الأحد، 7 نوفمبر 2010

يعقوب الشاروني يكتب عن تجربته في الكتابة للأطفال

تجربتي في الكتابة للأطفال

يعقوب الشاروني
كانت هوايتي قبل أن أبلغ العاشرة من عمري أن أنسج من خيالي الحكايات، أحكيها لزملائي في المدرسة الابتدائية، خلال فترات الراحة بين الدروس.
وعندما بدأت اكتب في تلك السن المبكرة ، بدأت بتسجيل تلك الحكايات، مستفيدا بما كان الزملاء يلقونه من أسئلة أو تعليقات أو ملاحظات، وبما كانوا يعبرون عنه من شغف بالقصة.
وهكذا تعلمت في تلك السن المبكرة ، أهم خبرة يجب أن يحرص عليها من يكتب للأطفال، وهي الاستماع جيدا إليهم .
إننا إذا أصغينا جيدا إلى الأطفال ، سنتعلم كيف يري الأطفال العالم المحيط بهم وكيف يعبرون عن هذه الرؤية. سنعرف ما الذي يثير اهتمامهم و يثير خوفهم وسخطهم. سنعرف هذا، ليس فقط لنقدم إليهم ما يحبون أو نتجنب ما يخافون أو يكرهون، بل لنحاول، من ناحية أن نرضيهم إذا اتفق هذا مع القيم التربوية والاجتماعية السليمة أو نحاول تعديل اتجاهاتهم إذا وجدنا تعارضا بين ما يحبون أو يكرهون وبين ما يجب أن يكونوا عليه.
هنا يثور سؤال في ذهني: ( من الذي يقرر ما الذي يجب أن يكون عليه الأطفال؟! هل أنت فنان أم رجل تربية أم رجل سياسة ؟ ) ثم أعود فاسأل نفسي ( وهل يمكن فصل الفنان الذي يكتب للأطفال، عن المُربي، وعن السياسة والاقتصاد والاجتماع ؟! )
ولقد حرصت لسنوات طويلة علي أن استمع إلى الأطفال، خلال ما يدور بيني وبينهم من نقاش، في مختلف بيئات مصر ومحافظاتها، وأنا أحكي لهم الحكايات أو وأنا جالس في وسطهم داخل قاعات مكتبات أو نوادي الأطفال، ولقد استفدت الكثير والثمين خلال تلك الساعات الممتعة، عن اهتمامات الأطفال، وخيالهم ، وكيفية رؤيتهم للعالم ، وتعبيراتهم وألفاظهم .
لقد تعلمت من الأطفال أنهم يحبون الدخول في موضوع القصة من السطر الأول، وليس من الصفحة الأولى !
وأنهم يحبون الخاتمة العادلة، التي يكافأ فيها الأخيار العادلون، ويعاقب الأشرار الظالمون .
وأنهم لا يحبون الانتصار السهل، بل يشوقهم أن يتابعوا كفاح البطل ضد العقبات، إلي أن يتغلب عليها .
وأنهم رغم هذا، يحبون أن يشيع جو المرح فيما يقدم إليهم ، أو علي الأقل ، ألا يشيع فيه جو الاكتئاب أو الحزن أو الإحباط .
تعلمت منهم أنهم يحبّون الحكاية المحبوكة الواضحة المتتابعة الأحداث، ذات البداية والذروة والنهاية، بحيث يستطيعون إعادة روايتها بسهولة وهم يسألون أنفسهم بعد كل فقرة يسمعونها أو يقرءونها ( وماذا بعد ؟ ).
لكن كل هذا لا يتعارض مع ضرورة أن تدور أعمال الكاتب حول ما يريد أن ينميه في الأطفال من اتجاهات وقيم وأفكار وسلوك وبشرط أن يجيء كل هذا كجزء من نسيج العمل الفني وليس مقحما أو دخيلا عليه، فالعمل المقدم للأطفال لا يتحمل كلمة حشو زائدة سواء كانت نصيحة أو فكاهة أو موقفا مثيرا ، وإلا ضاع العمل بين الخطابة والضحك والإثارة !
تعلمت من الأطفال أنهم علي استعداد لأن يتقبلوا أي موضوع نقدمه إليهم إذا عرفنا كيف نقدمه بما يتناسب مع خبراتهم وقدراتهم علي الاستيعاب، حتى موضوعات الموت والإحباط وفقد الأحباء وتخلي الرفقاء، بل يجب أن نمهدهم نفسيا من خلال الأعمال الأدبية والفنية ليواجهوا مثل هذه المواقف بحس عقلاني، مسلحين بالفهم والصلابة والأمل. إن معظم القصص الشعبي يدور حول محاولات البطل للتغلب علي قوي تبدو دائما اقوي منه، لكن بالعزيمة الصادقة وبالصلابة والذكاء وحسن الخلق يتغلب عليها جميعا في النهاية.
تعلمت أن اتأمل بحب وتقدير ( رسوم الأطفال ) فمنها استطعت أن استشف بوضوح كيف يري الأطفال العالم. إنهم يضخمون ما يثير انتباههم وما يكون هاما أو فعالا، لكنهم يحذفون أو يقللون من شأن غير الهام وما لا يقوم بدور أساسي. إنهم لا يهتمون بالتفاصيل. إنهم يستخدمون الألوان التي يحبونها ولا يهمهم أن تتطابق مع ألوان الأشياء في الطبيعة. إنهم يرسمون ما يعرفون وليس ما يشاهدون، فيرسمون داخل الأشياء وخارجها كأنه لا توجد حواجز تمنع الرؤية، ويجمعون في مكان واحد أشياء وأحداث تقع في أماكن وأزمنة متعددة، كما يجمعون في رسومهم بين الواقع والخيال المنطلق. ولو فعل الكبار هذا لأدخلنا عملهم في نطاق اللامعقول أو المذاهب الفنية الحديثة، لكنها بالنسبة للطفل هي عالمه المنطقي والمعقول، فعالمه يبدأ وينتهي بالخيال، حيث تتفاعل الخبرات التي تقع عليها حواسه.
لندرك قوة تأثيرنا علي الأطفال
كذلك عرفت خلا ل عملي الطويل للأطفال ومع الأطفال، أن للكلمة المكتوبة سحر قوي وتأثير دائم، لا يستطيع الطفل الفكاك منهما، فأدركت مسئولية كاتب الأطفال الخطيرة أمام جمهوره. لذلك أحرص في كتاباتي لهم علي تجنب بعض الموضوعات، أو التركيز علي موضوعات أخري .
إنني قد أتحدث عن فشل البطل مرة، لكن لابد أن يكون هناك دائما الأمل في أن ينجح في مرة تالية. لكنني أتجنب تماما الحديث عن اليأس المفضي إلى التخلي عن كل محاولة تالية.
إنني أحرص في كل ما أكتب علي تشجيع وقوف الصغار موقف النقد من تصرفات البالغين التي تتعارض مع ضرورة تنمية قدرات الأطفال علي الإبداع والابتكار، وعلي الاستقلال واتخاذ القرار، وعلي الحق في ابداء الرأي والمناقشة.
وأحرص في كتاباتي علي إعطاء الفتي والفتاة أدوارا متوازنة في العمل الأدبي، وعلي تأكيد عدم التفاوت بين قدرات البنت والولد، فالصورة التي نقدم عليها الفتاة في أدب الأطفال ، كثيرا ما تؤثر بعمق في الصورة التي ترسمها الفتاة لنفسها في الحياة الاجتماعية واليومية .
كما أحرص أن يمتد بصر الأطفال إلى المستقبل، وأن يكون بحثهم المستمر ليس فقط عما حدث في الماضي، بل أن يستشرفوا احتمالات المستقبل العلمية والفكرية والثقافية والفنية. فبغير النظرة المستقبلية، لن نستطيع أن نجد لنا مكانا في عالم القرن الحادي والعشرين.
وأتجنب أي موقف يمكن أن يؤكد فائدة اللجوء إلي الشعوذة أو السحر . وكم يقدم لنا القصص الشعبي من مواقف تم حسمها نتيجة نصيحة منجم ، وبعد استشارة ساحر أو ضارب رمل . إننا عندما نردد علي سمع الصغار أمثال هذه القصص نؤكد في وجدانهم سلطان الخرافة، وكأنه لا يكفينا ما هو شائع علي نطاق واسع، حتى بين أكثر الفئات تعليما، من لجوء إلى الخرافة للبحث عن ثروة ضائعة ، أو حظ مفقود، أو سر جريمة غامضة، أو شفاء أصبح مستعصيا !!
إنني أتجنب فيما أكتب أي إنقاص من شأن العلم أو أية سخرية بالعلماء. فنحن الآن نعيش عصر العلم، ولابد من إعلاء قيمة العلم واحترام العلماء في وجدان الأطفال، علي الأقل، لتوجيههم إلى حب العلم ، واختياره مهنة لهم أو هواية .
إنني أتجنب تمجيد فكرة الطاعة المطلقة، التي تتعارض مع حرية القول وضرورة الحوار واحترام الرأي الآخر، وضرورة الاقتناع بما يجب أن نفعل وما يجب أن نمتنع عن فعله. وأجد حرجا شديدا عندما أجد الأطفال يستمعون إلي القصص التي تدور حول صاحب الدار الذي يسمح لزائره أو صديقه أو زوجته أو ضيفه أن يأكل من كل طعام ماعدا ما هو مغطى في طبق صغير وسط المائدة، أو أن يفتح كل أبواب البيت ويدخل كل غرفة ماعدا باب غرفة واحدة، وإلا حل به اشد العقاب، وبغير ذكر سبب لمثل هذه النواهي إلا إعلاء قيمة الطاعة المطلقة، بغير منطق أو سؤال أو استفسار.
إنني أتجنب التركيز علي مواقف العنف، بل أتجنب أي موضوع يدور حول القتل أو الإيذاء . وإذا استلزمت القصة شيئا من هذا ، فلابد أن يكون كنوع من العقوبة، وليس مجرد انتقام أو رغبة في انتصار علي خصم، وبحيث تبرر أحداث القصة هذه ( العقوبة )، ولعلني اهتم بتأكيد هذه القضية، لأن هناك قصص متداول علي نطاق واسع في العالم العربي، يسرف في وصف مواقف العنف وفي استخدام تعبير ( الانتقام ).
كذلك أتجنب أي حل لمشكلات بطل القصة عن طريق الاعتماد علي القوة، فالحضارة في أهم سماتها هي إحلال للعقل محل القوة، أما ما تقدمه قصص مثل حكايات طرازان والرجل الخارق للطبيعة من اعتماد مطلق علي القوة، فهو إلغاء لأهم انجازات الحضارة والتقدم وعودة بالإنسان إلي عصر الغابة.
كذلك أتجنب إثارة الاهتمام بقوي الشر أو الانحياز لها، حتى لو كان ذلك في سبيل التشويق أو في بعض المواقف وليس كلها .
وقد يقال أن بعض القصص التي تعتمد إلى تمجيد الشر في بعض أجزائها، إنما تعرض السلوك الخاطئ، ليقوم الكاتب بإدانته في خاتمة القصة، لكن الحقيقة أن الأطفال يتأثرون بمختلف مواقف القصة التي يطالعونها، لما في تلك المواقف من حركة وتشويق، فإذا كانت تلك المواقف تتضمن انتصار الشر أو تمجيده أو إظهار بطولته، فإن هذا هو الذي سيؤثر بعمق في الأطفال، أكثر كثيرا مما يتأثرون بخاتمة ندين بها الشر ببعض الكلمات أو العبارات .
كذلك أتجنب القصص التي تقوم علي السخرية من الآخرين أو فيها ازدراء للإنسان بسبب لونه. وكم نخطئ عندما نصف الشرير بأن ( قلبه أاسود )، أو أن البطل استيقظ ذات صباح فأحس أنه سيواجه ( يوما أسود )، أو انه وقع في ( ورطة سوداء )، فهذه كلها تعبيرات تؤدي إلى ربط الأخلاق بلون البشرة وهو ما ينمي المشاعر العنصرية ضد أصحاب لون بعينه .
كذلك أتجنب ربط جمال الوجه بالخلق الحسن، وقبح الوجه بالسلوك السيئ، وهو ما نجده في كثير من القصص الشعبي، فالواقع يؤكد أنه ليس هناك تلازم بين جمال الوجه وجمال النفس، بل العكس قد يكون صحيحا في أحيان كثيرة . فالجمال كثيرا ما يدفع صاحبته إلي التعالي والغرور والمباهاة، بينما المحرومة من الجمال قد تحرص أن تعوض ذلك بجمال السلوك . ولعل شخصية ( أحدب نوتردام ) التي أبدعها فيكتور هوجو لا تقول شيئا اقوي من هذا .
اكتشاف المميزات الخاصة بآداب الأطفال
ولعل من أهم ما يخرج به الكاتب من تجربته في الكتابة للأطفال، اكتشاف المميزات الخاصة بأدب الأطفال . فلم تكن المادة الأدبية لقصص الأطفال التقليدية التي ظلت الشعوب تحكيها لأطفالها علي مر الأجيال، منفصلة عن قصص الكبار، ولم تنشأ منعزلة عن التيار العام لخيال وتفكير كل في مجموعة، ذلك أن المتطلبات الأساسية لأدب الأطفال يتطلب مراعاة بعض الاعتبارات الخاصة، بالإضافة إلى ما يتطلبه الأدب بوجه عام، وهي اعتبارات تقتضيها الخصائص النفسية لمرحلة الطفولة، وضرورة مراعاة مراحل النمو المختلفة، خاصة فيما يتعلق بقدرة الأطفال على استيعاب وتقبل الموضوعات والصور والأفكار.
كذلك فإن العمر الذي نوجه له العمل الأدبي، يحدد المحصول اللغوي الذي يمكن أن نتعامل به مع ذلك العمر.
كما تقتضي الكتابة للأطفال، اختيار الكلمات ذات المضمون المادي الملموس، التي تعبر عن السمع والبصر واللمس والشم والتذوق، أكثر من الكلمات ذات المعاني المجردة.
هذا بالإضافة إلى ضرورة توخي البعد عن التعقيد فيما نقدم للأطفال من أدب، فنقلل عدد الشخصيات في العمل الأدبي، ولا نزحمه بالأحداث، ونتركه يتقدم في خط مستقيم بغير خطوط جانبية أو عودة إلى الماضي، ونشيع فه روح المرح، ونتجنب ما لا يناسب الصغار من موضوعات، مثل موضوعات الجنس والعنف.
وقد يراعي المؤلفون بعض هذه الاعتبارات فيما يقدمون من أعمال أدبية للكبار، لكنها اعتبارات لابد من مراعاتها كلها في الأعمال الأدبية المقدمة للصغار، وذلك بسبب الحرص على أن تصل تلك الأعمال إلى الجمهور الذي تخاطبه، بحيث يفهمونها ويستسيغونها، فيستمتعون بها، ويقبلون عليها، ويحبونها، فيصل مضمونها إلى عقولهم ونفوسهم، ويؤثر في سلوكهم وأفكارهم.
كل هذا يجعل الكتابة للأطفال أصعب كثيرا من الكتابة للكبار. فعندما يكتب الأديب للكبار فإنه يخلق عوالما لعقول قد تشبعت فعلا بقدر من المعرفة والانطباعات، والخبرات والصور والذكريات، واتخذت تجاه كثير من القضايا مواقف محددة، وبذلك يسهل على الكاتب أن ينقل إليها ما يريد أن يقول. أما عند الكتابة للأطفال، فإن الكاتب يتعامل مع عقول لم تتشبع إلا بالخيال المنطلق. وهكذا تأتي الصعوبة في التعرف علي أسلوب الأطفال في التخيل، وكيفية إدراكهم للصور والكلمات التي نقدمها إليهم .
إن نجاح كاتب الأطفال يعتمد علي قدرته في أن يري الطفولة كاملة : حيويتها ، ومشكلاتها، اهتماماتها ومخاوفها، وبهذا يمكن أن يكتب الكاتب كتابا يحبه جيلان متعاقبان من الأطفال، وأن يقرأه الطفل الواحد أكثر من مرة، وبعد أن يقرأه يضعه تحت وسادته بالليل، وبذلك نقدم للأطفال مادة تساعد علي نموهم ونضجهم، هذا النمو والنضج اللذان يساهمان أكبر مساهمة في تقدم الحضارة والبشرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق