الخميس، 29 سبتمبر 2011

"السلة" قصة للأطفال بقلم تيسير حامد

السلة
تيسير حامد
حدثتني جدتي عن حكاية سلةٍ صغيرةٍ ، ليست كبقية السلال ، جميلة ، لطيفة ، ناعمة ، لكنها قوية ، تبتسم دائما ً، وتبكي أحيانا ً، وتتكلم ..!!

جدتي تصنع سلالها من القش ، تجمعه من جنبات الوادي القريب ، تنقعة بالماء أياماً ، تفرده كسجادةٍ كبيرة في فناء المنزل ، تقلبه ، حتى يجف تحت أشعة الشمس ، ثم تضفي علية أصباغاً زاهية من لحاء الشجر ، حتى تغدو أعواده صقيلة ً أنيقة ، ونحيفة ، كسيقان فراخ الفلامنكو الوردية الطويلة الدقيقة..!!

الوان القش المتماهية الملتمعة تحت شمش ضحى الربيع ، تجذب الدجاجات ، فتطردها جدتي ، وتلاحقها بعصاها وهي تتوعدها ، إن هي عادت ، ستكسر أرجلها وتقطع مناقيرها ، حتى لا تفسد كنزها الثمين ، ومبعث فخرها في جلساتها مع عجائز القرية ..!!

عندما همّتْ بصنع سلالها كعادتها في كل عام ، قفزت لرأسها فكرةٌ جديدة ..!

" لمَ لا أصنعُ سلةً أهديها للحفيدة الصغيرة ، تلهو بها ، وتضع فيها عرائس القماش التي تصنعها أمها من بقايا الثياب وحبات الخرز والأزرار المهملة ؟؟ حتما ستدخل السرور إلى قلبها الغض .. يا لها من فكرةٍ رائعة ..!!"

فالصغيرة لم تكمل ربيعها الخامس بعد ، يطيب لها دوماً ان تجلس بجوارجدتها ، تصغي لحكاياتها الجميلة المكررة ، وتخاف وتحزن عندما تضع العجوز يدها المتغضنة على جانب صدرها الأيسر لتبث شكواها من وخزةٍ في قلبها المنهك ، ولا تجد بجوارها غير تلك الصغيرة ..!!

تعودت ان تندفع إلى غرفة الجدة فتحضرَ غطاء رأسها كلما سمعتْ طرق الباب ، ، فلربما كان الزائر رجلاً ، لقد حفظت الصغيرة مهامها جيداً ، تناول الجدة عصاها عندما تهم بالوقوف ، وتحضر لها فيما تحضر ، طقم أسنانها المستعار ، وبسرعةٍ هائلة ، فقد ألِفَتْ مكانه جيدا ، في الإناء الفخاري المملوء بالماء والملح بجوار الموقد ، وتنبهها عندما يرتفع صوت المؤذن منادياً لصلاة الظهر ، فحاسة السمع عند جدتي تقاعدت منذ زمنٍ طويل ...!!

ثم ما لبثت الجدة أن إسترسلت بخيالها :

لا شك أن الصغيرة التي يعيقها قليلا مرض شلل الأطفال منذ خطواتها الأولى ، تستحق ذلك ، ولسوف تطير فرحاً ، فهي لا تملك ألعاباً كبقية أطفال القرية ، وتستحضر الجدة بحسرة بالغة ، بكاء الصغيرة ودموعها ، عندما ترى طفلاً يحتضن لعبةً جميلة ..!!

حل الصيف ، موسم الجدة المفضل ، سلالاً ثمانٍ كبيرة متقنة بحق نسجتها ، تشكلت بين يديها المتغضنتين ، وما إن أوشكت على الإنتهاء في يومها الرابع ، حتى طلبت إلى الصغيرة الجلوس عن يمينها ، أحضرت آخر حزمةٍ من القش ، وضعتها في حجرها بطريقةٍ مستعرضة ، مسحت عليها بكفها وهي تقرأ المعوذتين ، وتتمتم ببعض الأدعية والأوراد ، والصغيرة تنظر إليها بدهشةٍ وحيرة ، وضعت الجدة يدها على فمها وهي تنظر للصغيرة ففهمت الصغيرة أنها إشارة الصمت ، وتابعت فقرأت آياتٍ من القرآن مما تقرأه في صلواتها ، ثم غطت وجهها بكفيها وأغرقت في الدعاء ...!!

وما هي إلا لحظات حتى إنهمكت الجدة في نسج السلة الصغيرة ، وبدأت معالمها تتكشف رويداً رويداً ، والصغيرة تراقب بحبورٍ ظاهر .

رائعةً هذه السلة ، تهللت أسارير العجوز ، وآثرت أن تجعلَ لها مقبضاً واحداً على هيئة قوس من قشٍ مجدول ، وحرصت أن يكون لون المقبض مختلفاً ، مما زاد من غبطة الصغيرة المتلهفة .

ما أن إنتهت الجدة من عملها ، حتى علت وجهها المتجعد المستدير بوشمه المعتق ، إبتسامة مشوبة بالفخر والرضى عما صنعت ، رفعت السلة الصغيرة بكلتي يديها قبالة وجهها في الهواء ، طارت الطفلة لتخطفها من يدي الجدة ، فازتْ الصغيرة بتحفتها ، ركضت بها إلى الداخل ، لملمتْ عرائسها المتناثرة ، نادتها بأسمائها ، وضعتها واقفةً في سلتها كجندٍ متأهبينْ ، وخرجت إلى الفناء وهي تلوح بها كبندول ساعة ، وتحني برأسها فوق كتفها الأيمن وهي تقول : لن أسمح لإبنة الجيران أن تلعب بها ....!!

ثم جلست على حافة الحوض المزروع ووضعت السلة أمامها ، وبدات تكتب ميثاقاً غريباً ، تعدد للسلة بنوده كأنها تعلن معاهدة دفاعٍ مشترك ، تشير بسبابتها كقائد صارم ، وتوميء برأسها ، وتعاهدها ان تحفظ ميثاقها هي أيضاً ، فلا تفارقها يوماً ، وتحافظ عليها ، نظيفةً دائماً ، وتضعها بجوارها عندما تنام ، لا تتركها عرضةً للغبار والشمس وفضول القطط والكلاب ، ولا تضع فيها ما لا تحب ، ولا تتركها وحيدةً يوماً ، وأن تبقي بداخلها مصحفاً صغيراً ، وفرشاة رسم وسنبلة قمح ..!!

همهمت السلة بألفاظٍ غير مفهومة ، فهمت الصغيرة أن السلة أقّرّتْ الميثاق أيضاً ، مرت فراشة اثناء المراسم ، كانت الشاهد الوحيد ، وعلا صوت المؤذن فلم تنس الصغيرة أن تذكّر جدتها بالصلاة ، ثم عادت لتنشد للسلة ما تحفظة من أناشيد ...!!

تعلمت الصغيرة لغة السلة ، ولم تنقض ميثاقها أبداً ...!!

قيل يوماً أن أفعى تسللت إلى السلة والصغيرة نائمة ، وإختبأت بين عرائسها وعندما إستيقظت ، سمعت السلة تبكي بصوت متهدج ، تذكرت الميثاق ، فقرأت المعوذتين ، فخرجت الأفعى من السلة إلى سبيلها ، وقيلَ أيضاً ، أن السلة إهتزت يوماً بقوة ً ، لتنبه الصغيرة إلى ثعلبٍ كانَ يتعقبها ويتحين الفرصة للإنقضاض عليها ، فنَجَتْ الصغيرة والسلة معاً ، ويوم مرضت الصغيرة كانت السلة تهمس لها بكلماتٍ رقيقة حانية ، خففت عنها مرارة المرض ، ولم تكن تنام حتى تطمئن عليها ..!!

كبرت الصغيرة ، وتزوجت وتركت سلتها أمانة عند جدتها ، فيما ظلت السلة صغيرة كما هي ، لكنها إتسعت دوما لكل عرائسها وأحلامها ، وفي يومٍ من أيام الشتاء الباردة ، ماتت الجدة ، فحزنت السلة حزناً شديداً ، ذهبت إلى رفيقتها ، أنبأتها ، وأجهشت بالبكاء عند قدميها ، وعاهدتها أن تحفظ لها أيضاً مع أسرارها وأحلامها وعرائسها وريشة الرسم والسنبلة ، ذكريات الجدة ، وثوبها وغطاء رأسها وعصاها أيضاً ، وأمنيةً جديدة ...!!

هناك تعليق واحد: