الأربعاء، 19 ديسمبر 2018

"المناضلة الصغـيرة" قصة للأطفال بقلم :وهيبة سقاي


المناضلة الصغـيرة
بقلم :وهيبة سقاي
قسنطينة / الجزائر

خلال الثورة التحريرية المظّفرة، ضّد تواجد الاستعمار الفرنسي بالجزائر، كان للمرأة الجزائرية مساهمة كبيرة في النّضال المسّلح، و نصيب لا يستهان به في معركة نيل الحرّية ، إلى جانب أخيها الرّجل.
لقد جاهدت  سيّدة البيت  بإخفاء المجاهدين و إيوائهم  و إطعامهم، و مداواة المرضى و تضميد الجراح، فجعلت بيتها  مأوى و مستشفى للمصابين، و ساعدتها الفتيات في أداء هذه المهّمة الجليلة، بأعمال التمريض، و خدمة الجيش وراء خطوط القتال،  بنقل الرّسائل و الأدوية و المؤونة.
القصّة التالية تروي معاناة طفلة صغيرة، شاء لها القدر أن تعيش أحداثاً و مآسي لا تقوى بنات سنّها، على  تحمّل و لو  الجزء اليسير منها.
في إحدى المدارس الفرنسية بالجزائر العاصمة، انزوت طفلة صغيرة  في ركن من فناء المدرسة الواسع الفسيح، و انكّبت على عمل شَغَلَها عن كّل ما حولها ،و ألهاها عن المرح و الّلعب مع أترابها.
تقّدمت المعلّمة الفرنسية من  الجزائرية الصغيرة و سألتها :
ــ ماذا تفعلين ؟
ــ إنّي أنسج الصّوف كما ترين يا سيّدتي ،ردّت الصغيرة .
ــ و لكن يبدو انّك تعملين لغيرك ، فهذا الذّي تنسجينه لا يناسبك. إنّه أكبر منك  بكثير، و لونه رجاليّ لا يليق بك، قالت المعّلمة .
رّدت الطفلة بفخر :
ــ بالفعل، إنّه  ليس لي ،إنّه للمجاهدين .
اندهشت المعّلمة من  رّد الطفلة :
ــ أتجرئين  بالمجاهرة بالعمل للمجاهدين أيتها الوقحة ؟ !.
ــ لقد سألتني و أنا أجبتك، ردّت عليها الطفلة بثبات. هل كنت تخافين، عندما كنت تعملين للمقاومة السرّية، أيام الاحتلال الألماني لبلادك؟!.
ــ لا، لا ، ما هذه الوقاحة ؟ ! تعالي معي إلى مكتب المدير، إنّ أمرك لا يمكن أن يمّر من دون عقاب، ردّت المعّلمة غاضبة.
و جذبت الطفلة من ثيابها و جرّتها إلى مكتب المدير  كما تُجرُ البهيمة إلى المذبح، و دخلت بها عليه، فاندهش هذا الأخير من اقتحام المعّلمة لمكتبه من  دون  استئذان  :
ــ ماذا هناك يا آنسة "مونيكا" ؟  كيف تقتحمين علّي مكتبي بهذه الطريقة ؟.
ــ معذرة سيّدي، و لكن الأمر الذّي جعلني أتصّرف بهذه الطّريقة بالغ الخطورة. و قصّت على المدير
ما الذّي جرى بينها و بين التلميذة الجزائرية .
لم يصّدق المدير ما سمعه، ظّل صامتا لزمن يرمق الطفلة، ثّم التفت للمعّلمة مخاطبا إيّاها:
ــ دعينا لوحدنا من فضلك، انصرفي إلى مهّامك .
نظر المدير إلى الطفلة بغضب :
ــ أماّ أنت أيتها الحقيرة ،التفتي إلى ركن الغرفة ، و ضعي يديك فوق رأسك لحين الفصل في شأنك، هيّا بسرعة !.
 بعدها رفع سمّاعة  الهاتف و اتّصل بفرع الشرطة العسكرية التّابعة لدائرة الجزائر العاصمة،و بنبرات جّادة لخّص لهم الموضوع الّذي يستوجب حضورهم  الفوري من أجله إلى عين المكان.
حضر الضّباط إلى غرفة المدير لاستجواب و محاكمة الطفلة الصغيرة، فلربّما كان من وراء حياكتها ألبسة للمجاهدين، معرفة بتفاصيل أخرى لهذه الجماعة، الّتي انتزعت النّوم من جفون الضبّاط الفرنسيين منذ الفاتح من نوفمبر 1954.
كانت هذه الطفلة لم تزل في العاشرة من عمرها، شاحبة هزيلة، تتفرّع من فوق بدنها الجّاف أطراف دقيقة كالعّصي، لو انّك أمسكت بها لخِفتَ أن تتهّشم في يدك. و مع ذلك فكان  يُلمحُ في عينيها  شعاع، يدّل على الوعي و الذّكاء، و الإحساس بالمسؤولية.
شرع الضّابط  السّامي في استجواب الطفلة، و أمطرها بوابل من الأسئلة من دون حتّى أن يمنح لها الفرصة بالرّد على واحدة منها :
ــ هل تعرفين أسماء المجاهدين الذّين تحيكين لهم ملابس صوفية؟ هل يأتون إلى بيتكم ؟ هل يمكن لكِ أن تصفي لنا شكل من يرأسهم ؟ هل لك فكرة عن مكان تواجدهم ؟ و ماذا عن مخطّطاتهم؟  هياّ رّدي يا حقيرة ..هل أصبتِ بالصمّم ؟  هل أنتِ خرساء ؟.
كان الضّابط يطرح أسئلته بصوت عال، بنبرة عصبية و عنيفة. كلامه يتخلّله  سعال من فترة لأخرى. 
ــ ليست لي أجوبة على أسئلتك يا سيّدي، و لا يمكنني إضافة أي شيء، على ما صرّحتُ به آنفا لمعلّمتي ، ردّت الصغيرة .
ــ هكذا إذن !..تتحّدين دولة "فرنسا" التّي تؤويك، و تطعمك، و تعلّمك أنت و الحشرات أمثالك، بعدم الرّد على الأسئلة و كتمان الحقائق، و التسّتر على المجرمين المرتزقة الذّين يدّعون "الجهاد" ؟ !. سنرى إن كنت تستطيعين أن تستمّري في عنادك !.
ــ أيّها الضّابط "ألبير" ،جرّدها من  كنزتها القذرة، و اجلدها بطرف حزامك الحديدي..وليأتي "أصدقاءها المجاهدون" لإنقاذها و الذود عنها.
اقترب الضابط "ألبير" من المحقّق و همس في أذنه :
ـــ لا يا سيّدي ، لا ترتكب هذا الخطأ الجسيم، سنخسر كثيرا لو جلدناها، إذ سيحقد كّل طفل عربي على الجمهورية الفرنسية، و يذكر لها هذه السيّئة على مدى التاريخ، و يجعل من هذه الطفلة الحقيرة بطلة، أو  رّبما سيُجعلُ لها تمثال كتمثال البطلة "جان دارك"، أرجوك لا تفعل !.
ــ و ماذا يمكننا فعله إذن ؟ رّد عليه  الضّابط السّامي، و لا  زالت نوبة من السّعال الحّاد تنتابه من حين  لآخر.
ــ لندعها تبيت لوحدها في مكان منعزل في هذه المدرسة، و نمنع عنها الطعام إلى غاية صباح الغد. صّدقني كّل الأطفال يخافون من  الوحدة، إنّهم  يتصّورون أشباحا و أراوحا شرّيرة يمكن أن تأتي،     و تفتك بهم ليلا.
سترى.. لا و لن تستطيع أن تقاوم الخوف و الجوع، و ستبوح بكّل ما تعرفه في الغد بكّل سهولة، ومن تلقاء نفسها.
و أصدر الضّابط السّامي  أمرا بحبس الطفلة في دهليز المدرسة، و أن يُمنعَ عنها الأكل و الشرب إلى غاية الصّبح، و أن لا يُعلمَ أهلها بذلك و لا بمكان تواجدها.
سيقت الطفلة المسكينة من طرف فرّاش المدرسة إلى دهليز بارد  رطب، ضوءه خافت،  بركنه كرسي خشبي قديم، ،بينما بركنه الثاني  أكياس بها موّاد بناء  مكّومة  فوق بعضها البعض.
 و بالرّغم من أن الفرّاش كان فرنسيا إلاّ أنّ قلبه قد حّن  لحال الطفلة، و أخذته الرّأفة بها، فرّبت بيده على كتفها و قال :
ــ و الّله يا صغيرتي أنا جّد آسف على ما نلته من هوان و معاناة. أنتِ فخر وطنك، سأروي قصّتك لأطفالي في "فرنسا"، إنّي لأتمّنى أن يدافع أبناؤنا هناك عن الجمهورية الفرنسية  بمثل إصرارك،     و بسالتك!.
ــ شكرا لتعاطفك يا سيّدي ،ردّت الصغيرة، هذا قدري و قدر كّل جزائري، و لكني مؤمنة  بان ثورتي سترّد كرامة شعبي المسلوبة لا محالة، و تنفض عنها غبار الذّل.إ
إنّها ستبّدل  الاستعباد  حرّيةً، و  الخوف أمناً، و  الضعف قوّةً، إلى أن يسترّد وطني مجده و عزّته .


إنّي لمستيقنة يا سيّدي، أنّ مجاهدينا البواسل سيحطّمون القيود و الأغلال، و سيحافظون على الأمانة، سيحافظون على هذه الأرض، أرض الأجداد،و التّي سيستلمها الأبناء و الأحفاد منهم، بعد ذلك، من دون أدنى شّك.
ـــ أتمّنى لكم ذلك يا بنّيتي، رّد عليها الفرّاش. تبّا لهذه الحرب الّلعينة التّي أبعدتني عن أهلي. لقد حدّثونا أننا سنجد هنا جنّات نغتصبها، و ثروات ننهبها بكّل سهولة، و لكن انظري، لقد فقدنا جنودنا،   و أُزهقتْ أرواح أولادنا، و دُّمِرَ اقتصادنا، و ضاعت هيبتنا..
يتنّهد الفرّاش تنهيدة عميقة ثّم يواصل كلامه :
ــ أما الآن يجب علّي أن أدعك هنا، وأنفذ الأوامر، سأحضر لك بعض الأكل خفية، هل ترغبين  بشيء آخر ؟.
ــ من فضلك أحضر لي القطعة الصّوفية التّي كنتُ أقوم بحياكتها، أريد أن أكملها هنا، و اسّلي نفسي بها، سأكون شاكرة لك إن لبيت لي طلبي هذا .
ظّلت المسكينة طوال الّليل منشغلة بحياكة قطعتها إلى أن بزغت  شمس نهار جديد . في صباح اليوم الموالي جاء الفرّاش، واقتادها إلى غرفة المدير، حيث اجتمع الضبّاط  لإصدار حكمهم على من سوّلت لها  نفسها تحدّيهم، و عدم الرّضوخ لإرادتهم .
ـــ أنصتي جيّدا لما سأقوله لك  أيّتها الحقيرة، بادر الضّابط السّامي بالكلام، لن نرحمك اليوم، إمّا أن تعترفي بما تخفينه من معلومات أو تجلدي حتّى الموت، لا وقت لنا لإضاعته مع أمثالك..هل تفهمين ؟.
كانت المسكينة ترتعد من شدّة البرد، تحتضن الكيس الذّي يحوي  نسيجها بقوّة  إلى صدرها، تنظر إلى الضّابط السّامي، غير مبالية بتهديده و وعيده،  كانت تنظر إليه  بحنان  و كأنها تعرفه منذ زمن بعيد.
ــ سيّدي من فضلك ،هل تسمح لي بكلمة ؟
ــ هذا ما نريده منك تكلمي هيّا ، عسى أن يكون حبسك في الدهليز طوال ليلة البارحة، قد لقّنك درسا، لا و لن يمكنكِ نسيانه.
فتحت الطفلة الصغيرة كيسها و أخرجت منه وشاحا صوفيا رمادي الّلون، و ناولته للضّابط السّامي :
ــ تفّضل سيّدي !
ــ ما هذا ؟ قال الضّابط مندهشاً.
ــ منذ أن حضرتَ إلى المدرسة لاستجوابي، لاحظتُ أنّ هناك نوبات من السّعال تنتابك ما بين الفينة    و الأخرى، قد يكون سببها البرد الذّي تتعرّض إليه،  و أنت تباشر عملك في الصّباح الباكر.
بدأت في نسج هذا الوشاح من أجل أن أهديه إلى أي شخص  أصادفه يكون في حاجة إليه. أتممته البارحة و أنا في حبسي في دهليز المدرسة ،  أظّن انّك أولى به من غيرك. أنظر كم هو أنيق و لونه يناسب بدلتك العسكرية، اقبله كهدية منّي، علّه يُدفئُ عنقك ،فتهدّأُ نوبات سعالك.
أمّا فيما يخّص المعلومات الّتي تريدني أن أوافيك بها ،فأنا لا أعرف شيئاً يمكن  لي أن أبوح به. إنّني فعلا أنسج ملابس للمجاهدين، ليسوا بالمجاهدين الّذي تظّن، و لكنّهم أطفال أيتام في ملجأ هنا بالعاصمة يحمل اسم " ملجأ المجاهدين"،  تتراوح أعمارهم بين الخامسة و العاشرة، و لك أن تتأكد من وجود هذا الملجأ بنفسك يا سيّدي الضابط.
من فضلك يا سيّدي ،أرني كيف يبدو الوشاح عليك قبل أن تنّفذ حكم جلدي .
اندهش الضّابط السّامي من تصّرف هذه الطفلة، من لطفها، من كرمها، و من نبل أخلاقها. هذه الّتي عاملها أسوأ معاملة  و حبسها في برد هذا الشّتاء في دهليز المدرسة الموحش، هذه التّي كان يوشك على  جلدها حتّى الموت من اجل ذنب لم تقترفه، و جريمة هي بريئة منها، ها هي الآن تحّن عليه،    و تقابل الإساءة بالإحسان.
أمضت ليلها كلّه، و هي تكمل حياكة الوشاح من أجله، ليّحس هو بالدّفء و تبرد هي المسكينة، ليتعافى هو من سعاله و تهلك هي !.
ما هذه الأخلاق التّي جُبلَ عليها هؤلاء الأطفال ..أطفال الجزائر ؟ !.
اقترب الضّابط السّامي بلطف من الطفلة و تناول منها الوشاح، تأمّله في صمت ثّم وضعه حول عنقه، اتجّه صوب المرآة المثّبتة على الجدار، تأمّل شكله للحظات، ثّم رجع للطفلة  انحنى و امسك بكلتا يديها ثّم قال :
ـــ وشاحك جّد جميل يا صغيرتي ،إنّه مُحاك بإتقان رائع، و لكنّه للأسف يجب أن يرتديه  من هو من بني البشر، إنّه لا يليق بي، أنا وحش، شخص من غير قلب، لست أهلا لمثل هذه الهدايا.
وضع الوشاح على مكتب المدير، قبّل ّ الطفلة، احتضنها  بحنان، ثّم  التفت إلى المدير قائلا :
ــ رافقوها لغاية بيتها، و اعتذروا لأهلها .
ثّم أشار إلى ضبّاطه، فتبعه هؤلاء، وغادروا جميعهم المدرسة، و كأن على رؤوسهم الطّير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق