الجمعة، 17 فبراير 2012

"طيبة في وادي الأسرار " رواية للفتيان بقلم: ضرغام فاضل

طيبة في وادي الأسرار
 ضرغام فاضل
((طيبة)).. هذا هو اسم بطلة قصتنا.. فتاة يافعة في أحلى سني عمرها.. فقدت أمها وهي طفلة..جميلة الوجه ..صادقة مع نفسها والآخرين. طيبة تحب الخير لكل الناس.. لأنها تعشق كل الناس. وهذا ما جعل الناس يبادلونها الحب والمودة.
والد طيبة فلاح طيب.. يخرج كل يوم ليحرث الأرض ويزرعها،وليعود بعد التعب فيجد ابنته الوحيدة قد أعدت له ما يأكله.
 طيبة.. ربة بيت ممتازة.
كان كل شيء يسير طبيعياً.. حتى جاء ذلك اليوم..عندما طرق باب البيت المتواضع بشدة ..ضربات متتالية ..لم تسمعها طيبة من قبل ..لأنها تعرف جيدا وتميز ضربات الباب عندما يكون أبوها هو الطارق ..لكنها تأكدت من أن الطارق هذه المرة ليس أباها ..عندما سمعت صوتا من الخارج يقول :
-(( افتحي يا طيبة..))
ارتعش صوتهاوهي تسأل:
- من ؟؟
أجاب الطارق:
- افتحي الباب ..بسرعة ..
هرعت طيبة نحو الباب وفتحته. ..وإذا بشخصين يمسكان بأبيها وهو مغمى عليه .أحدهما تعرفه ..إنه الشيخ مسعود.لم تفهم طيبة أول وهلة ماجرى لأبيها ..نظرت للشيخ مسعود _صديق أبيها- لتستفهم منه ..فطمنها الأخير وهو يحاول أن يخفي حزنه وقلقه على صديق الطفولة:
- لا تقلقي.. سيكون بخير إن شاءالله..
سألته طيبة :
- ماذا حدث له ياعمي ؟
أجابها:
- لقد رأيناه مغمى عليه.يبدو أن التعب والإرهاق قد أثقلا كاهله.
رد الآخر :
- أنا الذي رأيته فقد كان ملقىً على أرضه.. فسارعت الى نجدته في الحال.
طيبة: بارك الله فيكما..
مسعود: والآن .. أعدي له فراشه بسرعة.
طيبة: حاضر..
هرعت طيبة إلى غرفة أبيها ووظبت فراش سريره بسرعة ..وراحت الدموع تترقرق في عينيها الجميلتين, وهي ترى أباها يمدد كالجثة الهامدة على فراشه ..لم تتماسك نفسها ..فارتمت على صدره منفجرة في البكاء:
- أبي.. أجبني أرجوك.. أبي ..
ربت الشيخ مسعود على كتفها قائلا:
- دعيه يستريح ياابنتي وسيكون بألف خير ..
وراحت تمسد على جبينه المبلل بالعرق, والكلمات تتلعثم بين شفتيها:
_((ستشفى باذن الله ياأبي.. فأنا لاأملك سواك في هذه الدنيا))
خرج الشيخ مسعود والفلاح الآخر .ليتركا طيبة أمام الأمر الواقع ..ومع أحزانها ,ومصيبتها الجديدة .
أيام حزينة
مرت أيام وليال، والأب على هذه الحال.. لا يتكلم .. ولا يتحرك. ولقد عجز حكماء القرية بما يملكونه من خبرة بسيطة في الطب عن معرفة سبب مرضه ..أما الأرض فقد يبس الزرع فيها تماما.. وجفت الجداول الصغيرة..وليس أمام طيبة سوى الصبر,وملازمة أبيها والآعتناء به ..تحولت الابتسامة التي كانت تلازمها إلى دمعات ..وهي لاتدري ماذا تنتظر..كل أيامها وساعاتها تحولت إلى حزن كئيب..
وهاهو اليوم كالذي سبقه.. تضع يدها على خدها، وتجلس قبالة السرير الذي يتمدد عليه والدها وعيناها مغرورقتان بدموع ناعمة.
وبينما هي كذلك واذا بصوت الباب يفزعها.. - ياالهي.. من يكون الطارق ياترى؟
نهضت لتقترب من الباب ..عله العم مسعود جاء يحمل لها بصيصا من الأمل ..
- من في الباب؟
- سألت .. لكن لاأحدا يجيب ..لاشيء سوى ضربات مستمرة ..
- من الطارق؟؟
-افتحي الباب.
-من أنت ؟
- أنا بائع اللبن ومعي الخباز.
- شكراً ..لا نريد.
- قلت لك افتحي الباب.
فكرت قليلا قبل أن تفتح الباب ..ربما يحمل هذان الشخصان خبرا ..أو أملا يساعد أباها في الشفاء ..ففتحت الباب قليلا .. ولكنها سمعت شيئا غير الذي كانت تنتظره ..عندما سألت: (( هل هناك شيء جديد ؟؟))
أجابها بائع اللبن :
- أريد ديني من فضلك ..
وانبرى صوت الخباز ليقول :
- وأنا كذلك ..فأنتم منذ شهركامل تأكلون بالدين ..
صعقت طيبة لما سمعته ..لم تكن تتوقع هذا أبدا ..ولم يكن في الحسبان ..ولكن ماالعمل الآن ؟؟
بلعت ريقها ..وأجابتهما بخجل ..محاولة إثارة الشفقة فيهما :
- أرجوكما.. والدي مريض، وليس بمقدوري عمل شيء حتى شفائه.
لكن أحدهما لم يستطع أن يخفي وقاحته وصراحته الجارحة, حين قال لها :
- ولكننا سمعنا أنه لن يشفى ,وقد صار مقعدا ..كيف نضمن أنك ستسددين لنا مستحقاتنا ؟؟
- ولكن..
قالتها طيبة ..ثم لاتدري ماذا تكمل ..لكنها كانت تفكر بما سمعته من الرجل ..
- لذلك جئنا لنعرف كيف ستتصرفين بهذا الأمر ..
لم تعر أهمية لما سمعته ..بل إنها لم تسمعه بالفعل ..فما زالت كلمات الرجل تتردد على مسامعها ..(( لن يشفى ..صار مقعدا ..لن يشفى... صار مقعدا ....)) .
تركها الرجلان ..وبوقاحته المعهودة أبلغها البائع بأنه والخباز سيتوقفان عن تزويدهما باللبن والخبز حتى تتصرف ..أغلقت خلفها الباب ..واتكأت عليه ..ثم ارتمت ساقطة على الأرض ..جاهشة بالبكاء ..الذي كتمته أمام الرجلين خجلا وحياء..
- يا رب.. ساعدني, ماذا أفعل؟
كفكفت دموعها. ثم اتجهت صوب غرفة أبيها.. وجلست عند سريره.كان الأب قد اغرورقت عيناه بالدموع ,وهو يرى ابنته المدللة أمام مصيبة لم يحسب لها حسابا ..أمسكت طيبة بيد أبيها ,وهي تتمتم :
_ (( لا عليك ياأبي.. كل شيء مقدور عليه, وستشفى باذن الله)).
وعندما سادت لحظات الصمت ..سمعت ضربات على الباب من جديد ..ففكرت .
_(( ياإلهي ..أيعقل أن عاد المزعجان مرة أخرى؟؟ )).
نهضت وقد عزمت على أن تسمعهما كلمات جارحة هذه المرة ,لأنهما عديما النخوة, ولايعرفان للشهامة أي معنى .
وصلت إلى الباب ووقفت خلفه ..وراحت الكلمات تخرج من فمها بنبرة حزينة :
- أرجوكم ارحموني.. بدل أن تقدموا لي يد المساعدة.. تطالبون بديونكم.. كفوا عني. اغربوا عن وجهي الساعة ..
- أنا عمك مسعود يا طيبة.
جاءها الصوت من الخارج . فمسحت الدموع من عينيها بسرعة ..وفتحت الباب.
- آسفة ياعمي ..تفضل.
دخل الشيخ مسعود متكئا على عصاه بسبب العجز الذي أصاب رجله منذ سنوات ..وهو يستفسر مستغربا :
- ما الذي حدث يا ابنتي؟
أجابت طيبة :
- أعتذر ياعمي.. ظننتك واحدا منهم.
لم يكن يريد أن يجرحها ..أو يمس كبرياءها ..فقد جرب مرة عندما أعطاها مبلغا لتتدبر أمورها ..فرفضته بشدة ..واعتبرته انتقاصا منها ومن كرامتها ..نظر إليها ..واكتفى بالقول :
- كان الله في عونك.
ثم توجه نحو غرفة الأب المقعد..وجلس على السرير إلى جانبه..
- كيف حالك يا صديقي؟
فتح الأب عينيه الحزينتين ..ونظر للشيخ مسعود نظرة يائسة ..ثم ماعاود أن أغمضهما ..مد مسعود يده وربت على يدي الأب الذي كان يضعهما على صدره ..واستأنف مسعود حديثه مصبرا صديقه:
- ستشفى باذن الله..
- همست طيبة للشيخ بعد أن لاحظت شيئا على وجهه:
- أرى في عينيك كلاما ياعمي مسعود. أليس كذلك؟؟
نهض الشيخ مسعود من مكانه ,,ومشي عدة خطوات في محاولة للابتعاد عن مسامع الأب ..أدركت طيبة مايريده الشيخ مسعود فلحقته لتسأله:
- لقد وعدتني أن تزور حكيم القرية المجاورة.. هل زرته؟
توقف الشيخ في أحد زوايا الغرفة الكئيبة,وهو يتلعثم ..لا يدري بم يجيب ..ثم أومأ لها بأنه فعل ذلك .
- وماذا قال؟
سألته ..لكن ملامح الشيخ مسعود كانت خير معبر عما يجول في قلبه ..ونفسه ..وخصوصا بعد أن أتبعها بأنفاس الحسرة ..وهنا شعرت طيبة باليأس يتسلل إليها ..وكالعادة بدأت الدموع تأخذ محلها الجديد على خديها ..وهي تتمتم مقنعة نفسها :
- لاأمل ..أعرف ذلك .
مسعود: لا تيأسي من رحمة الله يا طيبة.
طيبة: ونعم بالله.. ولكن أرجوك أن تخبرني عما قاله.
مسعود: لقد أخبرني أن دواء أبيك لا يصفه سوى حكيم هرم يسكن وادي الأسرار.
عاد الأمل من جديد لطيبة ..فهرعت مسرعة لتمسك بيد الشيخ مسعود ..وهي تجره عنوة وتقول:
- وماذا تنتظر؟ هيا لنذهب اليه.. ونحضره حالاً..
سحب العم مسعود يده من بين يدي طيبة ..وربت على كتفها وقال :
- لاتتعجلي.. فالمسألة ليست سهلة كما تتصورين.
فسألت طيبة باستغراب:
- ماذا تقصد؟
أجابها الشيخ مسعود بيأس:
- إنه بعيد جداً عن هذه القرية.. إنه في وادي الأسرار.. والوصول اليه يتطلب القيام برحلة شاقة ,تستغرق أياماًوليالي .. وما أوحشها من ليال! وشخص مثلي أو مثلك لن يقوى على هذه الرحلة.
عاد الحزن يتسلل إلى طيبة وهي تسأل:
- وهل نترك أبي على حالته هذه؟
أجابها:
- نصبر.. فان الله مع الصابرين..
رغم إيمان طيبة بالله تعالى ..وصبرها ..ولكن الصبر فقط لم يكن هو الحل الأمثل لها ..عليها أن تتصرف هي ..راحت تتمشى رواحا ومجيئا في تلك الغرفة الضيقة .تفكر ..ماذا تفعل ..
- بم تفكرين؟؟
- سألهاالشيخ مسعودمستفسرا.كانت طيبة تضرب راحة كفها الأيسر بقبضة يدها اليمنى ,وهي تتمتم : -اذن.. نحتاج الى شاب شجاع قوي ليقوم بهذه المهمة!
رد عليها مسعود بيأس :
- إيه ..وما أصعبها من مهمة!!
سحبت طيبة العم مسعود من يده بخلسة, كي لايحس بهما الأب المريض, متوجهين إلى غرفة الجلوس ..وهي تسأله:
- من هو هذا الشاب؟.. من هو؟ من؟..من؟..
أجابها مسعود بابتسامة مستهزءة:
- لا تتعبي نفسك.. لقد فكرت قبلك.. ولم أجد أحداً يجرؤ على تعريض نفسه للمخاطرة, أو ربما الهلاك.
لم تعر أي أهمية لما سمعته ..لأنها كانت ماتزال تفكر بحل..واستمرت تتمتم :
- شاب شجاع.. شاب قوي.. من؟.. من؟...
- يبدو أنك لم تسمعي ماقلته للتو , كان الله في عونك ,تواجهين قساوة الحياة وأنت في ربيع عمرك..
قفزت طيبة من شدة فرحها وكأنها قد عثرت على حل أو شخص مناسب..صارخة :
- لقد وجدته يا عمي!!
استغرب الشيخ مسعود وسألها:
- وجدته؟! من؟!
اقتربت من الشيخ مسعود وأمسكت بيده من جديد قائلة:
- الشاب الذي سيقوم بهذه .. الرحلة..
زاد استغراب الشيخ مسعود ..لايعرف ماتفكر به هذه الفتاة المسكينة..فعاد ليسألها:
- من هو؟
راحت طيبة تسأل الشيخ بدلع الفتيات المعهود:
- احزر انت ياعم.
- هل هو من قريتنا؟
- طبعاً..
- أعرفه؟
- طبعاً..
- هل هو من الجيران؟
- لا..
لم يأخذ الشيخ مسعود الأمر مأخذ الجد ,لأنه يعرف أن لاأحدا يرضى أن يعرض حياته لهذه المخاطرة ..
اقتربت طيبة من مسعود لتوضح له أكثر :
- إنه موجود هنا ياعمي..
نظر الشيخ مسعود حواليه ..ثم إلى نفسه ..فأدرك ماتعنيه طيبة ..ثم نهض من مكانه مبتسما :
- والله لو كنت قادرا على هذه المهمة ماكنت انتظرت أن أسمعها منك ياابنتي ..فأنا ..أنا .
قاطعته طيبة بضحكة خفيفة:
- لا..لا.. فأنا لم أقصدك طبعاً ياعم. فأنت رجل كبير السن, لا يمكنك أن تتحمل مشاق هذه الرحلة.
هذه المرة استغرب ماسمعه من طيبة وهو يرى جديتها في الكلام . فعادت ثانية لتجلسه محله, وهي تواصل إيضاحها لماتعنيه.
- سيكون أمامك خلال لحظات .. أغمض عينيك..ولا تفتحهما إلا عندما أطلب منك ذلك.
نظر الشيخ مسعود إلى طيبة ..وكأنه يريد أن يقول لها (( كفي ..عن ألغازك .وادخلي بالموضوع مباشرة )).
طلبت منه طيبة أن ينفذ ماطلبته منه مرة أخرى..وفعلا أغمض الشيخ مسعود عينيه ,ولسان حاله يقول: (( أفعل وأمري إلى الله )).
سمع ابتعاد خطواتها عنه وهو مغمض العينين ..بعدها بلحظات ساد فيها الصمت ..ثم انبرى يقول بصوت عال:
- لم أكن أعرف أن في البيت شخصاً غيرنا.. طيبة.. هل تسمعينني؟
ولكن طيبة لم تكن قريبة منه لتسمعه ..فعاد ليقول:
- هل سأظل هكذا فترة طويلة؟.. فالظلمة موحشة.. هل أفتح عيني؟
اقتربت الأقدام منه من جديد ..وسمع صوتا أجش يقول له : (( افتح )) ..
ارتعب الشيخ مسعود من ذلك الصوت ..لم يكن يتوقع أن يجيبه صوت غير صوت طيبة ..وعندما فتح عينيه رأى رجلا ..يرتدي ملابس غريبة ..وله شارب أسود كثيف ..وعلى رأسه قبعة سوداء مرعبة .لم يخف خوفه ..وتلعثمت الكلمات في فمه..
- بسم الله الرحمن الرحيم!! من أنت؟! وأين طيبة؟!
وإذا بالرجل يرد على السؤال بسؤال :
- ومن هي طيبة؟
ارتعش مسعود ..وأحس الرجل برعشته وخوفه ..فما كان منه إلا أن رمى بالقبعة, وتخلى عن الشارب المزيف ..إنها طيبة إذن متنكرة بزي الرجال..قفزت بدلع وهي تسأل :
- هل أخفتك ..لقد نجحت في التنكر إذن ؟؟
التقط الشيخ مسعود أنفاسه ..وأعقبها بابتسامةعريضة, إذ أراد أن يداري خوفه ..فقال:
- هذا أنت؟! لم أعرفك صدقيني!!
- صحيح يا عم؟
ثم توقف عن ابتسامته ..ليسألها بجدية واستغراب:
- ولكن.. ماالذي تفعلينه؟ وماذا تنوين؟
لاتدري بم تجيب ..ولكن ماتعرفه فقط أنها عزمت على القيام بهذه المهمة..بخطوات قصيرة وبطيئة توجهت صوب غرفة الأب ..تبعها الشيخ مسعود..
وعندما صارت قريبة من السرير ..جلست قربه..وراحت تمسد على شعره الأشيب..
- أنا الشاب الذي سيفديك بروحه ياأبي.. كانت أمي رحمها الله تقول لي دائماً.. كنت أتمنى أن يرزقني الله بصبي ..فجئت أنت لتعوضيني عن ألف صبي .
فتح الأب عينيه.. وشد بقبضة يده على كف طيبة ..فماكان من طيبة إلا أن قبلت كف أبيها وهي تطمئنه:
- لا تخف ياأبي..لقد تعلمت منك الشجاعة.. ولن أهاب شيئاً إن شاء الله مادام طريقي لصنع الخير..
تقدم الشيخ مسعود منهما ..ووضع يده على كتف طيبة..وقال:
- لكنك ستقاسين جداً في رحلتك هذه..
ردت طيبة:
- كل شيء يهون في سبيل إنقاذ حياة أبي..
وبدأت الرحلة
تنكرت طيبة بزي الرجال ووضعت على كتفها عصا.. تدلت من مؤخرتها صرة الطعام..واستعدت للرحيل ,كان الشيخ مسعوديقف مودعا.
تقدم منها واضعا يديه على كتفيها ليشد من أزرها :
- أدعو الله أن يوفقك في رحلتك الصعبة هذه يا ابنتي, لتقابلي حكيم وادي الأسرار.
ربتت بيدها على يده وهي تهز براسها ..
- سيتحقق ذلك ان شاء الله ..أوصيك بأبي خيراً يا عمي..
طمأنها الشيخ قائلا:
- سيكون في رعاية الله وحفظه. لا عليك .. رافقتك السلامة..
ابتعدت بضع خطوات ..ثم توقفت لتنظر من جديد إلى الشيخ مسعود ..لكنه أومأ لها برأسه أن ((لاتخشي على أبيك ..سأعتني به )) .
انطلقت طيبة.. مبتعدة عن بيتها..وظل مسعودواقفا على الباب يلوح لها. وابتدأت طيبة رحلتها، قاصدة وادي الأسرار لتقابل حكيمه.
من يراها كان لايشك أبدا في أنها فتاة وليست رجلا ..كانت تضع قبعة سوداء على رأسها ,وشاربا كث الشعر أسود ,ولحية على ذقنها,وترتدي بنطلونا فضفاضا ..وسترة عريضة, أخفت وراءها شكل جسمها الأنثوي ..وعلى كتفها عصا تدلت من مؤخرتها صرة, حملت بها طعاما لرحلة لاتدري كم ستطول ..وأين ستفضي بها ..لكن إيمانها بالله تعالى هو ماهون عليها رحلتها الشاقة هذه .
وبعد مسيرة يومين. استطاعت الفتاة الشجاعة (طيبة) أن تصل الى احدى القرى المأهولة.. ولكن..
هذه القرية يبست أشجارها.. ومات الزرع فيها..ليس هناك مايدل على وجود حياة في هذه الأرض المقفرة ..ترى لم هي حزينة هكذا؟؟ ..سألت طيبة نفسها ..ولكن مالبثت أن سمعت أنينا ضعيفا ..تلفتت باحثة عن مصدر الأنين..وإذا بامرأة ممدة تحت جذع شجرة يابسة..يبدو عليها الإعياء..اقتربت منها قليلا ..فاستطاعت أن تميز ماتهذي به هذه المرأة:
- ماء.. ماء.. ماء..
هرعت إلى نجدتها ..ولكن بحذر شديد ..اقتربت منها أكثر ..وعندما أرادت أن تلقي عليها التحية ..نسيت أول وهلة أمر تنكرها ..فقالت :
- الس...
ثم أدركت بسرعة أن عليها أن تخشن من صوتها كي لاينفضح أمرها.
- السلام عليكم ياأختاه..
- لكن حال المرأة كان لايسمح لها برد التحية ..
- ماء..أريد ماء...
جلست طيبة الى جانب المرأة، وتناولت من صرتها قربة ماء صغيرة.. فتحت غطاءها وناولته للمرأة العطشى :
- تفضلي اشربي
بيد مرتعشة ..تناولت المرأة قربة الماء وراحت تشرب بشراهة. وبعد أن ارتوت: طيبة: هنيئاً.. مريئاً.
أجابتها المرأة:
- جزاك الله خيراً يا ولدي.
ابتسمت طيبة مع نفسها عندما سمعت ماقالته المرأة ..فهذا يعني أن هيئتها تدل على أنها شاب وليس فتاة, وهذا يعني نجاحها في التنكر .وفي هذه اللحظات سمعت على بعد مسافة قريبة منهما صوت رجل يستغيث:
- ماء.. ماء.. سأموت عطشاً..
نهضت وأسرعت لإنقاذه كما فعلت مع المرأة..ومدت إليه يدها بقربة الماء ..
- تفضل يا عمي.. اشرب.. الماء..
تناول الرجل ليأخذ قربة الماء من طيبة ..ارتشف جرعة ثم توقف ليقول شيئاً: – أولادي...أولادي في البيت يموتون عطشاً..
ربتت طيبة على كتف الرجل وهي تقول :
- خذ الماء وأسرع اليهم يا عم..
أسرع الرجل مهرولا وهو يردد((بارك الله فيك.. ستنقذ أطفالي من الموت.. بارك الله فيك.. بارك الله فيك)).
رجعت طيبة لتجلس الى جانب المرأة تحت الشجرة.. وهي ما تزال مستغربة من الأمر.. - لا أكاد أفهم شيئاً!. ماذا يجري هنا؟.
تنهدت المرأة وتنفست الصعداء ..وراحت تحكي لطيبة بنبرة هادئة حزينة :
- إنها مصيبة ياولدي. مصيبة حلت بقريتنا.
ازدادت حيرة طيبة مما تراه وتسمعه ..فسألت:
- أية مصيبة؟!
أتكت المرأة رأسها على جذع الشجرة اليابس, وكأنها تستذكر مواجعها ..ثم بدأت الكلام:
- منذ أيام ونحن على هذه الحال.. لقد جفت أنهار القرية.. ونشفت آبارها..ومات الزرع فيها , ويبست أشجارها.. والحيوانات تموت كل يوم. والشيوخ.. والأطفال المساكين.
سألتها طيبة بصوت خشن:
- وما السبب؟
تابعت المرأة قصتها الحزينة:
- آه لو أن أحداً يعرف السبب، لما كنا في هذه الحال..
وبينما كانت المرأة تروي قصتها على مسامع طيبة ,وإذ بطفلة صغيرة تقترب منهما ,وهي تبكي بحرقة :
- ماء..ماء..أريد ماء..
نادتها طيبة بصوت عال مع ابتسامة:
- تعالي يا صغيرتي..
اقتربت الطفلة من طيبة بخطوات بطيئة.. ((ماء.. إنني عطشانة.. أريد قليلا من الماء.)).
ضمت طيبة الطفلة الى صدرها.. وراحت تفكر..
- ما أقسى الحياة هنا! ما ذنب هؤلاء الأطفال المساكين؟.
لكن بكاء الطفلة وتوسلاتها حال دون أن يدع مجالا لطيبة لتجد جوابا لسؤالها .
- أتوسل اليك ياعمي.. سأموت من العطش.. مثلما مات جدي..
أمسكت طيبة بكتفي الطفلة وهي تسألها بعطف وشفقة :
- هل مات جدك؟
- نعم.. مات من العطش..
قالتها الطفلة ..ثم عادت لتبكي, واضعة رأسها على كتف طيبة التي رق قلبها ..ودمعت عيناها لما رأته وسمعته.لكنها نهضت واقفة ..وراحت تفكر ..
لاحظت المرأة كيف أن الرجل الغريب هذا ( طيبة )) قد تأثر بما رآه..فنهضت من مكانها بعد أن استعادت قواها ..لتقف إلى جانب طيبة ..وتسألها :
- تبدو غريباً.. أليس كذلك؟
أجابتها طيبة بحزن :
- بلى. أنا من قرية السهل الأخضر.. وكنت في طريقي الى وادي الأسرار..
وما إن سمعت المرأة العبارة الأخيرة حتى انبرت قائلة :
- لتقابل الحكيم ؟
وهنا صعقت طيبة لما سمعته من المرأة ,فظنت أنها تعرف شيئا عن قصتها ..ففزعت أول الأمر لكنها تداركت الأمر:
- و..من أخبرك بذلك؟ هل تعرفينني؟!
أجابتها المرأة مبتسمة :
- لا.. ولكن من يريد الوصول الى وادي الأسرار فهذا يعني أنه يريدمقابلة حكيمه .
اطمأنت طيبة وقد دخل الى قلبها بصيص من الأمل.. فأردفت قائلة:
- الحمد لله.. اذن هو طبيب معروف .. ومشهور وسيصف علاج أبي باذن الله..
سألتها المرأة:
- والدك مريض اذن ؟
ردت طيبة بحزن:
- ولا أحد يصف له دواءه غيره.. هكذا أخبروني..
- إنه حكيم مشهور وذو علم وخبرة ..لاأنكر هذا ..ولكن الوصول إليه هو أصعب مافي الأمر ..فالطريق إلى وادي الأسرار لاتخلو من المتاعب والمخاطر.
هزت طيبة رأسها قائلة:
- وحياة أبي غالية عندي.. تستحق المخاطرة.
تنهدت المرأة ..وسحبت نفسا طويلا وحسرة دفينة ..وهي تقول :
- سالم ولدي كان هو أيضاً مصمماً على مقابلة حكيم وادي الأسرار لينقذ قريتنا من العطش. عزم على الرحيل.. ورحل فعلاً.. رحل عنا باحثاً عن وادي الأسرار.. لكنه لم يعد إلينا ..
ثم انفجرت بالبكاء....
المسكينة إذن قد فقدت ابنها الذي أراد إنقاذ القرية ..أعانها الله على المصيبتين ..مصيبة القرية ..ومصيبة ابنها ..وفي هذه اللحظات اقتربت الطفلة من طيبة لتلفت انتباهها إليها وهي تردد:
- ماء..ماء.. سأموت من العطش..
أرادت أن تجلس قربها لتواسيها, لكنها لاحظت أن شيخا هرما يجر نفسه بقدمين لاتقويان على حمله .. ..يدنو منهم بخطوات ثقيلة ..ثم يسقط على الأرض ..هرعت طيبة إليه , أمسكت بيده ,ثم وضعت أذنها على صدره.. عندها عرفت أنه قد مات.. فتصاب بالحزن:(( لاحول ولاقوة إلا بالله )).
هزت المرأة رأسها يائسة وهي تقول:
- هكذا هي الحال كل يوم..ولانملك سوى أن ندعو الله تعالى أن يلهمنا الصبر على مانحن عليه.
نهضت طيبة من مكانها وقد ازداد حزنها حزنا ..وقررت أن تحاول جاهدة أن تساهم في تقديم المساعدة لسكان هذه القرية المنكوبة. وقفت وهي تقول:
- خذي هذا العهد مني ياأختي.. والله عندما سأقابل حكيم وادي الأسرار.. فان سؤالي الأول سيكون عن سر عطش قريتكم قبل أن أعرف مرض أبي..
هزت المرأة رأسها قائلة :
- بارك الله فيك أيها الشاب الطيب.. وكثر الله من أمثالك..والله إن شجاعتك هذه وحماستك ..ذكرتني بولدي حسان ..أدعو الله أن يوفقك في مسعاك الطيب.
لملمت طيبة نفسها وحاجياتها.. مستعدة لمواصلة الرحلة..
- والآن علي أن أواصل رحلتي.. فالمسألة أصبحت أكثر أهمية.
ودعتها المرأة بابتسامة:
- في رعاية الله..
وانطلقت طيبة مواصلة طريقها ..بينما وقفت الطفلة مودعة:
- مع السلامة يا عمي
رجعت طيبة إلى الطفلة لتضمها إلى صدرها مصبرة إياها:
- سأعود اليك بالماء.. انتظريني يا صغيرتي.
أجابتها الطفلة:
- سأنتظرك.. لأنني عطشانة.
قبلتها وابتعدت راحلة باتجاه وادي الأسرار
القرية الضاحكة
أشرقت شمس يوم جديد..
بعد مسافة طويلة قضتها طيبة بين وحشة الطريق وخطورته.. وصلت الى هذا المكان... قرية جميلة. رجال ونساء وأطفال.. ينتشرون في أرجاء القرية وهم يضحكون..
وقفت طيبة تنظر حواليها باندهاش..
- عجباً.. ما بالهم يضحكون؟
اقترب أحد الرجال منها ..وهو يكاد يغص بالضحك..ثم سألها:
- لماذا لا تضحك يارجل؟
استغربت طيبة مما سمعته ..ونظرت حواليها وخلفها ..لتتأكد من أن سؤاله هذا موجه إليها وليس إلى شخص آخر ..ولما لم تجد أحدا غيرها تأكدت أنه يسألها هي..فسألت هي هذه المرة :
- ولماذا أضحك؟
لم يجب الرجل عن سؤالها ..بينما واصل قهقهاته العالية مبتعدا عنها ..
وقفت مذهولة ..تريد تفسيرا لما جرى ويجري أمامها ..وبينما هي كذلك إذ بشخص آخر يتقدم نحوها .. وعندما صار قريبا منها ..ألقى التحية :
- مرحباً أيها الشاب..
أجابت طيبة :
- أهلاً بك..
ثم مالبث أن غص بالضحك بشكل هستيري دون أي مبرر ..على الأقل من وجهة نظر طيبة .. ظل يضحك ويضحك ..بينما طيبة تقف مذهولة ..مستغربة ..أين هي ياترى ؟؟ وماسر هؤلاء الرجال ؟؟ اقترب منها رجل آخر ..وتبعه آخر ..ثم آخر ..صاروا مجموعة كبيرة ..التفوا حول طيبة ..وهم يضحكون بأعلى أصواتهم .. ظلت طيبة تدور حول نفسها ..وتحول الاستغراب إلى خوف ورعب .. ففكرت أنها ربما تكون قد وصلت إلى منطقة استبعدوا فيها المجانين ..ظلت تدور مستعرضة وجوه الرجال ..صرخت بأعلى صوتها :
- ابتعدوا عني ..من يحاول الاقتراب سأضربه بهذه العصا لأهشم رأسه.
اقترب أحد الرجال من طيبة وهولايكاد يسيطر على نفسه من شدة الضحك ..وقال لطيبة :
- لاتخف يارجل ..نحن بشر مثلك ..ولكن فرقنا عنك أننا نضحك ..وأنت لاتضحك ..
ثم انفجر بقهقهات عالية .. فحاولت طيبة استثارة عطفهم وطيبتهم ..إذ سرعان ماقالت معتذرة:
- أعتذر.. ولكنني مستغرب مما يجري هنا.
أجابها الرجل نفسه :
- - ونحن أيضا مستغربون ..
ثم واصل ضحكاته الهستيرية ..حتى لم يعد يسيطر على أعصابه, فسقط على الأرض وقد خارت قواه ..
من دون أن يتقدم منه أحد منهم لمساعدته على النهوض ..لأنهم جميعا يعانون المشكلة نفسها ..
أحد الرجال ممن تبدو عليه ملامح الوقار والهيبة ..تقدم من طيبة المذهولة من المشهد .وراح يحاول إسكات جماعته ..فرفع صوته عاليا موبخا إياهم :
- أرجوكم.. كفوا عن الضحك قليلاً.ألا ترونه غريباً عن قريتنا..
شعرت طيبة بالارتياح والطمأنينة ..وحمدت الله أنها وجدت أخيرا من سيخبرها بحقيقة مايجري حولها.وماكان من الرجل الوقور إلا أن تقدم منها ليسألها:
- أنت غريب عن قريتنا أيها الأخ.. أليس كذلك؟
أجابته طيبة بلهفة :
- بلى يا أخي..
لكن الرجل سرعان ما فقدالسيطرة على جديته, وأطلق ضحكة عالية..
نظرت طيبة إلى شكلها ..ربما تكون الملابس هي السبب ..أو ..أو أي شيء آخر ..ثم سألتهم بحيرة :
- هل تضحكون علي؟!
ومازالوا يضحكون ..فأردفت تسأل من جديد :
- هل هناك ما يضحك؟
لافائدة ..ضحك ..ضحك ..ضحك..فكرت بمايحدث ..لم تجد له تفسيرا ..
- اذن لم يخب ظني.. انكم مجانين فعلاً..
لافائدة ..ضحك ..ضحك ..ضحك..فقررت شيئا.. نظرت لما حولها خائفة من قرارها الجديد .. لكنها عزمت ..وانطلقت بأقصى سرعتها من بين هؤلاء المجانين ..وهي تصرخ :
- من يمسني فلن ينال مني مايرضاه ..
لحق بها الرجال وأحاطوا بها من كل الجهات, سقطت طيبة على الأرض ..وصارت تزحف على قفاها في محاولة للآبتعاد عنهم دون أن تدري ماتفعله ..وصارت ترتعش من الخوف ..وهي ترى مجموعة كبيرة من الرجال يحيطون بها على شكل حلقة ..تصغر شيئا فشيئا ..حتى انقضوا عليها كما تنقض الفريسة على صيدها ..حاولت طيبة أن تفك أيديها منهم..
- اتركوني أرجوكم.. أنا لم أفعل شيئاً .. دعوني وشأني..
أجابها أحدهم وهو يضحك :
- لن نتركك أبداً..
وقال آخر:
- نعم.. لن تفلت منا
وجربت طيبة أن تستخدم أسلوبا آخر للتعامل معهم ,بعد أن فشلت محاولة التهديد ,فصارت تتوسل :
- (( أرجوكم.. أنا غريب.. لست من هذه القرية. وجئت من أجل غرض إنساني, وأحتاج لمساعدتكم ..فأرجو أن لاتخيبوا ظني بكم يا أصحاب النخوة والشهامة)).
سكت الجميع ..بينما راحت هي تستعرض وجوههم ..وهذا ماشجعها على أن تواصل حديثها :
- لماذا تضحكون وتسخرون مني اذن ؟.. صدقوني، لو عرفتم قصتي لما كنتم تضحكون مني بهذه الطريقة..
سألها أحد الرجال:
- وما هي قصتك أيها الغريب؟.. علها تجعلنا نكف عن الضحك..
وقال الآخر:
- نعم.. قص علينا قصتك..
بدأت طيبة بسرد قصتها ..محاولة أن تثير الشفقة في نفوسهم ..مستخدمة تعبيرات حزينة ومؤثرة لتثير عطف هؤلاء ..لكن دموعها كانت تنهمر حقيقية من عينيها, اللتين أذبلهما تعب الرحلة الشاقة ..ولم تنس أيضا سرد قصة القرية التي يموت سكانها كل يوم ..بل كل ساعة, نتيجة نفاد الماء فيها .وبعد أن انتهت..تطلعت للوجوه لترى ردود أفعالهم ..ولكن ماكان من الرجال إلا أن عادوا للضحك من جديد .وعادت طيبة إلى استغرابها مما يحدث. أحد الرجال اقترب من طيبة ..وهو يقول:
- يبدو أن لا جدوى من قصتك الحزينة أيها الشاب الغريب.
هذه المرة دبت الشجاعة في نفس طيبة ..فارتفع صوتها ليعلو على أصواتهم جميعا ..وهي تصرخ :
- انكم فعلاً من غير احساس.. ظننت أن قصتي ستثير عطفكم وشفقتكم.. لكن على ما يبدو أنكم لا تعرفون للشفقة أي معنى ..
ولكن كل محاولاتها هذه كانت من غير فائدة ..وهاهي الضحكات تزداد وتزداد .. في حين أنها لم تعرف للضحك طعما منذ أسابيع كثيرة ..بل على العكس من ذلك تماما .فسقطت على ركبتيها باكية يائسة ..وكالذي يعلن استسلامه تمتمت :
- ساعدوني أرجوكم ..
ولكن رجلا اقترب منها ليقول:
- بل ساعدنا أنت ياأخي..
وأردف الآخر :
- نحن الذين نحتاج الى المساعدة.. ألا ترى؟
استغربت طيبة مما سمعته. ثم نظرت إليهم وكأنها اكتشفت شيئا خطيرا..
كان عجوز هرم قد أعياه الضحك يقف بالقرب منها ..انتبهت لكلماته التي حاول بصعوبة بالغة أن يسمعها إياها:
- نحن من نحتاج لمن يشفق علينا.
نظرت من جديد للموجودين حولها نظرة غير تلك النظرات التي كانت تنظرها من قبل ..
ثم واصل الرجل كلامه ..بشكل متقطع :
- لا تستغرب هكذا.. فالضحك قد أنهك قوانا..
وهاهي طيبة أمام مفاجأة أخرى ,ومصيبة ..بل كارثة أخرى ..وكمن اكتشف شيئا قالت :
- هل تقصدون أنكم مرضى بداء الضحك؟
هز رجل رأسه وهو يقول :
- ساعدنا أيها الطيب.. نتوسل اليك..
صار المنظر معاكسا تماما بالنسبة لطيبة ..فقبل لحظات فقط كان هذا الضحك يثير غضبها..وهاهو الآن يثير شفقتها عليهم ..اقترب رجل بدين متعب منها ..لكنه سقط على الأرض قبل أن يصل إليها ..وراحت الكلمات تخرج من فمه بصعوبة :
- سأموت. . سأموت من الضحك..
اقترب آخر ليجلس بجانب طيبة ويمسك يدها ..كأنما يريد أن يقبلها ..لكنها سحبتها منه بسرعة ..وخاطبها متوسلا :
- لن نتركك، إلا إذا وعدتنا بالمساعدة..نتوسل إليك يا أخي .
اندهشت طيبة ..واستغربت لما يحدث ..لم تسمع من قبل بمثل هذه المصائب ..هل يعقل أن يصاب المرء بداء الضحك إلى درجة مميتة ؟؟ثم لامت نفسها كثيرا لأنها ظنتهم باديء الأمرمجانين ..لكن يبدو أنهم بحاجة لمساعدة كبيرة تنقذهم من هذه الكارثة . قطعت تفكيرها استغاثة أحدهم وهو يصرخ:
- سأموت من الضحك.. أنجدوني ..صارت أحشائي تؤلمني ..
نظرت لرجل بجانبها وكأنها تريد أن تسأله عن كيفية المساعدة ..لكنه قال لها موضحا :
- منذ شهرين ونحن نضحك ..قريتنا كلها تضحك..توقفنا عن العمل ..توقفت الحياة عندنا تماما .
ونظرت لرجل آخر أراد أن يساعد زميله بالحديث بعد أن أدرك أنه غير قادر على المواصلة ..إذ قال :
- حكيم القرية منعنا من تداول الطرف والنكات, أو الاستماع اليها,و نصحنا باستذكار كل ما هو محزن كي ننسى الضحك..
ثم تابع الأول :
- لكن كل هذا من غير فائدة.. فاننا سنموت من الضحك ..ولاندري كيف نفكر بالحل ..لأن الضحك يعيقنا عن هذا .
هزت طيبة رأسها بعد أن فهمت كل شيء ..مصيبة كبيرة ..لاتقوى هي بمفردها أن تعينهم عليها ..وقفت حائرة مذهولة مما سمعته ..وراحت تفكر مع نفسها:
_ (( هذه مأساة حقاً.. لأنهم لا يستطيعون عمل شيء أبداً.. ومن المؤكد أن ليس بمقدور أحدهم أن يصل الى حكيم وادي الأسرار وهو غاص بالضحك هكذا..))
قطعت تفكيرها توسلات من حولها :
(( ساعدنا أيها الطيب)).
(( أنت من سينقذنا )).
(( لقد بعثك الله لإنقاذنا)).
وقفت طيبة وسطهم مصممة على شيء.. وعازمة على تحقيقه.. - اسمعوا ياإخواني.. والله لن أترك وادي الأسرار الا بعد أن يخبرني حكيمه عن سر قريتكم وما أصابها. ولن أعود اليكم الا ومعي حل لهذا اللغز.
فتعالت أصوات أهالي هذه القرية بالشكر :
((شكراً لك أيها الطيب)) .. ((نحن بانتظارك..))
(( لا تنس وعدك)) ..(( ستنقذ القرية من الهلاك..))
لوحت طيبة بيدها ..وهبي توزع ابنساماتها على المودعين :
- سأعود اليكم باذن الله.. انتظروني..
ضيفة على القصر
بعد أن تركت طيبة القرية الضاحكة, و بعد أن وعدت أهلها بمساعدتهم، واصلت رحلتها الطويلة قاصدة وادي الأسرار..بدأ التعب والإرهاق يتسللان إليها ..صارت الخطوات متعبة ثقيلة ..وهي تفكر بمصائب الناس قبل أن تفكر بمصيبتها ..تقطع المسافات تلو المسافات ..تجتاز السهول والجبال ..تعبر الجداول والأنهار ..علها تحظى بلقاء حكيم وادي الأسرار ...
وفي طريقها وقفت طيبة مبهورة أمام قصرفخم وجميل.. يحيط به سور مزركش جذاب يلفت الانتباه.
راحت تستعرض معالم هذا القصر..
((ما شاء الله!. ماأجمل هذا القصر!! وما أبهى منظره!.ترى من يكون صاحبه؟))
ولكنها لاحظت شيئا غريبا ..رغم جمال القصر وجمال عمران هذه المدينة, إلا أن الصمت والهدوء يخيمان عليها ,بحيث تبدو وكأن سكانها قد هجروها ..ترى ماذا ينتظر طيبة ..وبينما هي واقفة مبهورة أمام القصر وإذا بأصوات تتعالى من كل جانب:
((اقبضواعليه.. اقبضوا عليه..))
(( حاصروه من كل الجهات،.. لا تدعوا له مجالاً للهرب))..
وماهي إلا لحظات.. حتى وجدت طيبة نفسها محاصرة من قبل مجموعة كبيرة من الحراس ,فزعت طيبة لهذا المنظر المخيف,فهي لم تفعل شيئا يستدعي القبض عليها ,ومن أين ظهر لها هؤلاء الرجال فجأة ؟؟لكن اثنين من الحراس لم يدعا لها مجالا للتفكير ..حينما تقدما منها شاهرين سيفيهما اللماعين..صرخ بوجهها أحدهما :
_(( حذار أن تتحرك)).
ورد الآخر :
_(( أنت مقبوض عليك بأمر الملك)).
ارتعبت طيبة مما تراه ..وابتلعت ريقها بصعوبة ..وراحت تسأل الحارسين :
- من ..أنا؟ ما الذي فعلته؟
تقدم منها أحد الحارسين ليمسك بذراعها بعنف:
(( هيا أمامنا، لتمثل أمام مولانا الملك)).
ثم تبعه الحارس الآخر ليمسك بالذراع الثاني ..وقاداها باتجاه القصر الفخم, وبقية الحراس كانوا يسيرون خلفهم ..وكأنهم يقودون غنيمة لطالما انتظروها .
وفي القصر كان الملك يجلس حزينا, شارد الذهن, لايدري مايجري في الخارج .. وفجأة تتعالى الأصوات قاطعة أحزانه:(( أنا الذي أمسكت به)),(( لا..أنا الذي رأيته)) , (( سأنال المكافأة)) , (( بل أنا الذي يستحق المكافأة))نهض من كرسيه الفخم ليتبين مايجري ..
- ماذا يجري في الخارج؟ ماهذا الضجيج ؟؟ أيها الحاجب..أيها الحاجب ..
دخل الحاجب والفرحة تعلو محياه .والابتسامة التي على وجهه جعلت الملك يستفسر منه :
- ماذا هناك ياحاجب ,ماهذه الأصوات ؟؟
أجابه الحاجب فرحا :
- البشرى أيها الملك.. لقد قبضوا على المجرم..
جلس الملك على كرسيه بشكل لاإرادي ..غير مصدق ما سمعه ..وبعد أن استوعب جيدا ماأخبره به الحاجب أمره :
-وماذا تنتظر؟ هاتوه إلي حالاً..
- أمر مولاي
خرج الحاجب مسرعا لاحضارالمجرم المزعوم, بينما راح الملك يكلم نفسه وهو يشد على قبضته متوعدا..
(( ستنال مني ما تستحقه أيها المجرم)).
نهض من كرسيه ..ليقطع القاعة الملكية رواحا ومجيئا ..والقلق والغضب باديان عليه ..ثم مالبث أن عاد ليجلس على كرسيه ..لم يدم قلقه طويلا ..إذ دخل الحارسان اللذان قادا طيبة من الخارج, وقد كبلاها بالسلاسل الحديدية ..نهض الملك من كرسيه من فوره ..ليحدق مليا بمعالم الشخص الذي أمسك به الحارسان, رغم أنهما قد قيداه بالسلاسل . وصار يلف حول طيبة والحارسين مستعرضا إياها من أعلى رأسها وحتى أخمص قدمها .
وطيبة في وضع لاتحسد عليه ..ترتعش ..ترتجف ..ترتعد فرائصها .. وبكل سذاجة.. انبرى احد الحارسين قائلا:
- مولاي الملك.. لقد استطعت أن أمسك به.. فأرجو أن تنفذوعدك وتمنحني مكافأتي.
نظر إليه زميله الحارس الآخر ..ليرد عليه :
- ماذا تقول يا رجل؟ أنا الذي أمسكت به.. هل تريد أن تحرمني مكافأة مولانا الملك ؟..
بدأت بينهما مناقشة سخيفة ..دون اكتراث منهما بحرمة المكان :
- لا..لا.. أنا الذي سأنال المكافأة.
- قلت لك.. أنا من أمسكته. ولدي شهود على ما أقول ..
وهنا أمسك أحدهما بذراع طيبة ..ونظر إليها, ثم لزميله الحارس ثم للملك ..وهو يقول:.
اسأله مولاي بنفسك.. وسيخبرك عمن أمسك به.
ثم عاد لينظر إلى طيبة ويوجه لها كلامه :
- تكلم أيها الرجل.. وأخبر مولانا الملك.. من الذي أمسك بك أولاً..أنا أم هذا الرجل ؟
لم يستطع الملك أن يتغاضى عما يجري في حضرته ..فما كان منه إلا أن يوقف هذه المهزلة:
- اخرس أنت وهو.. كيف تجرؤان على هذه المناقشة السخيفة في حضرتي؟؟..
فساد الصمت ..بينما واصل الملك نظراته الثاقبة لطيبة ..وعندما توقف أمامها ..استرجعت طيبة بعضا من جرأتهاوشجاعتها لتقول :
- مولاي..أنا ..
لكن الملك أسكتها هي الأخرى..
- اخرس أنت أيضاً..
أراد الحاجب أن يوضح الأمر للملك ..فتقدم منه قليلا ..وصار يهمس للملك :
- مولاي الملك.. لقد رآه الحراس - وهو يشير بيده الى طيبة- يدور حول القصر، وهو ينظر باتجاه غرفة مولاي الأمير.
رجع الملك ليجلس على كرسيه ، ثم سحب نفسا عميقا ..ومد يده أمامه ليشير بسبابته إلى طيبة ,ويهز برأسه:
- اذن.. أنت؟
وصارت طيبة تتلفت حولها, لا تعرف شيئاً..
- عفواً يا مولاي.. فأنا لا أفهم شيئاً مما يدور حولي.. عن أي مجرم تتحدثون؟
أطلق الملك ضحكة لاتخلو من السخرية ..وبعدها أردف :
- مسكين.. لا يعرف شيئاً.
ثم ثار فجأة بوجهها :
- لا تنكر..أنت من داهم ولدي الأمير بدر وجعله يفقد بصره.
فتحت طيبة فمها مستغربة هذا الاتهام الباطل, وقالت بهدوء :
- صدقني يا مولاي.. لست أنا المقصود. فأنا رجل غريب عن هذه البلدة..
انفجرت ثورة الملك ..وأطلق صرخة عالية :
_((اخرس ))
بعدها بلحظات عاد ليتحدث بنبرة حزينة :
- طبعاً ستكون غريباً عنها. لأنك لو كنت واحداً من رجالها وأبنائها لما فعلت هذه الفعلة الشنعاء.
أيقنت طيبة أن في الأمر لبسا ما ..وأن الملك وحاشيته يقصدون شخصا آخر ..ولكن كيف لها أن تقنعهم ..وبهدوئها المعهود بدأت الكلام :
- أرجوك أن تسمع قصتي..
((اسكت أيها المجرم))
أسكتها الملك مرة أخرى, ثم وجه أمره لحاجبه..
- (( أيها الحاجب.))
- أمر مولاي
كان يأمر الحاجب ..لكن عينيه لم تزلا تنظران بحقد ناحية طيبة :
- ناد على الجلاد، ليجلده مئةجلدة ريثمايعترف، ويخبرنا عمن كان وراء هذه الفعلة الخسيسة..
كان على طيبة أن تتصرف قبل أن تكون أمام أمر واقع لامحالة ..فهاهو الجلاد ضخم الجثة يدخل وبيمينه سوط كبير ..إن الأمر صار حقيقة إذن ..
-(( أمر مولاي ))
قالها الجلاد بانتظار أمر الملك . أشارالملك بأصبعه الى طيبة..قائلا بغضب:
- لقن هذا المشعوذ درساً لن ينساه، وان اعترف فستنال مني ما لا تحلم به..
- أمر مولاي..
ثم توجه الى طيبة وحاول أن يصحبها معه من يدها المكبلة بالسلاسل ,لكن طيبة سحبت يدها منه بقوة صارخة لأول مرة :.
- (( اتركني أرجوك)) ..
ثم ركضت باتجاه الملك..بعد أن أفلتت من بين أيادي الجلاد والحراس بأعجوبة ..وراحت توجه كلامها للملك :
- مولاي الملك.. اسمعني أرجوك.
ثم رفعت يديها المقيدتين لتخلع عن وجهها الشارب واللحى المزيفة .وترفع قبعتها وترميها على الأرض.
نهض الملك من مكانه مذهولا لهذه المفاجأة التي لم يكن يتوقعها ..بينما راح الجميع ينظر بعضهم إلى البعض ,مستغربين هذا المنظر .واستأنفت طيبة كلامها بعد أن عم السكون المكان :
- مولاي الملك.. أنا فتاة ولست رجلاً..
لحظات من الصمت والذهول والدهشة,وقف الملك مذهولا,ثم عاود الجلوس.. وكأنه سقط على كرسيه. بعد أن خاب ظنه بالإمساك بالرجل المطلوب ..ثم أشار للجلاد بمغادرة المكان ..ورجع الحارسان إلى الخلف بانتظار أوامر جديدة من مليكهم .أما طيبة فقد أطرقت برأسها على الأرض خجلا ..نهض الملك من مكانه مجددا ..ليلقي نظراته على طيبة ..وليتأكد مما قالته ..دار حولها خطوات بطيئة ..أما الحارسان فقد أصيبا بخيبة أمل أكبر من تلك التي أصيب بها الملك ..لأن حلمهما بالحصول على المكافأة قد تبدد . وواصلت طيبة كلامها ومايزال رأسها مطرقا ناحية الأرض لحرجها مما حصل:
- أعتذر لما سببته لكم من مشاكل ومتاعب.ولكن صدقني، كنت في طريقي الى وادي ا لأسرار، واذا بقصركم الجميل الفخم يقع أمام ناظري. فصرت أدور حول سوره، أنظر الى جماله وبهائه, مستغربة الحزن والكآبة التي تخيم على هذه المدينة الغريبة .. واذا بالحراس يقبضون علي دون أن أعرف سبب ذلك.
رجع الملك إلى الى كرسيه بخطوات بطيئة من غير أن ينبس بكلمة واحدة... جلس.. ثم وجه أمره الى الحرس:
- فكوا قيدها.
توجه الحارسان لينفذا أمر الملك.بينما أحست طيبة بالارتياح , وهي ترى يديها الناعمتين تتحران . قالت وهي تتحسس رسغيها :
- (( شكراً لك أيها الملك الطيب)).
قالتها طيبة مبتسمة ..بينما أشار الملك للحراس جميعهم بالانصراف..وراحت طيبة تتابعهم بنظراتها ..أما الملك فقد رأى نفسه أمام موضوع آخر عليه أن يناقشه مع طيبة :
- ولكن.. لم أنت متنكرة هكذا بزي الرجال؟
تقدمت طيبة من الملك بضع خطوات, بعد أن شعرت بالارتياح منه..وصارت تتكلم بهدوء أكثر من ذي قبل :
- إنها قصة طويلة يا مولاي.. ولا ينبغي أن أزعجك بسماعها.
ثم أشار الملك بيده قائلا:
- بل شوقتني لسماعها.
طيبة: أنا التي متشوقة لسماع قصة ولدكم الأمير بدر.
تغيرت ملامح الملك الى الحزن. وأسهم بنظراته كمن يتخيل أشياء أمام مرآه. وبدأ بقص حكاية ولده بدر.. كانت الكلمات تخرج من فمه عنوة ..كأنه لايريد أن يستذكر ماجرى ..
- قصة بدر صارت على كل لسان في مدينتنا الآمنة، منذ ذلك اليوم المشؤوم ولحد الآن.. لأنه كان يحب الجميع.يساعد كل من يحتاج المساعدة..يحترم الكبير..ويعطف على الصغير, والكل هنا يكن له الحب والاحترام، ليس لأنه الأمير فحسب، بل لطيبته وشجاعته وحبه للخير. كان بدر، بدر المدينة بحق... حتى جاء ذلك اليوم ليخرج الأمير بدر للصيد، لأنه اعتاد أن يفعل ذلك بين الحين والآخر.. لكن الذي حدث أن الأمير بدراً لم يرجع كعادته سالماً غانماً. بل رجع حصانه فقط.. ولاحظنا أنه كان يصهل بأعلى صوته ويوميءبرأسه أن نتبعه, فتبعناه متوغلين بين أشجار الغابة..وإذا بنا نسمع أصوات استغاثة من بعيد:
(( أنقذوني..أنقذوني))..من هذا الذي يطلب النجدة ؟؟صرنا نقترب من مصدر الصوت أكثر فأكثر ..ولكن.. (( ولدي ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. نعم.. انه صوت بدر..))لحظات ثم سمعنا صوت أحد يصرخ :‍‍
((ها هو أميرنا بدر..انه ملقى على الأرض )).. ركضنا باتجاهه..كان ممدا على الأرض ..ممسكا بعينيه..صارخا:
- لقد فقدت بصري لاأرى شيئا ..انني أعمى..أعمى لقد ضربوني وأفقدوني بصري .
نزلت من حصاني واحتضنت الأميروضممته إلى صدري ..مد يده ليتحسس وجهي ..ثم ارتمى على صدري جاهشاً بالبكاء ....مستسلماً لقدره ..
توقف الملك وراح يجهش بالبكاء هو الآخر ..وهو يردد عبارة: ((بدر.. يا قرة عيني..)).
شعرت طيبة بالحرج لأن بسؤالها تسببت ببكاء الملك ..فأطرقت برأسها متأثرة بماسمعت:
_((لاحول ولاقوة إلابالله ..مسكين أيها الأمير )).
وهنا دخل الأمير بدر متكئا على عصا ,لتعينه على المشي ..صرخ ليسمع كل من في القاعة :
- لست مسكيناً أيها المجرم.. وحان الوقت لنتحاسب..
ثم اقترب بخطوات مرتبكة ,ليكون بجانب الملك . نظرت طيبة نحو الملك كأنها تريد أن تسأله :(( هل هذا هو الأمير؟)) فيوميء لها الملك أن :( نعم ) . ثم حاول الملك أن يهديء من روع الأمير ..فقال:
- اهدأ يا بدر.. إنها فتاة طيبة وليست رجلاً ..
لم يأبه الأمير لما سمعه من والده ..فحاول التقرب من طيبة مستعينا بالعصا ..مرة يضعها على الأرض ,ومرة يرفعها ليتحسس بها وليعرف ما إذا وصل نحو هدفه ..ثم سأل بسخرية واضحة :
- ربما تكون جاسوسة تعمل لحساب المجرم. أو ربما قد أرسلت الى القصر لتقضي علي تماماً.
حاول الملك أن يفهم الأمير القصة ..لكن الأمير كان يوجه اتهاماته جزافا ..الاتهام تلو الاتهام ..كان يبحث بعصاه عن طيبة ..وهو يقول:
- أرجوك ياأبي..ساعدني كي أمسك بها..
ابتسم الملك ليخفف من غضب أميره البصير .
- لا يا بدر.. بل هي فتاة وقعت بين يدي الحراس ظناً بأنها رجل..
فسأل الأمير أباه بسخرية :
- و هل شكلها يشبه الرجال الى هذا الحد؟
اقترب الملك من ابنه ليقوده من يده صوب مكانه ..وهو يهدئه :
- سنسمع منها قصتها، وتحكم عليها بنفسك..
قالت طيبة موجهة كلامها للأمير ..والثقة تملؤها:
- أرجو أن تسمع قصتي أيها الأمير، لأنني وعدت أن أحكيها للملك بعد سماع قصتك..
جلس الأمير إلى حانب أبيه ..وبعد أن أكملت طيبة كلامها أدرك أنه كان متسرعا بحكمه ..إذ قال :
- صوتك ناعم ورخيم, لا يدل على خشونة مظهرك..
أشار الملك بيده لطيبة أن تبدأ كلامها ..ولكنه أدرك شيئا مهما ..فاستدرك قائلا :
- صحيح.. نحن لم نعرف اسمك لحد الآن..
أجابت طيبة وقد عادت لهدوئها بعد عاصفة الاتهامات التي وجهها إليها الأمير ..ولترد على سؤال الملك :
- طيبة..اسمي طيبة..
هز الملك رأسه مستحسناً الاسم .ثم بدأت طيبة قص حكايتها منذ أن مرض أبوها ..وحتى إلقاء القبض عليها من قبل حراس قصر الملك ..كانت طيبة تستذكر المناظر الأليمة التي رأتها في أثناء رحلتها ..وكانت كالصور تترائى أمامها ..وراحت الدموع تترقرق في عينيها ..وعيون السامعين ..وعندما انتهت,أخذها البكاء ..مما جعل الملك ينهض من مكانه ليواسيها ويخفف من حزنها, وليقول لها :
- بارك الله فيك يا ابنتي. لقد عانيت كثيراً في رحلتك هذه. ندعو الله أن يوفقك في الوصول الى وادي الأسرار.
كفكفت طيبة دموعها ..وشكرت الملك والأمير لأنهما منحاها وقتا لسماع قصتها .فقال الأمير بدر:
- أنت فتاة طيبة يا طيبة.
تقدمت طيبة من الأمير..وقالت :
- أشكرك سمو الأمير.. وأعاهدك أنني سأساعدك، ولكن أرجو أن تدعو الله معي كي يوفقني في رحلتي..
استعد الملك أن يعطي أمرا لحراسه وهو يقول:
- سآمر اثنين من الحراس كي يرافقاك حيثما تريدين..
لكن طيبة كانت أسرع منه ..
- كلا أرجوك.. شارفت على الوصول.. وأريد أن أمتحن شجاعتي وصبري..
اقترب الملك منها وربت على كتفها.. قائلا:
- أنت شجاعة بالفعل.
استعدت طيبة لترك المكان ,,وقالت:
- والآن.. أرجو أن تأذن لي بالانصراف .
اقترب منها الملك مبتسما ..ومد يده مصافحا ..ثم قال :
- رافقتك السلامة يا ابنتي..
شرعت طيبة بمغادرة قاعة القصر ..مشيت بضع خطوات ..وهي تنظرخلفها صوب الأمير الأعمى ..ثم استوقفها صوته ..
- طيبة..
ثم توقف ..لايدري لم ناداها ..ابتسمت هي ..وقالت له مطمئنة :
- لاتقلق أيها الأمير..سأعود ان شاء الله
لقاء الحكيم
بعد أن ودعت طيبة الملك والأمير ووعدتهما بالمساعدة، غادرت القصر والمدينة، متوجهة الى وادي الأسرار، علها تحظى بلقاء الحكيم . كانت الطريق شاقة وموحشة.. استطاعت طيبة بصبرها وإيمانها, وإصرارها وشجاعتها, أن تتجاوز كل الصعاب لتحقق مرادها. اظلمت الدنيا..وهي تمشي متلفتة خلفها وإلى جهتيها..تعبت .. أرادت أن تستريح لكن ظلام الليل الدامس كان يمنعها ويحثها على مواصلة الرحلة .ومع ساعات الفجر .. تحقق لها ما كانت تصبو إليه..
***
وأخيرا ..هاهي طيبة تقف أمام حكيم وادي الأسرار, بعد رحلة من المشقة والعذاب والصبر ..رجل مسن..ذو لحية بيضاء كثة ..يتكيء على عصا ..يجلس في غرفة بسيطة ..في بيت متواضع ..أشار الحكيم لطيبة أن تجلس قبالته ..وقال مرحبا :
- أهلاً بالشاب الشجاع.. حمداًً لله على سلامتك..
هزت طيبة رأسها لتبادله التحية ..كانت في أشد حالات التعب ..بعد رحلة طويلة استمرت أياما عصيبة . ويبدو أن الحكيم لاحظ ذلك, فأردف قائلا:
- تفضل استرح.. فلقد عانيت الكثير في سبيل أن تصل إلي.. هذا مؤكد..
تقدمت طيبة من الحكيم ..ثم استأذنته قائلة :
- بداية أود أن أستأذنك لأصارحك بحقيقة ..لايمكن لي أن أخفيها عنك ..وهي أنني لست شاباً.. أيها الحكيم..
ثم خلعت الشارب واللحيةوالقبعة .لتقول :


- أنا فتاة ..
نهض الحكيم من مكانه مستغربا ..لكنها أشارت له بيدها أن يظل مستريحا بمكانه .لأنها ستشرح لها كل شيء .
- لاتستغرب ..لأنني سأوضح لك كل شيء ياسيدي الحكيم ..
عاد الحكيم ليجلس في مكانه ..والدهشة مازالت تعلو محياه ..لكنه ظل مصغيا لتلك الفتاة الشجاعة, التي قطعت المسافات والمسافات ..وعانت ماعانت من أجل أن تصل إليه ..قبل أن تبدأ الحكاية أرادت أولا أن تعرفه بنفسها :
- أنا اسمي طيبة ياسيدي الحكيم ..أسكن في قرية بعيدة جدا عن هذا المكان ..واسمها قرية السهل الأخضر ..
كان الحكيم يستمع بعناية لهذه الفتاة اللبقة ..الشجاعة.. ذات العزم والإرادة القوية ..وهو يهز رأسه إعجابا بأسلوبها بالرواية.بعد أن أكملت طيبة مهمة التعريف ..فضلت أولا أن تبدأ بحكاية القرية التي يموت أهلها في كل لحظة نتيجة لجفاف الماء فيها ..وحينما انتهت سألها الحكيم ..
- فهمت من حكايتك هذه بأنك لست من سكان القرية العطشى هذه ..أليس كذلك .
هزت طيبة رأسها بنعم .بينما راح الحكيم يكتب كلمات على ورقة طويلة ..ثم قال لها :
- يا لك من فتاة شجاعة وذكية. لذلك سأعمل جهدي لمساعدتك تقديراً واعجاباً بك.
شعرت طيبة بالراحة والأمان..وشكرت الحكيم على إطرائه هذا ..بينما سلمها هو الورقة الطويلة التي كان يدون فيها ملاحظاته ..بعد أن لفها وربطها بخيط..قائلا :
- عندما تصلين إلى أهالي هذه القرية .سلميها لهم ..ففيها حل لمشكلتهم .والآن ماذا عندك أيضا ؟
مدت طيبة لتأخذ الورقة ..وأرادت أن تسأل الحكيم عما حل بأبيها ..لكنها تذكرت القرية التي أصاب أهلها داء الضحك ..ففضلت أن تؤجل مشكلتها ..وأن تحكي قصة هذه القرية قبل قصة مرض أبيها . وهذا ماحدث فعلا .. بينما راح الحكيم يكتب كلمات على ورقة طويلة جديدة , كما فعل في المرة السابقة.بعد أن أنهت طيبة كلامها لف الحكيم الورقة وسلمها لهاوهو يقول :
- سلمي ورقتي هذه الى أهل هذه القرية، وعندما يقرأونها سيعرفون كل شيء.
أخذت طيبة الورقة من الحكيم ووضعتها مع الورقة الأولى بيدها وهي تقول :
- جزاك الله خيراً سيدي الحكيم..
تقدمت طيبة من الحكيم أكثر من ذي قبل بعد اطمأنت إليه..وجلست قربه ..وصارت تكلمه بهدوء محاولة أن ترقق قلبه وتحننه على ماسيسمعه منها ..إذ قالت:
- والآن إليك مشكلة أخرى صادفتها في أثناء رحلتي اليك.. مدينة حزن سكانها لما أصاب أميرهم المحبوب.. لقد كان هذا الأمير..
وبدأت هذه المرة بسرد قصة الأمير بدر..والحكيم يدون كلمات لاتعرفها على ورقة أخرى, وينظر الى طيبة بكل إعجاب، ويبتسم لها، ثم يعاود النظر الى ما يكتب. وحين انتهت لف الورقةوقال:
- سلمي هذه الورقة للملك.. ففيها الدواء الشافي باذن الله.
أخذت طيبة الورقة من الحكيم.. وهي في حالة لاتوصف من الفرح .. - شكراً ياسيدي.. باسم كل من قدمت لهم يد المساعدة أشكرك..
هز الحكيم رأسه مجاملا :
- هذا بسبب مساعدتك لهم ياطيبة الطيبة .
أطرقت طيبة برأسها خجلا ,وهي تداعب أصابع يديها بحركة لاشعورية ..وتقول:
- لم أفعل سوى ما يحتمه علي الضمير والواجب، فتقديم المساعدة لمن يحتاجها واجب انساني.. وما أسعدني وأنا أرى الابتسامة تعود لوجه من فارقها منذ زمن..
نظر الحكيم إليها نظرة إعجاب وتقدير ..وقال مشجعا إياها:
- أنت تحبين الخير وتعملين لأجله ياطيبة.. وما دمت كذلك يا بنيتي فلن تلاقي الا الخير إن شاء الله..
ظلت طيبة مطرقة برأسها بعد أن رفعته قليلا ..ووجهت ابتسامة للحكيم الذي أردف ليكمل :
- أنا لا أقول سوى الحقيقة.
أرادت طيبة أن تنتهي من موضوع المديح والإطراء ..لأنها كانت خجولة, لدرجة أنها كانت تحرج بمثل هذه المواقف ..فقالت:
- والآن أيها الحكيم.. جاء دوري لأطرح عليك مشكلة مرض أبي.. الذي تركته بين الحياة والموت.
استغرب الحكيم مما قالته للتو ..وسألها :
- ماذا ؟ ألم تنتهي من أسئلتك اذن ؟
أجابته طيبة ببرود : - لا طبعاً.. فأنا لم أطرح عليك الى هذه اللحظة المشكلة التي حملتني على تحمل كل هذه المشاق لأصل الى وادي الأسرار وأحظى بلقائك..
ارتبك الحكيم وأصيب بالإحراج ..لاحظت طيبة تغير ملامح الحكيم, فسألت :
- ماذا هناك ياسيدي ..؟؟
تلعثمت الكلمات في فمه ..ولايدري بم يجيب ..لكنه ..وبصعوبة بدأ يفهما شيئا:
- إنني جداً آسف يا طيبة.. لأنني لن أجيب إلا عن ثلاثة أسئلة فقط. وقد سلمتك ثلاث أوراق، وهذا يعني أن حصتك من الأسئلة قد انتهت.
جن جنون طيبة بعد أن سمعت ماأخبرها به الحكيم ..لايعقل لحكيم مثله أن يمازحها ..انهارت ..جلست ساقطة على كرسي عتيق بالقرب منها ..لاتنبس بكلمة واحدة ..
اقترب الحكيم منها وربت على كتفيها قائلا:
- للأسف هذه هي حقيقة الأمر.. كان عليك أن تعرفي هذا منذ البداية.
سألت طيبة غير مصدقة :
- ماذا تعني؟
أجابها الحكيم :
- أعني أنني لن أجيب عن أي سؤال الافي المرة القادمة.
وهنا يتسلل إلى طيبة بصيص أمل فسألته بلهفة :
- متى؟
أجاب الحكيم :
- بعد مئة يوم بالتمام والكمال.
عادت لحالة اليأس من جديد ..وخيبة الأمل الكبيرة.ثم دمدمت :
- مئة يوم يعني ثلاثة أشهر وعشرة أيام ..ويعني أيضا أكثر من أربعة عشر أسبوعا .... ياه.. انها فترة طويلة حينها سيكون أبي قد...
انفجرت بالبكاء ..دنى الحكيم منها مواسيا :
- هل أنت نادمة على ما فعلت؟
أجابته وهي جاهشة بالبكاء :
- لا.. صدقني لست نادمة على شيء أبداً..
مسحت دموعها ..ثم أردفت :
- ولكنني حزينة على أبي.. و لكن ما سيخفف عن حزني عودة الحياة الطبيعية لمن وعدتهم بالمساعدة.. لقد رأيت أن مشكلاتهم كبيرة قياساً لمشكلتي. مشكلاتهم عامة.. بينما مشكلتي تخصني وحدي..أمري الى الله.. سأعود الى قريتي.. وفي طريقي اليها سأبشر من ينتظر عودتي بفارغ الصبر ..
دارت طيبة وجها لتبحث عن الحكيم ..لكنها لم تجده .تلفتت حواليها ..لم تجد أحدا ..استغربت وصارت تنادي:
- أيها الحكيم..أيها الحكيم..يا الهي. أين اختفى؟
استغربت اختفاءه.. لكنها استسلمت للأمر.. وهزت رأسها بحزن ..ولملمت نفسها لمغادرة المكان..ولسان حالها يقول :
(( ليس لي إلا أن أعود لأحسب الأيام والليالي, حتى المئة لأرجع بعدها الى هنا.. هذا هو الحل الوحيد أمامي)).. وبدأت رحلة العودة




الفرحة تعود للقصر الحزين
وقف الملك بنفسه لاستقبال طيبة ..فاتحا ذراعية مهنئا بسلامة الوصول:..
- اهلاً.. أهلاً بالفتاة الشجاعة الطيبة..
دخلت طيبة القصر هذه المرة بإرادتها ..وبهيأة فتاة وليست شابا. كان أول من استقبلها بعد الملك ..هو الأميربدر ..
- حمداً لله على سلامتك يا طيبة..
أجابته طيبة بابتسامة بريئة :
- سلمك الله سمو الأمير.. وشافاك وعافاك.. أبشر أيها الأمير.. ستشفى باذن لله..
ومدت يدها وسلمت الملك الورقة التي أعطاها إياها الحكيم ..تناولها الملك بلهفة .. ثم نظر في عيني طيبة.. ثم إلى بدر الذي يقف إلى جانبه ..وشفتاه ترتعشان قلقا وخوفا ..شجعته طيبة قائلة :
-تفضل يا مولاي.. افتح الورقة.. واقرأما جاء فيها.
فتح الملك الورقة الملفوفة بيدين مرتجفتين ..نظرت طيبة الى الأمير.. ثم الى الملك وهي متلهفة لمعرفة ما مكتوب في الورقة.. تمعن الملك في الكلمات وأراد أن يقرأ سطورها مع نفسه ..لكنه فضل في النهاية أن يقرأها جهرا :
- ((كل ما جرى للأمير بدر.. بسبب ثمرة جوز الهند التي سقطت من أعلى الشجرة الكبيرة على رأسه..عندما أراد اصطياد طير يقف على هذه الشجرة , فجعلته يسقط من حصانه فاقداً نظره من شدة الضربة..صيادون قربه شهدوا هذا المشهد ,لكنهم فروا خوف اتهامهم بذلك ..))..
استغربت طيبة مما سمعته ,وكذلك الأمير الذي صار يبلع ريقه بصعوبة ..وواصل الملك قراءة الورقة:
- ((ولن يعود للأمير نظره.. إلا ..))
لكن الملك توقف عن متابعة القراءة ..ثم نظر إلى الأمير ,ثم إلى طيبة ,ثم إلى الحاضرين .كان الحميع متلهفا لسماع مايقوله الملك ..لكن أحدا لم يجرؤ على أن يستعجل الملك بقراءته ,إلا طيبة ..إذ قالت :
-إلا اذا ماذا يا مولاي؟أرجوك ..
انتابت الأمير بدر حالة من الإحباط ..وسأل بصوت ضعيف خافت كاليائس :
- لماذا سكت يا أبي؟
تقدم الملك من ابنه ..وأخذ منه العصا التي كان يتكيء عليها ..ثم رفعها عاليا :
فهبت طيبة إليه محاولة إيقافه ..صارخة :
- ما هذا؟.. ماذا تفعل يا مولاي؟
لكنها وصلت متأخرة ..بعد أن ضرب الملك ابنه ضربة قوية على رأسه, جعلته يسقط أرضا .
أسرعت طيبة وجلست قرب الأمير, وراحت تتحسس رأسه ما إذا كان الدم قد نزف منه أم لا ..وهي تبكي ..وتصرخ :
- مالذي فعلته بابنك الأمير يامولاي ؟؟
رمى الملك بنفسه على ابنه ليحتضنه ويضمه إلى صدره باكيا :
استغربت طيبة تصرف الملك ..فنظرت إليه مستفسرة ..لكن الملك برر للجميع ماحدث :
- هذا ما طلبه الحكيم ..ضربة قوية على رأسه ستعيد النظر إليه إن شاءالله ..
واستمر بالبكاء ..لكن طيبة حاولت أن تفيقه ..
- أرجوك ..سمو الأمير ؟؟هل تسمعنا ؟؟ سمو الأمير .
وراح الملك يضرب على خدي بدر ليعيده لوعيه:
- سامحني يا ولدي .. فهذا هو علاجك .. بدر ..بدر .
وفجأة صار الأميريهذي ببعض الكلمات :
- سأصيدها ..إنها على الشجرة ..
نظرت طيبة إلى الملك بفرح ..بينما واصل الملك ضربه على خدي بدر :
- بدر ..بدر ..هل تسمعنا يابني؟؟
فتح الأميربدر عينيه ..وكان أول مارأته عيناه ..هو وجه طيبة .فابتسم لها ..وهو يتمتم :
- طيبة ؟؟
نظرت طيبة إلى الملك والفرحة تغمرها ..ثم عاودت النظر للأمير لتتأكد من شيء :
- هل تراني ياسمو الأمير ؟
ابتسم الأمير وهو يهز رأسه قائلا:
- أنت طيبة إذن ..
ضم الملك أميره إلى صدره .وصرخ بأعلى صوته ليسمع كل من في القصر ..:
- الحمد لله ..لقد استعاد الأمير نظره .استعاد الأمير نظره ..ولدي ..وقرة عيني ..
اقتربت منه طيبة لتتأكد مما يقوله الملك .. لكن الأمير هز رأسه وكأنه يعرف ماتريده منه طيبة ..فأجاب:
- نعم .. إنني أراك.. جميلة .. كأخلاقك وطيبتك .
وكالعادة ..فإن طيبة لم تجد ماتهرب به من خجلها سوى أن تغيرالموضوع :
- نحمد الله تعالى على سلامتك يا أمير..
ابتسم الأمير ..وقال:
- هذا بفضل الله .. ثم بمساعدتك ياطيبة.
ومن غير شعور منه ..وبفرحة عارمة ..عمرت قلب الملك ..صار يطوف في أرجاء القاعة الملكية الكبيرة وهو ينادي :
- زفّوا البشرى لكلّ الناس.. لقد عاد للأمير نور عينيه..عادت الفرحة تملأ القصر والمدينة.أقيموا الولائم , واقرعوا الطبول ..ابتهاجاً وفرحاً بهذه المناسبة السعيدة ..
ساعدت طيبة الأمير بدر بالنهوض ..وعندما وقف واستفاق تماما مماهو فيه ..قال لطيبة :
- لا أعرف كيف أرد لك جميلك .. لا أدري ماذا أقول ..
استطاع الملك أن يسترق سمع آخر كلمتين منه ..فتقدم منهما وهو يقول:
- أنا الذي سأقول .. كنت قد وعدت أن أكافيء من يعيد النظر إلى عينيّ بدر , بهديّة ما بعدها هديّّه .. لذلك فأنت مخيرة الآن ..هل تريدين مالا..أم ذهبا ..أم ..
لكن طيبة قاطعته :
- هديتي يا مولاي .. هي رضاكم عنيّ وكسبي صداقتكم وثقتكم ..وهي عندي أغلى هدية ..
يفاجأ الملك بجوابها ..هذه الفتاة هي أول شخص يرفض هدية الملك ..أما الأمير فقد انتبه لشيء مهم ..فانبرى قائلا:
- لحظة واحدة من فضلك يا أبي ..نسينا شيئا مهما ..ياللخجل! ..ياللخجل! .
استغرب الملك كلام ابنه ..لكن الأمير بدر واصل كلامه :
- نسينا أن نسألك عن أبيك..
تغيرت ملامح طيبة إلى الحزن.. فانتبه الملك لذلك ..اقترب منها وسألها بحنو الأب:
- ماذا عن مرض أبيك يا طيبة ؟
هزت رأسها كمن تريد أن تقنع نفسها بنفسها :
- سيشفى بإذن الله ..
وحكت طيبة ما جرى معها،وقصة الأسئلة الثلاثة ..وبعد أن انتهت..نسي الجميع فرحة عودة نظر الأمير ..وانشغل بالتضحية العظيمة التي قدمتها طيبة ..قال الملك :
- مئة يوم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!؟ إنهّا فترة طويلة‍..
أحس الأمير بالحرج فقال:
-إذن..نحن كنّا سبباً من الأسباب..
أدار الملك وجهه نحو جهة أخرى خجلا وحرجا..وهو يتمتم :
- ما أحرج الموقف ‍! بصراحة يا ابنتي لا أعرف كيف أعبّر لك عن أسفي الشديد, واعتذاري لما حصل .. و..
أشارت طيبة بكفها للملك بأن يتوقف عن الاعتذار ..ولكن بطريقة مؤدبة :
- أرجوكما لا تقولامثل هذا الكلام ..فهذا لن يمنعني من أ ن أفرح لفرحكم ,وأشارككم سعادتكم.
اقترب الملك منها..وضع يده على كتفها..وهو يقول :
- ليت الخبر يعمّ كل النفوس, والطيبة تملأ كلّ القلوب .
وبدأت طيبة تستعد لتغادر القصر..مستأذنة بالانصراف..فاقترب منها الملك وهو ينظر إليها بإكبار وإعجاب لما قدمته لهم من مساعدة كبيرة ..وابتسم لها ابنسامة عريضة عرفانا لها بالجميل ..أما الأمير بدر فقد وقف حائرا أمام هذا الموقف المؤثر .. تقدم منها بخطوات مرتبكة ..ابتلع ريقه ..وراح يتهجأالكلمات بهمس خافت..كأنه لايريد أن يسمع كل من في القصر:
- لن أنساك أبداً يا طيبة .
ابتسمت طيبة لهذه المجاملة ..وحملت حاجياتها.. وودّعت الملك والأمير بدرا ,وغادرت المدينة في طريقها إلى قريتها, حيث ينتظرها والدهاوالعمّ مسعود بفارغ الصبر.. ولكن عليها أولاً أن تفي بكل وعودها.
اوقت للضحك
وصلت طيبة للقرية المنكوبة بالضحك ..و صارت تركض وتنادي :
((يا أهالي القرية ..ياأ هالي القرية,, أبشروا يا إخوتي ..))
وعندها انتبه الجميع لمقدمها ..تعالت أصواتهم :
(( لقد عاد الصديق الوفيّ..عاد الرجل الطيب الذي ننتظره))
اقتربت طيبة من أهالي القرية ..وعندما وصلت إليهم ..كانت قهقهاتهم عالية بحيث لم تسمح لها بأن تحدثهم ..أرادت أن توبخهم لأنهم لايعيرون أهمية لوصولها ..لكنها تذكرت وأدركت أن هذا الشيء خارج عن إرادتهم .. ابتسمت ..ثم سلمت الورقة لأحد الرجال المحيطين بها ..اخذ الأخير الورقة من طيبة ..وما إن فتحها حتى أطلق ضحكة عالية ..استغربت طيبة ..فسألت :
-ماذا ؟؟ هل الورقة فارغة ؟؟ أم أن هناك شيئا ما ؟
لكن الرجل يسلم الورقة لطيبة وهو غارق في الضحك ..وهنا ضربت طيبة جبينها ..وهي تقول:
أوه ..نسيت مرة أخرى ..أنتم لاتستطيعون القيام بأي عمل نتيجة ما أصابكم ..
ثم أخذت الورقة منه بعد أن كررت اعتذارها..وقرأت بصوت عال على مسامع الجميع :
- منذ زمن مضى .. دخل قريتكم شخص غريب .. أغاضه ما رأى من حبّ وانسجام ووئام بينكم . لقد رآكم جميعاً تعملون من أجل الخير,متحابيّن متعاونين .. فلم يعجبه هذا. إنه حاقد وحاسد ..فما كان منه إلا أن قام برمي مادة خبيثة في ماء البئر الذي تشربون منه .. لتجعل كلّ من يشرب منه يضحك ويضحك ..
تحلق الرجال حول طيبة ..وكأنهم يريدون أن يتمعنوا في الورقة ..وتعالت الأصوات:.
- (( يا للخبيث).
- (( أعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد )) .
- (( وما العمل الآن يا رجال؟)).
تقدم رجل طاعن بالسن من الجميع ليقول لهم ضاحكا:
- ليس أمامنا إلا نتعاون جميعاًَ على سحب الماء من بئر القريَةحتى ينشف.
ورد الآخر :
- نعم .. ثمّ نستبدله بماء صاف نظيف, من النهر القريب من القرية.
فرحت طيبة لفرحهم ..وقالت للجميع :
- نعم الرأي ..وسيعود كل شيء إلى ما ما كان عليه إن شاء الله ...
وأشار لهم أحدهم أن (اتبعوني ).ركض نحو جهة ما ..ثم مالبث الجميع أن تبعوه ..وأصواتهم تتعالى بالنداء:
- (( إلى النهر بسرعة )),((فليحمل كل منا دلوا )),((رجالا ونساء ..أطفالا وشيوخا ..الجميع للعمل هيا )).
وقفت طيبة تنظر اليهم سعيدة فرحة ..تركها الجميع إلا واحدا ..عاد إليها ليسألها :
- ((و أبوك ؟؟ ماذا بشأن مرضه ؟؟))
دمعت عيناها ..فرحا ..وحزنا ..وتمتمت قائلة :
- ادع معي ..أن يكتب له الله الشفاء ..
بعدما عرف الجميع التضحّية الكبيرة التي قدّمتها طيبة في سبيل إنقاذهم ، تمنّوا لها كلّ الخير ، ولوالدها الشفاء بإذن الله .. ثم ودّعوها لتواصل رحلتها للعودة ...
عاد الماء..
عادت الحياة
وصلت طيبة إلى القرية العطشى ..والأمل يحذوها في أن ترى الحياة تعود طبيعية لأهالي هذه القرية المنكوبة ..وقفت وسطهم وهي تسمع أحد رجال القرية, وهو يقرأ في الورقة التي سلمتهم إياها حسب ما طلب منها حكيم وادي الأسرار ..وراح يقرأ..وهي وكل الأهالي ينصتون متلهفين :
_((قبل فترة من الزمن .. هبّت عاصفة هوجاء ... جعلت صخورا كبيرة تتهاوى من أعلى الجبل
لتستقر في المجرى الرئيس الذي يغذّي نهركم ، ويمدّ جداولكم وزرعكم بالماء ... ولن تتزعزع هذه الصخور من مكانها إلاّ إذا تعاون كل أهالي القرية ليرفعوها من مكانها .))
((الحمد لله رب العالمين ..الحمد لله مزيل كل غمة )) هكذا تعالت الدعوات والهتافات ..ودب في نفوس الضعفاء شيء من القوة, ليتوجهوا نحو الجبال, ويزيحوا الصخور التي سدت مجرى النهر ..ولم ينسوا أن يقدموا شكرهم وامتنانهم لطيبة, على ماقدمته من خدمة جليلة وعظيمة للقرية, وإنقاذها لهم من الهلاك ..
بحثت طيبة في الوجوه عن الطفلة التي لاقتها في زيارتها الأولى لهذه القرية ..لكن الجلبة التي أحدثها أهل القرية ,والهبة الواحدة نحو الجبال, منعت طيبة من أن تميز الأشياء ..ولكنها أحست أن شيئا يسحب بنطلونها من الأسفل ..أمسكت بالبنطلون ونظرت للأسفل ..فرأت الطفلة تبتسم قائلة :
- ((شكراً لك يا عمّي .. أنت شجاع جدا )) .
جلست طيبة على ركبتيها لتكون بمستوى الطفلة ..ثم ضمتها إلى صدرها ..ونظرت إلى عينيها البراقتين بفرحة بريئة ..وقالت :
- ما رأيك يا صغيرتي لو أطلعتك على سرّ ؟
هزت الطفلة رأسها ..بينما قربت طيبة فمها من أذن الطفلة لتهمس لها شيئا, وهي تمسد على شعرها الأصفر الناعم ..نظرت الطفلة إلى وجه طيبة , بينما سحبت طيبة اللحية المزيفة عن ذقنها قليلا .. أما الطفلة التي كادت عيناها تخرج من مكانهما فراحت تستعرض هيأة طيبة وشكلها ..ثم أفلتت من بين يدي طيبة ..وراحت تركض و تصرخ :
((إنها بطلة وليس بطلا ..إنها فتاة وليس رجلا .. أنا عرفت ذلك ..))
ابتسمت طيبة ..ثم ضحكت..وبعدها نهضت لتواصل رحلة العودة .
المفاجأة
_ (( لقد شارفت على الوصول, الحمد لله أني ما أزال بخير ..ولكن . ‍! كيف سأقابل الناس ؟ وماالذي سأقوله لأبي ؟ هل مازال حيّاًينتظرني ؟ ام .. لا . لا)).
ثم انبرت تبكي ..لاتدري كيف قطعت كل تلك المسافة ..لقد كان طريق العودة أقصر بكثير مما توقعت ..فهاهي على بعد بضعة عشرات الأمتار عن قريتها ( السهل الأخضر)..
_ (( أرجوك يا أبي .. فأنا أحبّك .. سامحني .. لا تتركني .. ))
وصلت طيبة إلى قريتها ..ودون أن تدري كيف وصلت ..صارت قبالة الباب بالضبط..مدت يدها لتطرق الباب ؟؟لكنها سحبتها ..وهي ترتعش ..ثم مالبثت أن مدتها مرة أخرى .
_(( يداي ترتعش .... يبدو أننّي متوترة .. كيف سأرد على العمّ مسعود حينما يسألني:
هل قابلت الحكيم ؟ وهل وصلت إلى وادي الأسرار ؟ ترى هل سيلومونني ؟ هل سيسخرون منّي ؟
مدت يدها من جديد وكالذي قرر شيئا طرقت الباب بقوة ..كانت تتأمل وجه الشيخ مسعود وهو يفتح لها الباب ..وفعلا ..فتحت الباب ..ولكن ..من هذا الذي يفتح ؟؟
-طيبَة!! هل عدت؟! ..حمدا لله على سلامتك ..
سألها من فتح الباب ..لكنها ظلت مشدوهة أمام هذا السائل .. ثم نطقت بصعوبة :
َ - طيبَه : أبي !؟
وارتمت طيبة في حضن أبيها وراحت تجهش بالبكاء . وهو أيضا ..
- أحمد الله على سلامتك يا عزيزتي ..
- لقد شفيت يا أبي !!
- بفضل الله ..ثمّ بفضلك يا حبيبتي.
واستمر العناق والبكاء للحظات ..لكنها عادت لتتفحص أباها ..ولتنظر إلى طوله ..إنه فعلا يقف على قدميه ..حتى بدون عكاز . قالت: (( الخمد لله )),ثم عادت لترتمي إلى حضنه باكية من أثر المفاجأة . وبينما هي كذلك وإذا بها قبالة وجه لم تميزه أول الأمر ..لكنها عادت لتستعيد وعيها بعد صعقة المفاجأة ..ثم صرخت :
_ أجل ..إنه الحكيم ..
نظرت لأبيها ليفسر لها مايحدث : أشار لها الأب بالدخول وهو يقول :
- ادخلي أيتها الشجاعة ..وستعرفين كل شيء..
لم تصدق طيبة ..كأنه حلم ؟؟ماالذي يجري ..أمسكت بيد أبيها ..وهي تتطلع إلى مشيته ..وتتفحص قامته ..وتسترق النظر إلى الحكيم الذي يمشي وراءهما مبتسما .. وعندما صار الجميع قرب الأرائك جلسوا ..ولكن طيبة بادرت بسؤال أبيها متلهفة لمعرفة الحقيقة .
- لا أصّدق ما أراه يا أبي !!. ماذا حصل ؟! وأين هو العم مسعود ؟؟
نهض الحكيم من مكانه ليقف قرب باب الغرفة التي كان يرقد فيها الأب.. نظر داخل الغرفة ..لكنه عاود النظر إلى طيبة مبتسما :
-حمداً لله على سلامتك أيتّها الفتاة الشجاعة الطيّبة .. إذا كنت مستغربة شفاء أبيك فأرجو أن تعرفي أن لاشيء بمستحيل وبعيد عن قدرة الله ورحمته الواسعة ..فهو الشافي المعافي ..يفعل مايشاء وقت مايشاء ..أما إذا كنت مستغربة وجودي هنا بينكم .فهذا من حقك ..
تقدم منها عدة خطوات ..ثم واصل حديثه :
- جئت لأؤكد لك ..أن من يفعلّ الخير .. لن يلقى إلا الخير ..
نهضت طيبة من مكانها وتوجهت نحو الحكيم .وقالت له مبتسمة :
- شكراً لك أيهّا الحكيم .. لأنّك قطعت المسافات الشاسعه لتعالج أبي من مرضه ..وأعرف جيدا أن الرحلة كانت شاقة لرجل بعمرك ..فأشكرك عميق الشكر .
ضحك الحكيم ضحكة خفيفة ..ثم هز رأسه..وضع يده على كتف طيبة وهو مايزال مبتسما..وقال:
- هل تصدقينني لو قلت لك إنني لم أعالجه ؟، ولم أفعل له أي شيء؟.
استغربت طيبة ..وعقدت حاجبيها مستفهمة ..لكن الحكيم عاد ليوضح :
-هذا ما حصل .. جئت لأكشف عليه بقصد معالجته ..ولأبرهن لك صدق ماقلته لك ,ولأنك تستحقين أن أقدم لك هدية على كل التضحيات التي قدمتها .. ولكن عندما وصلت ,وطرقت بابكم تماماً كما فعلت أنت.. إذا هو يستقبلني كما استقبلك ..
نظرت طيبة باستغراب إلى أبيها قائلة :
- الحمد لله الشافي المعافي .
ثم عادت لتنظر إلى الحكيم الذي أردف موضحا بقية القصة :
- سعادته بك ، بعدما سمع عمّا فعلته في رحلتك هذه كانت هي السبب .
عادت لتنظر لأبيها ..والأمور ماتزال غير واضحة لديها ..قال الأب بفخر وإعجاب :
- كم أنا فخور بك يا طيبَة!! ..
وضعت طيبة رأسها على صدر أبيها ..وسألته :
- أبي حبيبي ..ولكن كيف عرفت ؟
وهنا ..في هذه اللحظة ..خرج الأمير بدر من الغرفة المجاورة يتبعه الشيخ مسعود .. قفز قبالتها وهو يقول :
_ أنا من أخبرته .
مفاجأة أخرى تصعق طيبة ..وقد طار منها كل التعب والإرهاق ..وكاد عقلها أن يطير هو الآخر.. .
فلا تدري ما تقوله .. ابتلعت ريقها بصعوبة ..وبحلقت بعينيها صوب مايجري ..وقالت:
- مَن ؟ يا إلهي ‍‍!! هل أنا في حلم؟ لم أعد أحتمل بعد ..ارحموني قبل أن أفقد صوابي..
ثم فركت عينيها لتتأكد من حقيقة ما تراه ... تقدم الشيخ مسعود منها ..وقال:
- حمد لله ألف مرة ياابنتي ..لقد كنت طيبة ..وما خاب من سماك بهذ الاسم .
اقترب الأمير منها بخطوات خجلة ..وراح ينظر في عينيها ..متحدثا بارتباك :
- لقد حضرت بنفسي إلى هنا .... لأخبر أباك عّما حصل معك .. وعن الأعمال العظيمة التي لا تنسى أبداً .. ومن شدّة فرحته بك وقف ليحتضنني ..
أطرقت طيبة برأسها خجلا ..وقالت :
- شكراً لك أيها الأمير بدر ..
عاد الأمير ليقول:
-إنّك تستحقين كل الخير أيتها الأميرة.
استغربت طيبة لما سمعته ..وظلت الكلمة الأخيرة تترد على مسمعها : ( الأميرة ..الأميرة ..الأميرة )).
رفعت رأسها لتستوعب الموقف ..ثم إلى أبيها لتطلب توضيحا ..نهض الأب من مكانه ..واقترب منها ..ليضع يده على كتف الأمير والأخرى على كتفها ..وقال:
- الأمير بدر خطبك منّي يا طيبَة... فماذا تقولين ؟
لاتدري ماتقول ..مفاجأة تلو أخرى .. وفرحة تلو أخرى ..عقد لسانها ..نظرت تستعرض الوجوه الفرحة ..ثم مالبثت أن أطرقت برأسها على الأرض من جديد .. وقف الأمير بدر ينتظر ردا على سؤاله: ( هل تقبلين بي زوجا ياطيبة ؟؟)
تكلل الصبر والتضحية بفرحة كبيرة عارمة ..وطاف موكب الزواج كل القرى التي مرت بها طيبة في طريقها إلى وادي الأسرار ..ليشاركها أهالي هذه القرى فرحتها ..وليعرفوا جيدا أن من يزرع الخير ..يحصد الخير ..
ونتمى للجميع كل الخير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق