نغدو تحت الشجر
وشمسنا الجميلة تداعب الخميلة
فيضحك القمر
حتى جاء يوم حلقت فيه ملكة الغربان الشريرة فوق سماء البحر الكبير، وسمعت غناء الولد مع حيوانات الجزيرة.. توقفت ملكة الغربان عن التحليق، وقالت لأصحابها من الغربان السود:
ـ أتسمعون هذا الغناء؟
ـ لابد أنه قادم من الجزيرة المهجورة.
ـ ربما كانت تسكنها الأشباح يا ملكة الغربان.
ضربت ملكة الغربان بجناحيها السود الفضاء وشاهدت صاحب الغزلان يلعب مع الحيوانات والطيور، قالت ملكة الغربان لأصحابها:
ـ أيها الكسالي الجبناء.. الأشباح لا تسكن إلا في رؤوسكم، إنهم الحيوانات الأليفة التي تعبت سنين في البحث عنها.
ـ وماذا سنفعل يا ملكة الشر في كل زمان ومكان؟
ضحكت ملكة الغربان بخبث ودهاء وقالت:
ـ لابد أن نعمل سريعا لننشر الشر والرعب في الجزيرة الآمنة، ليعرف الجميع أن ملكة الغربان لا تترك مكانا دون أن تنشر فيه الحرب والدمار.. سنخبر صديقنا الذئب ونرشده إلي طريق الجزيرة.. وأنتم تعرفون كم هو نهم وجائع لاتهام الحيوانات الأليفة.
ـ حقا سيفرح الذئب بهذا الطعام الوفير.
لكن ملكة الغربان قبل أن تعود إلى الغابة سألت نفسها عن السبب الذي جعل الولد يعيش مع حيوانات الجزيرة وقالت:
ـ إنني أكره بني الإنسان فهم يستعملون العقل والتدبير في أمورهم.. ولو بقي الولد في الجزيرة سيفسد خططي ويحارب الذئب وربما طرده من الجزيرة.
وقررت أن تبقي بالجزيرة حتى تعرف حكاية صاحب الغزلان وتفكر في طريقة تبعده عن طريقها أو تجعله لا يساعد حيوانات الجزيرة.
وكلفت أحد صغار الغربان أن يتنكر على شكل طائر العقعق، فوضعت على ذيله بعض الريش ليبدو طويلا كذيل العقعق، ونزل إلى الجزيرة ليعرف حكاية الولد ولماذا يعيش مع الحيوانات.
(3 )
عاد الغراب الصغير وحكى ما عرفه عن صاحب الغزلان، وقال إن الولد يعتقد أنه من قطيع الغزلان وأمه الظبية الطيبة.
فرحت ملكة الغربان بالأخبار التي حملها الغراب الصغير وقالت بغرور:
ـ إذن هذا الولد يظن نفسه من عالم الحيوان.
.......................................
ـ سيكون من السهل أن أوقع بينه وبين الحيوانات لو أخبرته أنه من بني الإنسان ولا ينتمي إلي عالم الحيوان..
وسأوقظ الشر في نفسه وساعتها يمكن أن يساعدنا بدلا من أن يقف مع حيوانات الجزيرة ضدنا.
وضعت ملكة الغربان في رأسها ومضت نحو تنفيذها.. ظلت ترقب الولد من بعيد،حتى وجدته يجلس وحيدا فوق صدر صخرة عند شاطئ البحر.. رفرفت بجناحيها بالقرب منه وقالت:
ـ ها أنا قد وجدتك أخيرا.
ألتفت الولد إلي مصدر الصوت وأشار إلى نفسه وقال:
ـ هل تقصديني أنا؟
ـ نعم.
ـ ولماذا لم تبدئي كلامك بالسلام؟!!
ضحكت ملكة الغربان في نفسها وقالت: ( السلام.. كم أكره هذه الكلمة وأتمني ألا يعرفها أحد ).
- بماذا تهمهمين؟
ـ لا شي.. اعذرني يا صديقي.
لقد قطعت مسافة كبيرة في الطيران من الغابة إلى الجزيرة لأصل إليك.
اندهش الولد وقال:
ـ لكنني لا أعرفك ولم أرك من قبل!
ـ هذا صحيح، لكنني أعرفك وأعرف أنك تنتمي إلي عالم البشر وبني الإنسان.
أحنى الولد رأسه باستغراب، فلم يكن سمع من قبل عن البشر وبني الإنسان وقال:
ـ بنو الإنسان ؟!
ـ نعم يا صديقي، الإنسان الذي كرمه الله على باقي المخلوقات.
ـ ولماذا يكون الإنسان أفضل من باقي المخلوقات؟
ـ لأن الله وهب الإنسان العقل والحلم وطاقة جبارة تجعله يستطيع أن يحقق حلمه.
ـ وما الذي يجعلني أصدقك وأصدق أنني انتمي إلى عالم الإنسان؟!
ـ الأمر سهل يا صديقي، فليس لي مصلحة أن أكذب عليك.. كما أنك لو نظرت إلى الحيوانات ستجدها تكتسي بالوبر أو الشعر أو الريش ليحميها من تقلبات الجو ولها من القرون والأنياب والمخالب ما تدافع به عن نفسها، أما أنت فتختار بعقلك ما يناسبك في الصيف أو الشتاء، وبهذا العقل تتغلب على المصاعب والأخطار.. كما أنك تمتلك القدرة على الحلم وتغيير ما حولك إلي الأفضل.. وبمقدرتك على الحلم جعلت من الجزيرة المهجورة جنة تغمر الحيوانات بخيراتها.
وأراك تعمل وتتفاني في خدمة الحيوانات والطيور بينما كان من الطبيعي أن تصبح سيدا للجزيرة ويصبح سكانها في خدمتك وطاعتك.
ـ لكن جزيرتنا ليس لها سيد يحكمها.
ـ يا صديقي كل مكان لابد أن يكون له حاكم.. في غابة الحيوان الأسد ملك الغابة، وفي عالم البشر كل بلد من البلدان له رئيس أو ملك أو أمير، ليدير شؤون المكان ويرعى سكانه.. وأنت بعقلك وتفكيرك الأصلح لتصبح سيدا لجزيرة الحيوانات.
رنت كلمات ملكة الغربان في أذني الولد، وراقت له فكرة أن يصبح سيدا للجزيرة وتعجب كيف لم يفكر في هذا الأمر من قبل.. الجزيرة تحتاج إلى من يديرها ويرعى شؤون الحيوانات والطيور، وهو أجدر من يقوم بهذا العمل، فقد تعب حتى أصبحت الجزيرة لا مثيل لها في دينا الحيوان، كما أنه يمتلك في نفسه شيئا أشبه بالسحر يدفعه إلي حب الحياة والاعتناء بها والبحث عن الأفضل له ولحيوانات الجزيرة ومن الطبيعي أن يصبح سيد للجزيرة كما تقول ملكة الغربان.. لكن ماذا لو رفضت الحيوانات هذه الفكرة؟
قالت ملكة الغربان وكأنها قرأت الأفكار التي تدور برأسه:
ـ وهل هذا معقول يا صديقي؟!
لو كنت مكانهم لوافقت فورا.. فأنا أعرف قدر الإنسان جيدا.
صمتت ملكة الغربان برهة كأنها تفكر، ثم قالت:
ـ أما إذا رأت الحيوانات رأيا آخر، في هذه الحالة سيكون لك الحق أن تفعل أي شي لتجبرهم على طاعتك.
اندهش الولد، فما الذي يجبر الحيوانات على طاعته وتنصيبه سيدا للجزيرة.. قالت ملكة الغربان:
ـ يمكنك كما صنعت بيوتا وحظائر أن تصنع أقفاصا وتحبس الحيوانات فيها، وكما صنعت السد ليحميهم من الفيضان، يمكنك أن تهدمه لتغرق الجزيرة ويعترفوا بك سيدا للجزيرة، وأنا على أتم الاستعداد لمساعدتك.
انزعج الولد حين تخيل الجزيرة تغرق وتتهدم البيوت والأشجار وتموت المزروعات والأزهار.. نظر بدهشة وذهول وشعر بالندم، وقال:
- لكن هذه الأفكار ستدمر الجزيرة وتجعلها خرابا.
همست ملكة الغربان في أذن الولد تريد أن تقنعه وقالت :
ـ يا صديقي الخير والشر وجهان لعملة واحدة.. وحين تصبح سيدا للجزيرة ستعيد بناء السد من جديد وتجعل الجزيرة أجمل مما كانت عليه.
اطمأنت ملكة الغربان حين رأت الفكرة تلمع في عيني الولد وتحوم حول رأسه كطيور صغيرة.. وغادرت الجزيرة لتخبر صديقها الذئب وترشده إلى طريق الجزيرة لتكمل خطة الشر التي وضعتها.
بينما وقف الولد حائر مترددا، تتلاعب به الأفكار وتقذفه في شتي الاتجاهات، حتى قرر أن يطرح الفكرة على الحيوانات والطيور ويخبرهم أنه يريد أن يصبح سيدا للجزيرة.
لم تمانع الحيوانات أن يصبح للجزيرة سيد يحكمها ويدير شؤونها وينظم العمل بها.. لكن كل حيوان من حيواناتها رأي في نفسه أنه الأحق بأن يصبح سيدا للجزيرة، واتفقت الحيوانات على أنه لا يمكن اختيار كائن لا ينتمي إلي عالم الحيوان ليكون سيدا عليهم.
طال الجدال بين الولد والحيوانات وبين الحيوانات بعضها بعضا، وارتفعت الأصوات في نقاش حاد كاد أن يصل بالحيوانات إلي التصارع فيما بينها.. امتص شيخ الغزلان غضب الولد وثورة الحيوانات في مهدها وقال:
ـ منذ أتينا إلي الجزيرة ونحن نعيش معا لا فرق بين حيوان وآخر.. وعلينا أن ننسى هذه الفكرة ونبعدها عن رؤوسنا حتى لا تتسبب في زرع الفتنة بيننا.
وافقت الحيوانات بعد نقاش ومجادلة على رأي شيخ الغزلان منعا للفتنة وانصرف الولد غاضبا تطارده أفكار ملكة الغربان الشريرة، فلا أحد من الحيوانات قدر ما قام به من عمل لصالح الجزيرة، واعتبرت الحيوانات عدم انتسابه لعالم الحيوان وانتماءه لبني الإنسان سببا كفيلا بحرمانه من أن يصبح سيدا للجزيرة.
(4 )
حان موسم حرث الأرض وزراعتها.. مرت أيام ومازال الولد غاضبا ورفض أن يساعد الحيوانات ويزرع الأرض ورفض أن يساعد الحيوانات ويزرع الأرض ولم يعد يتبادل الكلام معهم. وذات مساء سمعت الحيوانات عواء الذئب ونعيق الغربان.. ساد الرعب والخوف الجزيرة.. توقع الجميع أن تزرع ملكة الغربانـ المعروفة بخبثها وغدرها وإيقاعها بين الحيواناتــ الشر بالجزيرة.
فرت الطيور مذعورة إلي أقنانها، وهربت الحيوانات إلي بيوتها وأوديته، بينما ودعت ملكة الغربان صديقها الذئب وقالت إنها ستقوم بمهمة شريرة في الغابة وحين تعود تريد أن تسمع أخبارا جيدة، قال الذئب بثقة:
ـ اطمئني يا صديقتي.. سأبذل قصارى جهدي..
أسرعت الظبية الطيبة تستنجد بالولد لينقذهم من ملكة الغربان والذئب بعد أن دخلا الجزيرة وسببا الرعب لأهلها.. لكن الولد لم يهتم.
قال إن ملكة الغربان لو كانت تعيش معهم لما اعترضت على اختياره سيدا للجزيرة، أنه لا ينتمي إلى عالم الحيوان ولا يهمه أمرهم.
شعرت الظبية بالأسى، دمعت عيناها وقالت:
ـ صحيح أنك لست من قطيع الغزلان ولا تنتمي إلي عالم الحيوان، لكن ذلك لا يعني شيئا، أنا أمك التي أرضعتك وربتك، ولي حق عليك.
وتركته وانصرفت إلي وادي الغزلان حزينة.
وفي اليوم التالي بينما كانت كلمات أمه الظبية تشق طريقها إلي قلبه، سمع الولد أن الذئب التهم إحدى الماعز وعددا من الدواجن وخمش بمخالبه رقبة الزرافة الجميلة.
شعر الولد بالقلق والخوف على أصحابه من الحيوانات، ووجد أن هناك واجبا ملقى على عاتقه تجاههم مهما كان غاضبا.
ففي المحن علينا أن ننسي خلافاتنا ونتحد لمواجهة الأخطار، وقرر أن يسرع ويمضي إليهم.
كانت الحيوانات والطيور في اجتماع ليروا ماذا سيفعلون.. فالجزيرة لم تعد آمنة، والشر فتح فكيه ورش الرعب في أرضها.. وقف أحد خراف وادي الماعز وقال:
ـ من اليوم لن يغادر أحد واديه.
ثار شيخ الغزلان غاضبا وقال:
ـ حتى إن بقينا في أوديتنا من يضمن ألا يهاجمنا الذئب.
وقالت النعامة وهى ترتعد خوفا:
ـ إذا أردنا النجاة لابد أن نترك جزيرتنا ونبحث عن مكان آخر.
سمع الولد كلمات النعامة الخائفة ولم يعجبه استسلامها ورغبيها في الهروب، صاح الولد وقال:
ـ هذا المكان لنا نحميه وندافع عنه بأنفسنا وأرواحنا..
قاطعت النعامة الولد وقالت:
ـ وماذا نفعل بعد أن هاجمنا الذئب، هل ننتظر حتى يلتهمنا واحدا بعد الآخر؟!
أيد الأرنب ما قالته النعامة وقال:
ـ النعامة معها حق.. لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الذئب وملكة الغربان.
نظر صاحب الغزلان إلي الحيوانات وصاح فيهم:
ـ هذا الكلام غير صحيح، قوة عدونا من ضعفنا واستسلامنا.. ولو تركنا جزيرتنا سيطاردنا الشر أينما ذهبنا.. دعوا خوفكم ولتكن قلوبكم كالحديد وقرونكم أحد من السيوف والرماح واتحدوا معا، ساعتها سننتصر على الشر ونطرده من جزيرتنا.
دب الحماس في القلوب.. هتفت الحيوانات في صوت واحد:
ـ سندافع عن وطننا مهما كان الثمن.
قاطع الولد الحيوانات والطيور وقال إنه لا وقت لديهم إلا للعمل والاستعداد لمواجهة الذئب، وفكر في الخطة التي سيقاتلون بها الذئب، ثم شرحها للحيوانات وقال إنهم سيختبئون جميعا عن عيني الذئب الحمراوين بحيث إذا هاجم أوديتهم وجدها خالية، حتى يقرصه الجوع وينهكه التعب ويصبح كالمجنون لا يفكر إلا في إشباع جوعه.. حينها تطير الحمامة بصحبتها أحد العصافير ويقفان فوق شجرة بالقرب من الذئب ويتصنعان أنهما لا يريانه، ويتحدثان بصوت يسمعه، وتخبر الحمامة العصفور أن الحيوانات تختبئ في وادي النعام بعيدا عن عيني الذئب الشرير.. قاطع الحمار الولد وقال:
ـ ساعتها سيعرف الذئب طريقنا ويهاجمنا هناك!
ضحك الولد وقال للحمار إنه يتعجل ولا يحسن الاستماع.. ستكون الحيوانات مختبئة في جبل الجزيرة البعيد وتظهر الأرانب بوادي النعام أمام الذئب ليطاردهم هناك.. حينها تهرب الأرانب إلي الجحور وسيظل الذئب مشغولا بالبحث عن طريقة لإمساك بالأرانب وإشباع جوعه ويبقي هناك لأطول وقت ممكن.. وفي هذه الأثناء تقوم الحيوانات بالتسلل من الجبل البعيد دون أن يشعر بها الذئب وتذهب إلى وادي الغزلان وتحفر حفرة كبيرة وعميقة تغطيها بأغصان الأشجار والأوراق وتبقى الحيوانات بالوادي.. بينما تنتظر الغزلان عند مدخل الوادي وحين يهاجمها الذئب تجري الغزلان وتقفز من فوق الأغصان وأوراق الأشجار التي تغطي الحفرة.
وحينها سيكون الذئب منهكا من التعب والجوع ويسقط في الحفرة العميقة ونرتاح من شره.
نفذت الحيوانات الخطة كما رسمها الولد.. قامت الأرانب بدورها بشجاعة رغم ما اشتهر عنها من جبن، وظل الذئب ينتقل من جحر إلى جحر دون أن يستطيع الإمساك بأحدها حتى أنهكه التعب، فرقد على الأرض وتصنع الموت مثل خدعة صديقه الثعلب الشهيرة، ربما تأمن الأرانب وتخرج من جحورها.
عادت ملكة الغربان الشريرة إلي الجزيرة ووجدت الحيوانات مجتمعين بوادي النعام.. نعقت ملكة الغربان على صديقها الذئب وقالت:
ـ لما ترقد هكذا أيها الكسول؟!
همس الذئب حتى كادت ملكة الغربان لا تسمع عواءه وقال:
ـ اصمتي.. الأرانب تختبئ في الجحور وأنا جائع، منذ أيام لم أذق طعاما.
اغتاظت ملكة الغربان الشريرة من غباء صديقها وجذبته بمخالبها وقالت:
ـ يا أحمق، ترقد هنا وتتصنع الموت لتطارد الأرانب بينما الحيوانات أمامك بوادي الغزلان.
انتفض الذئب واقفا وهرول إلى وادي الغزلان، بينما ملكة الغربان تلاحقه بنعيقها.. وما إن لمح قطيع الغزلان حتى ركض بكل قواه خلفهم، فقفزوا من فوق الحفرة التي غطتها الأغصان، وأعمي الشر والطمع والجوع الذئب فسقط فيها.
نعقت ملكة الغربان وحلقت عاليا حين شاهدت الذئب يسقط في الحفرة وقالت:
- يا لك من أحمق.. قادك حمقك إلى الهلاك.
حلقت طيور الجزيرة في أسراب وطاردت ملكة الغربان وغربانها السود حتى هربوا من الجزيرة، وحملت حيوانات الجزيرة الولد الذي استطاع أن يخلصهم من شر ملكة الغربان وصديقها الذئب وظلوا يرقصون ويغنون فرحا بالنصر وقرروا منح صاحب الغزلان لقب سيد الجزيرة مكافأة لإنقاذه الجزيرة من شر ملكة الغربان والذئب الشرير.. فلا أحد غيره جدير بهذا اللقب.
ومن حينها تعيش الحيوانات والطيور مع صاحب الغزلان في حب وسلام بجزيرتهم الآمنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق