الفقمة
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــــــــ
منذ أن جاءوا به ، حوالي المساء
، قبل ثلاثة أيام ، وهو يرقد محموماً ، يهذي في فراشه ، دون أن يعي ما يدور حوله .
وخلال هذه الأيام الثلاثة ، لم تفارقه أمه ، لا في الليل ، ولا في النهار ،
تساعدها ابنة عمه الشابة ، التي كانت تسكن مع والديها ، في بيت قريب .
وفي هذيانه المحموم ، كان الفتى يردد كلمات مضطربة ، لا رابط بينها ، البحر
.. الأمواج .. الفقمة .. القارب ، ويصرخ مستغيثاً ، ثم يهدأ لحظات ، ليبدأ من جديد
هذيانه المحموم ، وكلماته المضطربة .
وتصغي أمه إليه ، قلقة دامعة العينين ، وتتوسل إلى إله البحر ، الذي يسبح
عارياً في الأعماق ، ويثير الأمواج ، أن يرأف به ، ويعيده إليها معافى ، بعد أن
انتشله من بين الأمواج ، ولم يترك تلك الفقمة اللعينة ، التي قلبت قاربه ، أن
تغرقه في الأعماق .
وتحدق أمه فيه ، بعينيها المحبتين الغارقتين بالدموع ، آه إنه عنيد كأبيه ،
وسينتهي يوماً كما انتهى أبوه ، بين أمواج البحر ، التي يثيره إله البحر المرح ،
وهو يحاول اصطياد فقمة ضخمة ، يظن أن لا مثيل لها ، في المنطقة المتجمدة كلها .
وبعد مساء هذا اليوم ، أغمضت الأم عينيها الدامعتين المتعبتين ، وأغفت على
الرغم منها ، بعد أن هدأ الفتى قليلاً ، واستغرق في النوم .
وأفاقت الأم على دبيب الفتاة الشابة ، وهي تقترب منها ، ورفعت رأسها إليها
، فقالت الفتاة بصوت خافت : عفواً ، لقد أيقظتك .
وقالت الأم مغالبة النعاس : لا عليكِ ، يا بنيتي ، هذا وقت العشاء ، سأعد
له بعض الحساء ، لعله يأكل شيئاً منه إذا استيقظ .
ومالت الفتاة الشابة عليها ، وقالت بصوت خافت : دعي هذا الآن ، لقد أعددتُ
له حساء أرانب ، إنه يحب هذا النوع من الحساء .
وابتسمت الأم ، وقالت بصوت خافت : سيؤنبك أبوك ، فأنت تقضين على الأرانب ،
التي اصطادها في جولاته وسط الغابة .
وابتسمت الفتاة ، وقد توردت وجنتاها ، وقالت : ليؤنبني ، مادام ابن عمي
سيشفى ، وينهض سالماً .
وهنا تململ الفتى ، فالتفتت الأم إليه ، وقالت : انظري ، يا بنيتي ، انه
يفيق .
وفتح الفتى عينيه ، وقال بصوت محموم مضطرب : تلك الفقمة اللعينة ، ربما
كانت هي نفس الفقمة ، التي أغرقت أبي .
ومالت أمه عليه ، وقالت : بنيّ ، دع ِ الفقمة الآن ، أنت لم تأكل شيئاً منذ
يومين .
والتمعت عيناه ، وهو يحدق في الفراغ ، وقال بصوت محموم : سأقتلها .. تلك
الفقمة اللعينة .. لابدّ أن أقتلها .. مهما كلفني الأمر .
وتمتمت الأم بصوت باكٍ : بنيّ ..
وغرق صوتها في الدموع ، فمالت الفتاة الشابة عليه ، وقال : جئتك بحساء تحبه
، أعددته لك بنفسي ، حساء أرانب ، كلْ شيئاً منه ، وسترتاح .
وتطلع الفتى إليها ، بعينيه المضببتين المحمومتين ، وقال : لن أرتاح .. إذا
لم أقتل تلك الفقمة .
كادت الأم أن تجهش بالبكاء ، لكن الفتاة الشابة أسرعت ، وجاءت بإناء الحساء
، وغرفت منه ملعقة ، أدنتها من فم الفتى ، وهي تقول بصوت هادىء : تذوق الحساء ،
سيعجبك جداً .
وعلى غير ما توقعت الأم ، فتح الفتى فمه ، ورشف الحساء ، وهو يتمتم :
سأقتلها .
وقالت الأم للفتاة الشابة متحمسة : إنه يأكل ، عجلي بملعقة أخرى من الحساء
.
وبسرعة غرفت الفتاة ، ملعقة أخرى من الحساء ، ودستها في فم الفتى ، فابتلع
الحساء ، وهو يقول : تلك الفقمة .. لن تفلت مني .
وبدل أن يستمر الفتى في ارتشاف الحساء ، همّ أن ينهض من فراشه ، لكن أمه
طوقته بذراعيها ، وهي تقول بصوت باكٍ : لا يا بنيّ ، ابقَ في مكانك ، أنت متعب ،
وبحاجة إلى الراحة .
وتمدد الفتى في فراشه ، وأخذ يهدأ شيئاً فشيئاً ، وهو يهذي محموماً :
سأقتلها .. تلك الفقمة اللعينة .. سأقتلها .. سأقتلها .. سأقتلها .
" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
هذه الليلة ، جاءت الفتاة
الشابة حوالي العشاء ، ورأت الأم تجلس على طرف فراش ابنها ، وهي تغالب النعاس ،
فمدت يدها ، ولمستها برفق .
وفتحت الأم عينيها الناعستين المتعبتين ، وقالت : آه بنيتي ، أهلاً ، أهلاً
بكِ .
وقالت الفتاة بصوت خافت : تبدين متعبة ، يا خالتي ، اذهبي إلى فراشك ،
وارتاحي قليلاً ، سأبقى أنا إلى جانبه ، وسأوقظك إذا أفاق .
ونهضت الأم متحاملة على نفسها ، وقالت بصوت خافت ناعس : أيقظيني إذا تأخرتُ
في النوم ، حتى وإن لم يفق ، لتعودي إلى البيت .
فهزت الفتاة الشابة رأسها ، وقالت بصوت خافت : حسن ، اذهبي وارتاحي .
وذهبت الأم إلى فراشها ، في الغرفة المجاورة ، تكاد تتعثر بنعاسها ، وجلست
الفتاة الشابة على طرف الفراش ، وراحت تتأمل الفتى ابن عمها .
وتململ الفتى في منامه متأوهاً ، وخفق قلب الفتاة الشابة قلقاً وإشفاقاً ،
وفتح الفتى عينيه ، وشيء من الرعب يلمع في أعماقهما ، فمالت عليه الفتاة الشابة ،
وقالت : اعتدل قليلاً ، سآتيك ببعض الماء .
ومدّ الفتى يده ، وأمسك يد الفتاة ، وهو يتمتم : لا ، لا أريد ماء ، ابقي إلى
جانبي .
وشدت الفتاة الشابة على يده ، وقالت : اطمئن ، إنني إلى جانبك ، وسأبقى إلى
جانبك دائماً .
ونظر الفتى إليها ، وقال بصوت محموم : في منامي ، رأيتُ الفقمة اللعينة .
وقالت الفتاة الشابة : دعكَ من هذه الفقمة ، المستقبل أمامكَ ، ستصطاد أفضل
منها .
ولاذ الفتى بالصمت لحظات ، ثم قال : أبي كان صياداً ، لكن عمي ، أباكِ ، هو الصياد البارز .
وابتسمت الفتاة الشابة ، وقالت : ستكون مثله ، بل وأفضل ، أنت ما تزال
شاباً .
ونظر الفتى إليها ، وقال : أبي قتلته فقمة ..
وقاطعته الفتاة الشابة قائلة : قال أبي ، إنها كانت ضخمة وشرسة جداً .
وقال الفتى : لعلها مثل الفقمة التي ضربت قاربي ، وقلبته في الماء ، وكادت
أن تقتلني .
وأبرقت عيناه ، فشعرت الفتاة الشابة بالخوف ، ثم تابع قائلاً : لن تفلت مني
، سأثأر لأبي ، فقد تكون هي نفسها ، التي قتلت أبي .
ومن بين أسنانه ، راح الفتى يقول : سأطاردها ، حتى نهاية العالم ، وسأقتلها
، سأقتلها .
وارتمى على فراشه ، وهو يئن متوجعاً ، وراح صوته يخفت شيئاً فشيئاً ، حتى
غدا أنيناً متوجعاً ، ثم هدأ واستغرق في النوم .
" 3 "
ـــــــــــــــــــ
فزّت الأم صباحاً ، كأن أحداً
هزها بقوة ليوقظها ، فأسرعت راكضة إلى غرفة ابنها ، وكاد قلبها أن يتوقف ، عندما وجدت فراشه خال ٍ .
ترى أين ذهب ؟
وتلفتت حولها منصتة ، كانت الريح تعوي في الخارج ، كقطيع من الذئاب الجائعة ، إنه يوم يبقى الصيادون فيه ، أسرى بيوتهم ،
فالبحر خطر للغاية ، خاصة وأن إله البحر يلهو بإثارة الأمواج ، يداعب بها الدلافين
والفقمات ، والحيتان ، وكذلك الصيادين .
وبحثت عنه عبثاً ، في أرجاء البيت ، وحين عرفت أن عدة الصيد قد اختفت ، أسرعت إلى بيت عمه ، لعلها تجده هناك .
وفوجىء عمه بالأمر ، وتساءل ، وابنته تقف مذهولة أمامه ، ترى أين يمكن أن
يكون قد ذهب ، في مثل هذا الجو العاصف ؟
وخطر له ، إنه ربما ذهب إلى البحر ، عندما أخبرته الأم باختفاء عدة الصيد ،
وتأكدت ظنونه عندما لم يجد قارب الصيد في مكانه من الشاطىء ، يا للجنون ، أيعقل
أنه ذهب إلى البحر ؟
وعلى الفور ، ورغم المخاطر الشديدة ، استقل العم قاربه ، يرافقه ثلاثة من
أصدقائه الصيادين الأشداء ، وانطلقوا إلى عرض البحر .
وعند منتصف النهار ، لاح لهم ، من بعيد ، قارب يطفو بين الأمواج المتصارعة
، التي يثيرها الإله ، فأسرعوا إليه ،
يصارعون الأمواج المجنونة ، وإذا الفتى يقف محموماً وسط قاربه ، وإلى جانب القارب
تطفو فقمة ضخمة جداً ، وقد انغرزت في ظهرها عميقاً حربة مشدود إليها حبل طويل
وقويّ .
ولاحظ العم ، في عنق الفقمة جرحاً عميقاً ، حديث العهد ، ترى أهذه الفقمة ،
هي نفس الفقمة ، التي كادت تغرق الفتى قبل أيام ؟ من يدري .
وقبيل المساء ، وقفت الأم والفتاة ، عند شاطىء البحر ، ورأتا الجميع يعودون
سالمين من البحر ، ومعهم قارب الفتى ، وإلى جانبه تطفو فقمة ضخمة جداً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق