أحمد طوسون
شاهدَتْ الفأرةُ صورتَها في المرآةِ .
تأملتْ شعْرَها الكستنائي المعقودَ بشريطٍ أبيض وفستانَها الأحمرَ الجميلَ وأدْهَشَّها جمالهُا الساحرُ الذي يسرقُ العيونَ ويأسِّرُ القلوبَ و العقولَ .
سارَتْ في خُيَلاء وألتفتَتْ إلى جرذٍ مفتولِ الساعدين وله شاربان أسودان كبيران جاء يتمسحُ بها ويطلبُها للزواجِ وقالَتْ ساخرةً :
- إليكَ عني أيها البائس الضعيف الذي لا يملك إلا جحراً ضيقاً يسّعُه بالكادِ .
جمالي لا يستحقُه إلا أقوى المخلوقاتِ وأعظمها شأناً !
امتصَ الجرذُ غضبَهُ وانسحبَ يُرددُ بأسى :
- كمْ هي مغترةٌ بجمالِها ؟!
وانصرفَتْ عنه لتبحثَ عَنْ مخلوقٍ قوي جدير بها وبجمالِها ، وليس جرذاً يهربُ عند الخطرِ إلى أي شقٍ في جدارٍ أو في شجرةٍ أو في الأرضِ .
ويا ليّته يهربُ مِنْ شيءٍ ذي قيمةٍ ، بَلْ يكفي أنْ يرى هرّاً لتصطكَ قوائمُهُ وترتعدُ وينبضُ قلبُه بسرعةٍ مجنونةٍ مِنْ الخوفِ .
وقالَتْ :
- لا أريدُ أنْ أعيشَ في حذرٍ دائم ٍ.
فأرةٌ جميلةٌ مثلي تستحقُ حياةً أفضَّلَ .
فكرَتْ الفأرةُ الجميلةُ وقالَتْ لنفسِها : ( لا يليقُ بي وبجمالي إلا الأسدُ ملكُ الغابةِ وأقوى حيواناتِها )
وذهبَتْ إلى غابةِ الأسدِ لتقابلَ ملكَ الغابةِ وتعرضُ نفسَها عليه .
ابتسمَ الأسدُ الحكيمُ وقالَ :
- أنتِ حقاً أجمل ما شاهدت عيناي
وتستحقين أقوى المخلوقاتِ ..
وأرى أنَّ الشمسَ أحق بكِ مني .
فكلُّ قوتي لا تستطيعَ أنْ تحميني من حرارةِ الشمسِ
حين تسخن شعاعاتُها وتلتهبُ .
بينما كان يقولُ في نفسِه :
( هل هي مجنونةٌ لتفكرَ بالزواجِ من أسدٍ ، أم إنَّها مغرورةٌ جداً .
ماذا سأفعلُ بزوجةٍ جميلةٍ لا تستطيع أنْ تصطادَ وعلاً يُشبعُ جوعي ) .
ركبَتْ الفأرةُ المغرورةُ بالونَها و ذهبَتْ إلى بيتِ الشمسِ البعيدِ وراءَ التلِ .
كان البيتُ يشبه تفاحةً حمراء قانية ، كبيرة جداً بصورةٍ لم تكن تتخيلُها .
بيتٌ بعيدٌ وهادئٌ يلفُّه السكونُ والرهبةُ .
الشمسُ ذات الخيوطِ الذهبيةِ اكتسَتْ بأضوائها القرمزيةِ و قالَتْ :
- للأسف يا جميلتي ..
لست قويةً بالصورةِ التي تتوقعينها .
السحابُ الأبيضُ أجدرُ بكِ مني ..
فبإمكانِه في كلِّ وقتٍ أنْ يَحجِبَ شعاعاتي الذهبيةَ عن الأرضِ .
بينما كانت تقولُ لنفسِها :
( هل هي مجنونةٌ لتفكرَ بالزواجِ من شمس ، أم إنَّها مغرورةٌ جداً .
هل تستطيعُ فأرةٌ أنْ تتحملَ حرارةَ شمسٍ تصلُ إلى درجةِ الأحتراقِ .
يا لها من غبيةٍ ؟! )
جرجرَتْ الفأرةُ خطواتِها وتهادَّتْ مثل طاووسٍ وركبَتْ بالونَها وقَصَدَتْ واديَّ السحابِ .
كان كلُّ شيءٍ حولها ناصعَ البياضِ .
من بعيدٍ رأت ديماتٍ صغيرةً تلهو وتلعبُ مع النجومِ الزاهيةِ وحين انتهينَّ حملنَّ حقائبَهنّ وذهبنَّ إلى مدارسِهنّ التي في السماءِ تنتظرهن .
والسحابُ الأبيضُ الطيبُ الذي يشبهُ نتفَ القطنِ قالَ بأسى وقطرات بلورية صغيرة تشبه الدموعَ تتساقطُ من عينيه :
- ليتني كنتُ حقاً أقوى المخلوقاتِ ..
إنَّني أضعفُ مما تتخيلين ..
يكفي أنْ يتقابلَ الهواءُ الباردُ مع الهواءِ الساخن لأذوبَ إلى قطراتٍ صغيرةٍ وأًسْقُطَ مطراً على الأرضِ .
الريحُ الغاضبةُ بالتأكيدِ أقوى وأجدَّرُ بكِ مني
فبإمكانها أنْ تقودني إلى حيث تشاء .
بينما كان يقولُ في نفسِه : ( يا لها من مسكينةٍ ، لا يوجدُ مخلوقٌ كاملٌ ، الكمالُ لله وحده ) .
طارَ البالونُ الملونُ بالفأرةِ الجميلةِ بحثاً عن طريقٍ يوصلُهما إلى بيتِ الرياحِ ، لكنَّ الريحَ الغاضبة دائماً فاجئتهما بعاصفةٍ من التياراتِ الهوائيةٍ التي تلاعبَتْ بالبالونِ وطوحَتْهُ يميناً ويساراً ، ولم تعدْ الفأرةُ قادرةً على التحكمِ في مسارِه حتى انخلعَ قلبُها رعباً .
حينها توقفَتْ الريحُ عن ألعابِها البهلوانيةِ ، وسكنَتْ بعد أنْ أطلقَتْ صفيراً موجعاً ، وسألت الفأرةَ عن السببِ الذي جعلها تسألُ عن الرياحِ .
استعادت الفأرةُ أنفاسَها بصعوبةٍ قبْل أنْ تحكيَّ للرياحِ قصتَها .
ضحكَتْ الريحُ وتصاعدَّتْ منها دوماتٌ هوائيةٌ شديدةٌ بثَّتْ الرعبَ في قلبِ الفأرةِ الجميلةِ وقالَتْ باستغرابٍ :
( ذلك الجرذُ المسكين
يا له من ضحيةٍ لجمالِكِ الفاتنِ !
مَنْ قالَ إنَّني أقوى المخلوقاتِ ، اذهبي أيتها الفاتنةُ إلى الجبلِ الراسخِ في شموخٍ ربما كان الأقوى .
فأنا بكلِّ قوتي وعنفواني لم استطعْ تحريكَه من مكانِه – عبْر سنين طوال _ قيد أنمله ؟! ) .
أسرعَتْ الفأرةُ وطارت ببالونِها بعيداً وهي تحمدُ الله - في سرِها - أنْ الريحَ ليست أقوى المخلوقاتِ ! .
انطلقَ البالونُ إلى الجبلِ الشامخِ الذي وقفَ صامداً منذ آلاف السنين في وجه الطبيعةِ وتقلباتِها .
حين وصلت الفأرةُ إلى الجبلِ وحيَّته وتكلمَتْ معه ضحكَ حتى ارتجت الأرضُ تَحتَ قدميّ الفأرةِ الجميلةِ وقالَ :
- ولماذا لا تتزوجين من أحدِ الجرذانِ أيتها الجميلة ؟
تعجبت الفأرةُ المغرورةُ وقالَتْ :
- ألا تعرف أيها الجبلُ كم نحن مخلوقات بلا فائدةٍ ولا قيمةٍ لها
لاتجيد الفئرانُ شيئاً إلا أنْ تَقْرِّضَ وتأكلَ وتُفسدَ في الأرضِ ؟
لكن الجبلَ الشامخَ لم يُصدقْ على كلامِ الفأرةِ المغرورةِ والجاهلةِ أيضاً ، وقالَ لها : ( يا صغيرتي لا يوجد مخلوقٌ على الأرضِ بلا فائدةٍ ، وكلُّ مخلوقٍ يقومُ بعملِه الذي كلفَه به خالقُه سبحانه وتعالى ، ويكفي أنَّ كثيراً من فئرانِ التجاربِ ضحوا بحياتِهم من أجل اكتشافِ أدويةٍ جديدةٍ للإنسانِ - الذي كرمَّهُ الله وجعله سيداً على باقي المخلوقاتِ – لتقيهم من الأمراضِ ويتفرغ البشرُ لعمارةِ الأرضِ واصلاحِها وعبادةِ الخالقِ ربِّ القدرةِ العظيم ) .
اعترضَتْ الفأرةُ المغرورةُ وقالَتْ :
- حتى لو كان كلامُكَ صحيحاً
الفئرانُ مخلوقاتٌ ضعيفةٌ وأنا أريدُ مَنْ يحميني
فالعالمُ لايحترمَ إلا الأقوياءَ .
ابتسمَ الجبلُ وقالَ :
- يا جميلتي القوةُ ليست القوةَ الجسديةَ والبدنيةَ
القوةُ الحقيقيةُ أنْ نكتشفَ قدراتَنا وننميَّها بالعلمِ والعملِ وساعتها سنحمي أنفسَنا بأنفسِنا ..
ولن ننتظرَ كالكسالى مِنْ الآخرين أنْ يمنحونا أماناً زائفاً .
إنكِ يا صغيرتي تبحثين عن سرابٍ .
الجبلُ الواقفُ أمامَكِ لم يستطعْ أنْ يمنعَ جرذاً صغيراً من أنْ يحفرَ جحراً في جسدِه ويتخذَه بيتاً ! .
وما كاد الجبلُ يَفْرغُ من كلامِه حتى انتبهَتْ الفأرةُ إلى نتوءٍ بارزٍ بالجبلِ يشبهُ سكيناً حاداً وخزَ البالونَ الذي تركبُه ، فخرجَ الهواءُ منه سريعاً إلى أنْ انفجرَ البالونُ وتناثر قطعاً صغيرةً سقطَتْ على الأرضِ وسقطت معه الفأرةُ بالقربِّ من جُحرِّها .
لم تُصدقْ الفأرةُ إنَّها نجَّتْ ، كما لم تصدقْ الصورةَ التي رأتها في المرآةِ ، فقد كان وجهُها الجميلُ مخضباً بالدماءِ والترابِ والجروحِ .
وظلَّت تصرخُ وهي تداري وجهَها بكفيِّها وتقولُ :
- ليس معقولاً أنَّني الواقفةُ أمامي في المرآةِ !
بعدها عادت الفأرةُ الجميلةُ إلى صوابِها وتطايرَ غرورُها كما خرجَ الهواءُ من البالونِ وذهبَتْ لتبحثَ عن الجرذِ الذي طلبها للزواجِ ، لكنَّها وجدته تزوجَ بفأرةٍ أخرى ربما كانت أقلَّ جمالاً ، لكنها بالتأكيدِ كانت أكثرَّ عقلاً .
عادت الفأرةُ حزينةً إلى جحرِّها وهي تقولُ لنفسِها :
- آهٍ يا ألمي
لقد تصرفتُ كالحمقى
وأضعتُ جرذاً كان جديراً بالأحترامِ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق