ريحَانةُ و السّنَابِلُ
لطفي حجلاوي
بينما كانت سنابل القمح تمد رؤوسها إلى الأعلى كي تصافح الشمس التي تتغذي منها، كانت بعض النباتات الصغيرة الأخرى لا تستطيع أن تجاريها في الارتفاع، فكانت تكتفي بما تناله من الأشعة الفائضة على السنابل. وهكذا كانت توجد بين سيقان الزرع المرتفعة المتنافسة للحقل الشاسع، نبتة صغيرة عجيبة الشكل و اللون مختلفة عن جيرانها تدعى ريحانة. وكانت صغيرة رقيقة العود قريبة إلى سطح الأرض. ولم تكن ريحانة تحظي بالكثير من الضوء، لذلك كانت تعيش على ما يصلها فقط من فتات ما يمر بين أوراق السنابل إلى الأسفل. غير أنها في المقابل لم تكن تشتكي أو تعترض على أمرها. بل كانت تجتهد في نموها كي يكون رداؤها من الأوراق الخضراء جميلا،و مظهرها زاهيا بهيا، حتى أنها أفلحت رغم صعوبة حالها في إخراج بعض الزهور الجميلة.
وذات يوم تغامز جيرانها من السنابل متهكمين عليها ساخرين من حجمها، فقالت الأولى :
ـ انظرن إلى هذه المتطفلة القصيرة، فهي لا تنفع لشيء ومع ذلك لا تكف عن مضايقتنا
علقت سنبلة مجاورة أخرى فقالت :
ـ إنها تزعجنا وتمتص رطوبة التربة التي هي في الأصل لنا
ثم أضافت ثالثة :
ـ انظرن موضعها بين السّيقان و حجمها الضئيل الذي لا يطول في الأعلى، إنها وضيعة حقيرة.
فأجابتها رابعة وهي تتفاخر بعلياء و عجب:
ـ هل يعقل أن يسامحها صاحب الحقل فلا يقتلعها أو يرشها بالمبيد؟
كانت ريحانة تسمع في حزن هذا الحوار القاسي ، وحز في نفسها نعتها بالمتطفلة و العقيمة . حاولت أن تجيب المتهكمات من السنابل و أرادت أن تقول لهن ما في نفسها، إلا أن إحداهن أنزلت عليها ورقة من أوراقها الطويلة فغطتها ومنعتها من الكلام. فزاد ذلك من غيضها وغضبها.
استمر الربيع واستمر نمو السنابل وكانت ريحانة لا تكف عن سماع مزيد من الكلام الجارح الذي يضايقها كل يوم، ودون أن تستطيع الدفاع عن نفسها. فكانت تتألم في صمت وتعزّي نفسها بالقول :
ـ سوف يأتي الوقت الذي يعرف فيه هؤلاء المغرورات قدري وفائدتي فيوقرّنني ويحترمنني.
وكانت على حق فما إن اكتملت زهراتها واستوت جميلة فوّاحة حتى عمت رائحتها جميع أنحاء المكان. فشدّت الانتباه إليها، و زارها النحل و الفراش، وبدأ الجميع من حولها يتساءل عن مصدر هذه الطيبة المنعشة المنبعثة من مكان ما في الحقل. وكانت ريحانة لا تهوى التفاخر و الإدعاء فلم تشأ أن تخبر الجميع بأن زهورها هي من وضعت تلك العطور الفوّاحة.
غير أن تهكم السنابل لم يتوقف عند هذا الحد، فما كاد الحَبُّ يظهر على رؤوسهن، حتى زاد ذلك من إعجابهن بأنفسهن وصرن يقلن بصوت مسموع لمضايقة ريحانة:
ـ نحن ننتج الحب الناضج النافع الذي تقوم عليه حياة الناس ، ودوننا لا يستطيع الإنسان أن يتغذي في فطوره وغدائه وعشائه، إننا كل شيء في حياته. و لا يضاهينا شيء في القيمة.
وكانت تطغى على وجوه السنابل مشاعر الزهو و السرور والمكابرة حتى إنها لا تكاد تكف عن الرقص تحت اقل نسمات الهواء مستقبلة أشعة الشمس في تضاحك ودلال.
أما ريحانة فكانت تشتغل في صمت وتجتهد من أجل بناء ذاتها و إخراج أكثر الزهور جودة و اكتمالا، دون أن يعيقها عن مهمتها أي استفزاز من السنابل.
تقدم الربيع رويدا وأخذ بيض الطيور بالتفقيس في الأعشاش و جمع النحل نصيبا وافرا من رحيق الزهور ، وحمله إلى الخلية عسلا صافيا نقيا، وبدأت حبات القمح تنضج على رؤوس السنابل. ثم قدم صاحب الحقل ذات صباح ناعم مشرق، وهو يدفع بالسنابل بيديه كي يفتح طريقا بينها ويمر. تابعت السنابل حركة الفلاح بصمت وهي تتساءل عن سبب إهماله لها و هو الذي غالبا ما كان يقف بينها ويفرك بعض منها بين يديه، ثم يبتسم ويشكر الله ويمضى سعيدا.
واصل الرجل طريقه حتى بلغ ريحانة، حينها ابتسم وأخذ يفسح عنها سيقان الزرع الملتصقة بها، فتمايلت واستلقت على بعضها البعض وأفسحت مكانا عظيم لريحانة. جثا الفلاح على ركبتيه وفتح حقيبته القماشية وأخذ يقطف زهور ريحانة برفق شديد ويضعها بحرص داخل جرابه ثم لما انتهى من عمله سوّىَ فروعها التي اضطربت ونظف من حولها المكان بعناية كي ينفذ إليها الهواء وأشعة الشمس، ثم قام عنها ومضى باحثا عن غيرها.
بدت السنابل حول ريحانة متكئة على بعضها وقد أخذ منها الغيظ مأخذا كبيرا. حينها نظرت إحداها المائلة على رفيقاتها وقالت :
ـ لست أفهم مالذي دفع بصاحب الحقل إلى الاهتمام بهذه العشبة الغريبة؟؟؟
نظرت سنبلة حكيمة وقالت :
ـ لنسألها علها تجيبنا عن سؤالنا، ثم خاطبتها قائلة :
ـ مرحبا أيتها الجارة المحظوظةهل لنا بمعرفة اسمك الكريم؟
ابتسمت ريحانة وقالت في تواضع :
ـ أنا ..أنا .. اسمي العربي ريحانة أو الحبق
أجابت السنبلة الحكيمة:
ـ عذرا هل أخبرتنا بسر اهتمام الفلاح الشديد بك ، مع انك لا تخرجين الحبّ المفيد مثلنا؟
أجابت ريحانة في تواضع كبير:
ـ قد لا تفهمينني أيتها السنبلة الجميلة ، و لكن كوني لا أخرج قمحا فذاك لا يعنى أنى غير مفيدة. إن في زهوري و أوراقي ما يستفيد به الناس على وجوه عديدة، كالعلاج من الأمراض و زيادة النكهات اللذيذة في الطعام وغير ذلك من زيوت التجميل ... ثم انحنت تواضعا وهى تنهي حديثها بصوت خافت.
التفتت إليها جميع جيرانها من السنابل وقد أثارهن حديثها فتدافعن إلى القول :
ـ أكل هذا الفضل لك، على صغر حجمك؟
أجابت ريحانة :
ـ من الحمق الحكم على الآخرين بالوضاعة و الدونية لعدم رؤيتنا لثمرات أعمالهم، فكثير من الذين يعملون أعمالا في الخفاء، يفيدون بها الناس فائدة عظيمة، فلا تأخذن بكم المظاهر للحكم على الآخرين.
أجابت سنبلة فتية وقد أعجبتها مقالة ريحانة :
ـ اغفري لنا ما بدر منا فقد أخذنا الغرور و أنستنا خصوبتنا فضل الآخرين
فابتسمت ريحانة وقالت :
ـ لا عليكن في الحقل كثيرات مثلي يعانين قسوة الآخرين ولكنهن لا يتوقفن أبدا عن العطاء. تلك سنة الله في خلقه.
ثم هبّت نسمة خفيفة فتميل لها سطح المرج متضحكا تحت أشعة الشمس الذهبية، ومسبّحا للخالق العظيم في ترتيلة أبدية صامتة، لكنها أكثر قوة وجمالا من أن تسمعها أذن بشريّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق