الخميس، 29 نوفمبر 2018

رؤية نقدية فى أدب الأطفال عند يعقوب الشارونى قراءات فى المضمون رواية "تائه فى القناة " بقلم: د. أميمة منير جادو


رؤية نقدية فى أدب الأطفال عند يعقوب الشارونى

قراءات فى المضمون

رواية "تائه فى القناة "

بقلم: د. أميمة منير جادو
باحثة بالمركز القومى للبحوث التربوية
وزارة التربية والتعليم المصرية

                   

تُعد رواية " تائه فى القناة " التى يُقدّمها الشارونى للطلائع، من أهم وأجمل القصص التى تؤرّخ لفترة مُهمّة فى حياة مصر، وهى فترة حفر قناة السويس فى عهد الخديوِ سعيد. (صدرت " تائه فى القناة " عن المكتبة الخضراء للأطفال، العدد 53، دار المعارف، القاهرة، عام 2004).
وقد تناول الشارونى موضوع حفر القناة بأسلوبه الأدبى المُتميّز، الذى يصف ببساطة ووضوح كيف تمّ الحفر، وهو طرح جرىء وغير مسبوق، خاصة عند تقديمه للأطفال والطلائع من أبناء هذا الجيل الذى نشأ فى أحضان الكمبيوتر وكل مُيسّرات الحياة التكنولوجية الحديثة التى لم يعرفها أبناء الأجيال السابقة من آبائنا وأجدادنا...
فلا أحسب أن هناك الآن من البيوتات المصرية بيتــًـا لا يوجد فيه تليفزيون أو ثلاجة أو غسالة أو مذياع، فإذا لم توجد بعض هذه الأجهزة فإن الطفل يراها عند الجيران، وإن الطلائع ليُشاهَدُون على المقاهى وعبر محلات تأجير الكمبيوتر لألعاب الجيم أو للدخول على شبكة الإنترنت، أعنى أن أبناء هــذا الجيــل مُــدلّلون بشكل مــا بالنسبــة لآبائهــم وأجدادهم الذين عملوا فى السُّخرة من أجل الحصول بالكاد على لُقمة العيش.
*          *          *
إن الشارونى يرصد ببراعة عبر الحكى القصصى، كيف أُجبر الأطفال مع الشباب على أعمـال الـسُّخرة والـحفـر وحـمل الأثـقال من رمال وصخور وردم ممّا يخرج من الصحراء  عنـد حفر قناة السويس.       
الرواية تدور فى إطار قصصى اجتماعى شيّق، لتعكس كافة جوانب المُجتمع بذكاء بالغ من الكاتب، فهى وإن كانت تحكى قصة فلاّحة فقيرة أرملة تكد وتكدح من أجل أبنائها، إلا أنها تعكس الواقع السياسى والاقتصادى فى تلك الآونة من خلال تنامى الأحداث الدرامية، التى تبدأ بالسطو على منزلها من قِبل هؤلاء الذين يُمثــّـلون السُّلطــة الحاكمة فى ذلك الوقت، لأخذ ابنها البالغ من العُمر (12) عامًا فقط، بعـد أن سبق وأخذوا ابنهــا الأكبر ولم تعد تعلم عنه شيئــًـا.
وعندما تــُـحاول إخفاء الأصغر حتى لا تفقده هو أيضــًـا، فإنهم يخطفون منها طفلها الثالث الصغير جدًّا ليهدّدوها بهذا الأسلوب لتسليم ابنها الأكبر قليلاً. وعندما نقرأ نكتشف أنها واقعة بين أمرين كلاهما مُـرّ.
والقصة تُمثـّل فى مُجملها لوحة تعبيرية رائعة ومُثيرة لدموع الروح، حُزنًا وشفقة على هذه المرأة الأرملة التى لا سند لها فى الحياة ولا حيلة لها من أمرها...
إنها مصرية تــُـمثــّـل آلافًا من الأمهات بل ملاييـن فى ذلك الوقت.. هى أم ترمز لمصر بأكملها فى وقت ساد فيه الفقر والجهل والمرض، وسَرَقَها حُـكَّامُها وأَذَلَّوا شعبها الطيّب وأهانوه وقتلوه وزيّفوا الوعود وسلبوهم كرامتهم وقوّتهم، واستهانوا بطيبتهم، وضحكوا على عقولهم مُستغلين الجهل والفقر فى الضغط عليهم.
*          *          *
إن السلطة فى الرواية سُلطة خادعة ومُذِلَّة وغير عادلة وغير أمينة وغير رحيمة، وقد استطاع الشارونى أن يرصد كل هذا الفساد الذى استشرى فى هذه الحِقبة من التاريخ عبر موضوع حفر القناة، ليُعرّى الواقع المصرى بكل سلبياته فى تلك الآونة، التى تحالف فيها بعض المصريين ممن تملّكوا بعض المناصب، مع السُلطة، ليذلوا أبناء الشعب " الغلابة " الذين لا حول لهم ولا قوّة. وكم ذهب الآلاف منهم ضحايا هذا الظــُـلم البيّن وهذا الغشم وهذه القسوة.
فها هـو الغفيــر يتواطــأ مع شيخ البلــد مع منــدوب جمــع العُمّــال مع العُمدة لجمع شباب وأطفال البلد، ليتم ترحيلهم للحفر فى قناة السويس  عام 1861، حيث يتولّى الخديوِ سعيد الحُكم فى مصر، وهم، كما جاء فى الرواية: " الفلاحون الذين يتم جمعهم تنفيذًا لطلبَات شركة قناة السويس، وهى طلبات مُتوالية تُقدّمها بإلحاح إلى أفندينا الوالى الخديوِ سعيد باشا حاكم مصر سنة 1861 وأكبر مُساهم فى رأسمال تلك الشركة، التى ورّطته فى شراء حوالى نصف أسهمها فأصبح من مصلحته الشخصية أن يتم حفر القناة بأقل تكلفة " (ص 6).
ونقرأ عبر السرد القصصى كيف تم تهديد السُلطة للأم الفلاّحة الفقيرة للتحايل على سلب ابنها "مسعود - 12 سنة " رغم اعتراضها وصياحها ومُحاولة التصدى، إلا أنها رغم كل هذا لا تفلح أمام هؤلاء الأوغــاد الأشــرار، نقرأ بالروايـة " تجاهل شيخ البلد  صياحها، وقال فى صوت جاف لمندوب الشركة: نأخذ هذا الصغير إلى أن تُسلّم لنا أمّه أخاه الأكبر منه، أليس كذلك؟ " (ص 8).
وتُمثـّل شارونة - مركز المنيا - واحدة من قُرى الصعيد فى مصر، والتى تُمثـّل بدورها مجموعة القُرى والبلاد التى دارت فيها أحداث مُماثلة.
*          *          *
 كما يطرح الشارونى كيف تدخــّـلت الأهواء الشخصية والأوضاع النفسية فى إيذاء هذه الأم، فنفهم من الرواية أن شيخ البلد إنما قصد الضغط على الأم وتهديدها لسلب ابنها بالقوّة بهدف إذلالها، لأنها رفضت زواجه من ابنتها، نقرأ بالرواية " فقد كان كل أهل شارونة يعرفون أن مخلوف شيخ البلد قد طلب من الخالة أم مصطفى أن يتزوج ابنتها أزهار، وهو يقصد أن يجعلها تخدم زوجاته الثلاث  وسط شجارهن العنيف الذى لا يتوقف، لكن الخالة رفضت هذا المصير لابنتها، وقد أصبحت على ثقة الآن أن شيخ البلد لن ينسى لها رفضها هذا " (ص 9).
ولقد عبّرت رسوم (سيندى عبد السيد) بفنية راقية وعالية عبر اللوحات، عن مدى الظلم الواقع على الأم، فكانت اللوحات ناطقة وكأنــّـها تحكى رواية فى حد ذاتها. إن القارئ للوحة فى (ص 9) من الرواية، يستطيع أن يفهم ويُترجم الأحداث حتى بدون قراءة النص، فالمرأة تصرخ وتندب وتولول وشيخ الغفر يقف شامتــًـا فيها مُنتصـرًا عليها وقد بانت فى عينيه كل نظرات الشماتة والحقد، وها هما الغفيران وقد سحبا طفلها الصارخ دون اكتراث بعصيانه ومقاومته.
*          *          *
وفى الفصل الثالث يُثير الشارونى ببراعة الخلفية السياسية وما تبعها من مواقف اقتصادية واجتماعية ظالمة لأهل البلد، الذين يُجْـبَرون على الذهاب للحفر بالتهديد وبالخداع والوعود المُزيّفة والأوهام الباطلة.
فإن جرجاوى مندوب شركة القناة يحرك سبابته أمام وجه العمدة مهددًا وهو  يقول: " أوامر المديرية تلزم قرية شارونة بتقديم عشرين من الرجال والشباب لتتعاقد معهم الشركة هذا الشهر للمُشاركة فى الحفر، لكنّنى لم أجمع إلا ثلاثة عشر عمرهم جميعًا أقل من خمسة عشر عامًا وبعضهم عمره ثمانى سنوات ".
ثم يتهم العُمدة بأنه يخفى الشباب فيقول: " أنت تقوم بملعوب خطير يا عُمدة! لقد نبّهت أهل البلد قبل وصولى فهرب الرجال والشباب " (ص 10).
ويتصاعــد الحوار بيــن جرجاوى والعُمــدة، ليكشـف عن كيفيــة السطــو بالقــوّة والإجبار والقهر والخداع لتجنيد أهل القرية لأعمال الحفر، فنقرأ على لسان جرجاوى:         
" المديرية شدّدت لتجنيد أكبر عدد من الفلاحين، وإجبارهم على وضع بصمات أصابعهم على ورق العقود اللازمة لتشغيلهم، وهم بهذا  يعلنون أنهم يذهبون برغبتهم وإرادتهم "، مع أنه يُحرِّض العُمَدَ على إجبار الفلاحين على وضع بصماتهم تحت التهديد بالضرب والإهانة والحبس، ويأخذون أجورًا مُقابل عملهم " قرشين ونصـفًًا عن كل يوم  عمل"، مع أنه يعرف أن هـذه الأجـور تافهة جدًّا، وأن العمال لا يتسلّمون أجورًا بل أوراقًا قالت لهم الشركة إنهم يمكن أن يقبضوا بمقتضاها بعد رجوعهم إلى قراهم " (ص 11).
*          *          *
وبمُتابعـة القراءة نكتشــف مــدى الظلــم والخــداع والزيف السياســى والديكتاتوريـة التى مثــّـلتها السلطة فى هذه الحِقبة، فعند مُتابعة موقف تقاضى الأجير لأُجرته نجد أنه لا يتحصّل على شىء بعد سلسلة الخصومات والمُهاترات التى يمر بها حيث أنه: " لابد من سفرهم من المنيا إلى أسيوط ليقبضوا من مكتب الشركة هناك، فإذا استطاع أحدهم تحمل نفقات السفر من شارونة بالمنيا إلى أسيوط ليتسلم أجره، فإنه سيجد الأجور التافهة عن عمله فى الحفر قد خصموا منها مكافأة مندوبى جَمْع العمال، ومكافأة رؤساء العمال فى ساحات الحفر، ونسبة كبيرة لأفندينا الخديوِِ لأن  رجال السلطة التابعين له هم الذين ساعدوا فى جمع العمال، ولأن الحكومة هى التى تحملت نفقات تنقلاتهم وسفرهم، فلا يبقى للعامل شىء بعد نفقات سفره إلى أسيوط، فى مقابل غيابه عن زراعته ثلاثة أشهر وعمله الشاق شهرًا فى تحطيم الصخور وحفر رمال الصحراء " (ص11).
*          *          *
وترصد الرواية أن اللائحة لا تعفى الأطفال أقل من 12 سنة.. تقول الرواية " ولائحة النظام الخديوية لم تحدد سنًّا مُعيّنة لتشغيل الأطفال " (ص 12).
*          *          *
ويرصد الكاتب سوء الأوضاع الاقتصادية المتردية المترتبة على ترحيل الفلاحين للحفر فى  القناة، فيقول العُمدة للشيخ جرجاوى موضحًا ذلك:
" لم يعد يهمُّك حرمان الحقول من عمل الفلاحين، فلا بذر للبذور  ولا جنى للمحاصيل ولا خدمة للزراعات، هذا خراب للبيوت! لماذا يبقى الرجال فى سجن الحجز أسابيع بلا عمل ينتظرون السفر إلى ساحات الحفر فى تلك الصحراء؟ "                                 
قال جرجاوى فى حسم: الأوامر هى الأوامر لكى لا يهرب أحد، إلى أن تصدر الأوامر بركوب السفن للتحرك لساحات الحفر " (ص13).
*          *          *
وفى الفصل الرابع ترصد أحداث الرواية الحالة التى وصلــت إليهــا أم مصطفــى (بطلة القصة) وهى رمز لكل نساء مصر فى تلك الآونة.. لقد حاولت فى البداية أن تقاوم، وأن تخفى ابنها بعيدًا عن السلطة، لكنها اضطرت فى النهاية إلى الاستسلام والصبر والخضوع تحت ضغط قلّة الحيلة والحِرمان، فهى " بدأت تدرك مدى سطوة السلطة القاهرة التى لا مهرب منها " (ص 15).
وكأن هذه السلطة القاهرة هى المُعادل الموضوعى للقَدَر. إن السلطة بظلمها وغشمها هى أقدار هؤلاء البُسطاء الذين لا حول لهم ولا قوّة إلا بالتصبّر وحياة الذل والهوان.
ويرصد الكاتب أيضــًـا فى هذا الفصل أحد العيوب الاجتماعية الخطيرة، وهى (الرشوة) التى يُمكن عن طريقها الحصول على بعض المكاسب والامتيازات، ولكن من أين بــِـمَـبْلغ الرشوة لفُقراء أمثال أم مصطفى؟ نقرأ بالرواية " قيل لها إن جرجاوى على استعداد لترك أبنائها إذا استطاعت أن تُقدّم له خمسة جنيهات كهدية، وعندئذٍ لن يهتم بما يقوم به شيخ البلد ضدّهــا من تحريض، لكــن من أين لها بخمسمائة قرش مرة واحدة؟! إنها ثروة طائلة " (ص 16).
*          *          *
يرصد الكاتب بتكثيف وبساطــة الوضــع الاقتصــادى للجنيه المصـرى فى ذلك الزمــان، ويُبيّن فى ذكاء تلقائى لأبناء هذا الجيل فارق سعر العُملة ما بين زمان حفر قناة السويس وهذا الزمان، إن الكاتب يقول ببساطة (إنها ثروة طائلة)، وتبدو لنا جُملة سهلة بسيطة عابرة عبر الحكى التلقائى، لكنــّـها ذات معانٍ بعيدة وإشارة خفية للبُعد الاقتصادى، لأنه لو قيل لأبناء هذا الجيل كلمة خمسة جنيهات لاستهانوا بها، إن أحدهم ليأخذ أكثر منها مصروفــًـا... لكن الكاتب لفت النظر لقيمتها، وكرّرها بصياغة مُختلفة للتأكيد عليها "لكن من أين لها بخمسمائة قرش مرة واحدة؟! " وعبارة " مرة واحدة " تُفيد التهويل والقيمة الكبيرة، وهى لفظة شعبية عندنا مُتّفق عليها لبيان مدى القيمة، فنحن نقول " ياه... مرة واحدة؟!" وهى تُفيد الدهشة والصعوبة أو الاستحالة أيضًا، لذا كان الكاتب موفّقًا كل التوفيق فى تقريب المعنى للأطفال عبر استخدام التيمات الشعبية الثقافية الشائعة المُـتّفق عليها خلال لُغة الإيحاء والإشارة الضمنية للمدلول دون التصريح مُباشرة بالمعنى... لقد أعجبتنى كثيرًا هذه الفقرة لما لها من عُمق دلالتها وتكثيف الجُملة عبر الحكى التلقائى فى السياق القصصى.
*          *          *
وينتهى الفصل الرابع عبر ولولة وصراخ أم مصطفى ومواساة أهل القرية لها وهى تندب حظـّها لتؤكّد مدى الظــُّـلم والقسوة والبشاعة التى تــُـمثــّـلها السُّلطة، فتندب حظــّـها:
" أنا الأرملة يأخـذون منى اثنيــن لحفــر تلك القنــاة؟!! منــك لله يا شيخ  مخلوف! مَن يزرع القيراطين؟ مَن يجمع المحصول؟ كيف نعيش؟ أين الأرض التى تحملك فوقها أو تحتها يا مصطفى؟ " (ص 17).
وتؤكّد العبارة الأخيرة جهل الأرملة بأى معلومات عن ابنها الأكبر مصطفى، الذى لا تعلم عنه شيئــًـا مُنذ أخذوه من قبل ولا تــدرى إن كان حيًّا أو ميّـتــًـا.
*          *          *
وفى الفصل الخامس يؤكّد الكاتب مدى تأثير هذا الموقف على نفسية الطفل مسعود
 (12 سنة)
وكأنه ذاهب إلى موته المحتوم أو إلى حتفه وهلاكه، فيقول الكاتب:
" لم ينسَ مسعود كيف شيّعت شارونة كلّها أبناءها العشرين الذين كان هو من بينهم، فقد تعالى العويل والصُّراخ بينما القارب الشراعى يعبر بهم النيل إلى مركز مغاغة... " (ص18).
لقد وظــّـف الكاتــب مُفرداتــه توظيفــًـا جيّــدًا، فها هى كلمة" شيّعــت " لا تقــال إلا للوداع عند الجنازات وفى حالة الموت الذى لا رجعة منه، وها هو " العويل والصراخ ".. إن الكاتب يرسم لنا بقلمه لوحات ناطقة بالصوت والصورة، ونستطيع ونحن نقرأ أن نتخيّل الأحداث ونعيشها وكأنــّـها فيلم سينمائى ناطق حى يعرض أمامنا للتو واللحظة، أو كأننا فى خِضم الحدث نفسه، فنسمع الصراخ والعويل، ونـُـشاهد قارب الوداع يحمل الشباب والأطفال إلى حيث لا ندرى.
ثم ينتقــل بنــا الكاتــب إلى صــورة أخــرى تؤكّــد العــذاب والقسـوة والظـُّلم عبر الجَـلْد، إما للعِبرة والعِظة وعدم الهرب، وإما لضمان استمرار العمل المُرهق ولضمان ولاء الجميع للعمل وللحفر.
إنهم بداية يُحْتـَـجِـزونهم تحت حراسة مُشدّدة: " قال مسعود لصديقه مندور: لماذا يضعون على الباب هؤلاء القوّاصة المُسلّحين بهذه البنادق الطويلة؟ إن رجال الأمن يعاملوننا كأننا مُذنبون متهمون فى جنايات! ما الذى ينتظرنا فى حفر هذه القناة حتى يتوقعوا أن نهرب فى كل لحظة؟! " (ص19).
ثم يعود الكاتب ليوضــّـح كيفيّة استغلال السُّلطة للجهل، فيقول على لسان مندور (11 سنة): "المُصيبة أنهم أجبرونا على أن يضع كل واحد منّا بصمة السبّابة والإبهـام علـى أوراق قالـوا إنها عقود العمل مع الشركة، بغير أن يفهم أحدنا هذا الذى بصمنا عليه.. هل تسمح لهم هذه العقود بحبسنا فى هذا   السجن؟! " ودائمًا ما يضع الكاتب عبر الجُملة الاستفهامية علامتى الاستفهام والتعجّب، لتأكيد الدهشة والحيرة والتخبّط والسؤال الذى بلا جواب فى ذهن هؤلاء الأبطال.
ثم يسرد الكاتــب كيفيّــة تواصــل ظـُـلم شيخ البلــد للطفــل الصغيــر مسعــود، بأن يتــّـهمه ظــُـلمًا ثم يضربه ويعتدى عليه بالعصا دونما اقتراف أى ذنب، بينما عجز من حوله عن مواجهة بطشه  " بل اكتفوا بإبعاد مسعود عن عصا مخلوف بغير أن يهمس أحدهم بكلمة " (ص20).
وينتهى الفصل باستمرار تربُّص شيخ البلد بالطفل وكراهيته له وحنقــه عليه وتمنــِّـى إيذائه.
ثم تكشف لنا الرواية فيما بعد أنه يتحيّن الفُرصة فعلاً لهذا الإيذاء، فيسند إليه عملاً شاقًّا لا يقوى عليـه جسد الطفل حتى يقع ويُغمى عليه من فرط الإعياء والتعب.
*          *          *
ويُقدّم لنا الكاتب عبر الحكى فى الفصول التالية، مجموعة من المعلومات المُهمّة والقيّمة التى لا يعرفها أطفال هذا الجيل، والتى لم يكن بالإمكان معرفتها إلا عبر قراءة المؤرّخين أنفسهم للتاريخ، أو من عاصروا هذه الحِقبة.
يمزج الكاتب التاريخ بالمعلومة بالخيال معًا لنعيش هذه الأحداث بكل الأسى  المُمكن، وكأنـه يقول لنا كم حرّرتنا الثورة من كثير من الذل والعبودية التى كُنّا نرزح تحت أعبائها.
تقول الرواية: " قال قائد الصندل: أنا أعمل فى نقل " البلاليص "، لكنّنى أصبحت أخيرًا أعمل بالأمر فى نقل البشر.. لقد وافق أفندينا على طلب شركة القناة بمضاعفة عدد من ترسلهم الحكومة لساحات الحفر إلى أربعين ألف فلاح كل شهر، أربعون ألفًا يكونون فى طريق الذهاب، فى نفس الوقت الذى يعمل فيه فعلاً فى الحفر أربعون ألفًا آخرون، ويكون هناك أربعون ألفًا قد انتهوا من العمل وفى طريقهم للعودة إلى قُراهم.. مائة وعشرون ألف فلاح يجب نقلهم من زراعاتهم وقُراهم كل شهر، فاستولت الحكومة على سُفننا لأن سُفن الحكومة لم تعد تكفى لنقل كل هذه الأعــداد الهائلة من المقبــوض عليهــم لحفــر القنــاة، خاصــة بعد إرسال جنود الجيش هم أيضًا ليعملوا فى الحفر " (ص 21).
لكن تعود الرواية لتلقى تساؤلاً مثيرًا لحُب الاستطلاع حول عمل الجنود الفعلى فى الحفر، "فقد عادوا بسُرعة ولا ندرى لماذا عادوا... "
وعبر هذا الفصل يبدأ بحث مسعود عن أخيه الأكبر مصطفى " لى أخ أخـذوه إلـى  هُنـاك مُـنذ أكـثر مـن ثـلاثة أشـهـر ولـم يرجـع حـتى الآن. قال رَيـِّس المركـب: " الأخطار هُناك كثيرة  " (ص 23)..  " الوباء.. انهيار الرمال.. العطش "(ص 24).
*          *          *
وتكشف الرواية عن روح التمرد والمقاومة عند الفلاحين، عن طريق الهرب، ويظهر هذا فى الإشارة إلى العقوبة الشديدة لرئيس العُمّال الذى يُهمل فى أداء واجبه من حيث الحِرص على عدم هرب عُمّاله، فعندما هرب " أحد القادمين من قريته وتحت حراسته " (ص24) اجتمع عشرات الرجال ليُشاهدوا عقوبة رئيس العُمّال: " انهال بعصا على باطن القدمين يضربه بقسوة عشرين ضربة لأنه أهمل فى حراسة عُمّاله " (ص24).
ويخاف مخلوف أن يهرب مِن عِنْدِه أحد، فيأمرهم جميعًا " بالنزول إلى بطن الصندل " (ص24).
ويتمنّى مسعود الطفل فى نفسه " لو كان هو الذى هرب بدلاً من الموت فى صحراء السويس عطشًا ".
.. إنها روح المقاومة على الرغم من كل عسف السلطة!
*          *          *
وفى الفصل السابع يصل الصندل إلى ساحل بولاق بالقاهرة، ويندهش مسعود لما يراه على شاطئ النيل، فترصد الرواية صورة لهذه المنطقة عام 1861 " أصوات المطارق التى تدوى بغير انقطاع، ومئات العُمّال قد انهمكوا فى بناء السفن أو إصلاحها، وحولهم دكاكين التجّار الذين يبيعون الأخشاب والحِبال، مع باعة جائلين يبيعون الطعمية والمشـَبِّك... " (ص26).  
وتــُـشير الرواية إلى الفــقر الشـديد الذى عاشه الأطفال فى ذلك الوقت، هذا الفقر المُدقع الذى يقتل حتى الأحلام بالرغبة فى شراء أيّـة أطعمة، فضلاً عن تعذُّر مُمارسة عُرف المُقايضة السائد بدلاً من استخدام النقود فى الشراء.
إن الكاتب يـصوّر كيف تُغْتال أحلام أطفال الفُقراء بدرجة عالية من الصدق الفنى  الذى يستدر  دموعنا حين نقرأ " ومع أن مسعود لم يأكل إلا البتاو والمش والبصل والملوحة... فإن الصبى لم يطف بخاطره أن يشترى شيئًا مختلفًا يأكله من شاطئ بولاق، فلم تكـن معــه أيّة نقــود، مثله فى هــذا مثــل مُعظــم أهل قريتــه الذين لم يعرفوا إلا التعامل بالمقايضة... " (ص 26).
إن الكاتب يرسم صورة شديدة الروعة قوية التعبير عن شدة البؤس وإثارة الأسى للحــال التــى كانــت عليهــا مصــر فـى تلك الآونــة، فى طعامهــم ومُقايضاتهــم، وحتى أحلامهم التى لا يجرؤون عليها، إنه مُنتهى القهر والذل.
*          *          *
ويعود ليصوّر لنا الكاتب كيف سرقت عصا مخلوف الفرحة من نفوس الأطفال الذين يُشاهدون القاهرة لأول مرة، ولعلّهم كانوا يحلمون بزيارتها، ولكن عندما زاروها وكأنهم فى رحلة معًا، لم تكن مثل الرحلات المدرسية المشوبة بلذّة الاكتشاف والفرح الطفولى البرىء، بل هنا هُم شــُـركاء فى القهر من عصا مخلوف الذى يُتابعهم أثناء سيرهم من بولاق إلى محطة مصر، لينقلهم القطار إلى بنها ثم الزقازيق ثم صحراء السويس " حيث ساحات الحفر ".. " كانت تلك هى المرة الأولى التى يرى مسعود ومن معه مدينة القاهرة المحروسة، لكن صيحات مخلوف الغاضبة وطرف عصاه اللاسعة جعلت همّ كل واحد منهم أن تنتظم خطواته مع خطوات الذين يهرولون أمامه أو خلفه، لكى لا يتعثر فيقع فتصيبه ضربات من عصا مخلوف شيخ البلد الذى لا يرحم " (ص 27).
ثم يُصوّر الكاتب مدى امتهان الكرامة، واستمرار الحبس والقهر، عبر زج عدد كبير جدًّا من الفلاّحين فى عربات السكة الحديد المُغلقة، ومن لم يجد له مكانــًـا يجلس فيه فإنه يقف، حتى شــُـبّهت عربة القطار وكأنــّـها امتداد للسجن، قال مسعود لمندور: " نقلونا من حبس بطن الصندل إلى حبس سجن هذه العربات!! " (ص 28). 
ويواصل مسعود، هذا الطفل الذكى المُتمرّد كما نلحظ من حديثه، ليؤكّد عبر وعيه بما حوله بأن " هذه العربات المخصصة لنقل الجمال والبقر! إنهم يعاملوننا كأننا ماشية أو دواب " (ص28). لقد اختصر جميع الإهانات التى تعرّضوا لها فى كلمات بسيطة مُوحية، لتدل على المُعاملة الغاشمة التى لاقوها من المسئولين (لسان حال السلطة) مُنذ خرجوا من بيوتهم وحتى وصلوا إلى منطقة السويس.
*          *          *
وفى الفصل الثامن يُشيـر الكاتب إلى استمرار الصعوبات التى يـواجهـهـا هـؤلاء العُـمّال، عندما وصلوا إلى نهاية خط السكة الحديد عند مدينة الزقازيق، حيث " ستكون أمامكم أربعة أيام يقطعون خـلالها المسافة الباقية إلى ساحات الحفر سيرًا على الأقدام " (ص 29) " تسيرون فى صحراء ليس بها ماء ولا طعام، شديدة الحرارة نهارًا باردة ليلاً " (ص 29) و " لكم الحق أيضًا فى استخدام العصا أو الكرباج فى ضرب وتأديب المُقصّرين منهم، أو اقتراح الخصْم من أجورهم "(ص30).
وهكذا يعانى الفلاحون فى هذا الفصل من اللوائح والقوانين التعسّفية التى يتعرّض لها كل عامل يُفكّر مُجرّد التفكير فى التمرّد أو الهـرب أو أى بادرة اعتــراض، فالعقــاب فى مُنتهــى القسوة وبكل الأساليب: بالضرب والسجن والخصم من الأجر الزهيد...
*          *          *
وفى الفصل التاسع يرصد الكاتب استمرار مُعاناة العُمّال العطشى عبر المسير فى الصحراء، وقد أخذوا منهم قــُـلل الماء بحُجة أن يتخفّفوا من أحمالهم وأن يسيروا أسرع، وقد ربطوهم معًا كالماشية، بينما الهدف الحقيقى هو إعاقتهم حتى لا يهرب أحدهم. كذلك يخيفونهم ويهدّدونهم بأنّ من يُحاول الهرب فسوف يُعرّض نفسه للموت فى الصحراء بالعطش وتمزيق الطيور الجارحة والذئاب لجسمه كما شاهدوا ذلك فعلاً، فيقول قائد فرسان  الشرطة: " قُل لهم إن هذه الطيور الـرمّـامـة ومـعـها ذئـاب الصـحـراء تـنـهش جسد رجل حاول الهرب من ساحات الحفر، فقتله  العطش فوق رمال الصحراء وتحت لهيب الشمس " (ص 31).
*          *          *
وتوضـّـح الرواية أن المــاء إنمــا تحمله قوافـل الجـِـمـال إلى مكان الحفــر، وقــد تعترضها عقبات فلا تصل إليهم، والمسافة تستغرق أربعة أيام: " إن رحلة جمال قافلة الماء تستغرق عادة أربعة أيام، وعندما تهبّ عواصف الرمال الشديدة العاتية فتمنع تلك القوافل من مواصلة سيرها، أو عندما تضلّ القوافل الطريق فتتأخّر ولو يومًا واحدًا، فإن العُمّال فى ساحات الحفر يتساقطون موتى مثل الذباب نتيجة الإرهاق والعطـش، ويلفظون آخر أنفاسهم قبل أن تصل تلك الجمال بما تحمله من براميل " (ص 32).
لقد برع الكاتب فى وصف مجموعة من التحديات البيئية والبشرية التى واجهت عُمّال حفر قناة السويس، فقد اتحد الظُّلم الاجتماعى - من قِـبَـل السلطة - بالظُّلم البيئى، ليُشكّل هذا الاتـحاد فـى مُـجمله مـجمـوعـة مُـتراكبة مُـتشابكة مـن التحـديات والصعوبات القاتلة التى واجهت أبناء مصر الذين حفروا القناة...
إن الكاتب ما زال يكشف النقاب ويُزيح اللثام عبر السطور، سطرًا تلو الآخر، ليصوّر لنا كيف تمّ حفر قناة السويس، وكيف دفعت مصر ثمن ذلك من أرواح أبنائها وليس فقط بسواعدهم، ولكن بالجوع والعطش والذُّل والإهانة والصبر الجميل، وبالتمرد أيضًا وبالمقاومة كلما أُتيحت الفرصة.
*          *          *
فى الفصل العاشر يصل وفد العُمّال " إلى منطقة مرتفعات عتبة الجسر "، وهُنا يُقدّم لنا الكاتب معلومة جُغرافية مهمة فى السياق القصصى " وهى المنطقة التى عُرفت فيما بعد باسم الإسماعيلية، مجاملة لإسماعيل باشا الذى أصبح خديوِ مصر بعد وفاة الوالى سعيد " (ص 33).
ويُشير الكاتب إلـى طـبيعة العـمل وهى " تحطيم تِلال صخورها التى يبلغ ارتفاعها عشرين مترًا "  (ص 33) "أما صغار السن فعملهم الأساسى حمل قِرَب الماء الجلدية، يصبون الماء من القِرْبَة فى القلل التى يشرب منها العُمّال " (ص33).
وعلى الرغم من أن هذه مُهمّة الصغار، إلا أن كيد شيخ البلد مخلوف لم يتوقّف تجاه مسعود الصغير فيقول عنه: " هذا يُصلح تمامًا لنقل مخلّفات الحفر " (ص 34).
إنه لم يتوّرع عن إذلاله حتى أقصى درجات الذُّل والتعذيب، فيوكّل إليـه أعمــال الكبــار، ولم يرحــم عدم اكتمال قوته لأنه صغير السن.
*          *          *
وفى الفصل الحادى عشر نُشاهد مسعودًا وهو يعمل، فهو " يهبط بالقفة فارغة إلى قاع القناة حيث يملؤها بالصخور والأحجار التى حطّمهـا الرجال، ثم يحملها فـوق كتفه ويصعـد إلى جسر القناة ليفرغها ثم يهبط مرة أخرى ليُعاود نفس العمل " (ص 35).
وظل مسعود يعمل حتى شعر بالإعياء والإجهاد، وما إن جلس " وهو يلهث وقد ملأ العرق وجهه"  (ص 35) حتى "انقض " شيخ البلد " بكرباجه " على جسد مسعود، يضربه فى كل  موضع (ص 35).
هنا يؤكّد الكاتب على مدى ظــُـلم شيخ البلد الذى يتربّص بمسعود مُنذ جاء به. إن تأكيد الكاتب للظلم والإهانة والإذلال إنما هو تأكيد لسطوة وجبروت وظُلم السلطة الحاكمة، حيث يرمز مخلوف وأمثاله إلى مَن يتعاونون مع هذه السلطة التى لا ترحم، بل إنه يُكيل الاتهامات ويُلصق بالصغير ما هو برىء منه، فيقول للطفل مسعود: " أنت تُحرّض العُمّال على العصيان، قم.. تحرّك.. احمل قُفّتك.. أسرع " (ص 36).
*          *          *
ولم يكن لينقذ الطفل من بين مخالب مخلوف إلا القدر، حيث يبدأ الكاتب فى رسم خطوط انفراج الحلقات التى استحكمت وضاقت وظننا أنه لا مخرج منها طوال الرواية... لكن الكاتب يتقن فى براعة وخبرة أن يكشف لنا كيف تقسو الظروف وكيف ترحم الأقدار، لأن للظـُّـلم نهاية، وأن دولة الظلم ساعة لكن دولة الحق إلى قيام الساعة، ونـُطالع عبر السرد الروائى كيف استخدم الكاتب الأقدار لتنقذ هذا المسعود دون قصد بأنها تنقذه، فقد تمثـّلت هذه الأقدار فى رجُلين، الأول هو   " حمدى بك القاسى نائب أفندينا الخديوِ الذى كان يمر فى تلك اللحظة بجوار منطقة عمل رجال شارونة "   (ص 36) والذى أمر بإلقاء الفتى فى السجن، والثانى هو " الدكتور منصور وهو الطبيب المصرى الذى كان مسئولاً عن تلك المنطقة " والذى تم استدعاؤه بعدما خرس صوت مسعود بسبب الجلد بالكرباج " وسقط على جانبه فوق الأرض وقد فقد الوعى " (ص 37). وقد أمر حمدى بك إذا مات أن يُدفن فى الرمال، لكن تشاء عناية الأقـدار أن يُقرّر الطبيب " إنه لم يمُت.. انقلوه إلى المركز الطبى " (ص 37).
*          *          *
وفى الفصل الثانى عشر يُفكك لنا الكاتب عُقَد الرواية عُقْدَة تلو أخرى، ببساطة واحتراف، لعلّنا نرتاح قليلاً فوق سطوره التى كُنّا نلهث فوقها ونركض معها فيما قَبْـل من فرط الحُزن والتأثــّـر والشفقــة علــى أجدادنا المصريين الذين ذهبوا ضحايا وشُهداء الظـُّلم والقهر والاستبداد.
ويدور الحوار بين مسعود والطبيب، فيعرف الطبيب حكاية مسعود، ويلفت نظــره حَكْيه عن أخيه مصطفى الذى لم يعد. وكأن حكاية مسعود كانت هى المُفتاح السحـرى لعالم الطبيب الملىء بالأسرار، فيتذكّر حكاية الخمسة آلاف جُندى الذين حاولت السُّلطات إرسالهم للحفر وتكسير الصخور، فتمرّدوا وقاوموا وتظاهروا ممّا " اضطر دليسبس أن يتدخّل شخصيًّا، وأصدر أوامره بعدم توقيع أية عقوبات على الجنود الذين رفضوا العمل  فى حفر القناة، لكى لا تنتشر أخبار تمرّدهم بين عُمّال السُخرة، وسمح لهم بالعودة إلى قُراهم فى قنا " (ص 40وبهذا قدمت الرواية من خلالهم أقوى صور المقاومة وأنجحها.
وفـى ذات الـوقـت قـبضـت السُّلطـة عـلى شـاب كـان " يحـكـى لـزملائـه خـبر امـتـناع  الجنود عن الخضـوع لإذلال السُّخرة فى حفر القناة "، " لقد جلدوا ذلك الشاب بقسوة ليكون عبرة لغيره، وظنّوا أنه مات ".
ويضيف الطبيب: " لكنى أخذته إلى المركز الطبى كما أخذتك، وعالجته إلى أن استرد أنفاسه، وخشيت أن يقبضوا عليه ثانية فأعلنت أنه مات " (ص 41). " وختم الطبيب حديثه: وكان اسم هذا الشاب مصطفى، وقد أخبرنى أنه من قرية اسمها شارونة " (ص 41 ثم ينصح الطبيب  " مسعود " بالعودة للحفر. 
وبهذا ينجح الكاتب فى أن يأخذنا إلى أول عتبات النهاية، وأن يثلج صدورنا المكلومة على مصطفى ورفاقه ليُخبرنا بأنه لم يزل حيًّا، لأن إرادة الله وإرادة الأقدار وإرادة الخير فوق كل قوى الشر مهما تحالفت ومهما طال زمان الشر.
*          *          *
وفى الفصل الثالث عشر يرسم الطبيب خطّة لهروب مسعود ومن ثم توقيع العـقوبة عـلى شيخ البلد لإهماله فى حراسة عماله.. " وفى الحال أمـر حمدى بك بإلقاء القبض على رئيس العُمّال لأنه أهمل فى حراسة الفوج، ولم يضعه فى السجن بل ساقه إلى الحفر وأمره: اخلع ملابسك، ثم أمره: احمل هذه الفأس، ثم أضاف: انزل الآن مع عُمّالك إلى قاع القناة وإياك أن تقصّر فى الحفر وإلا كسرت رأسك قبل سلخ جلدك" (ص 43).
والكاتب يقول هنا ضمن السياق اللا مقروء (داين تدان)، و (من حفر حُفرة لأخيه وقع فيها)، وأنه لا يبقى إلا عمل الخير، وأن (من يفعل مِثقال ذرة من خير يره ومن يفعل مِثقال ذرة من شر يره)، فها هو حمدى بك يأمر بجلد شيخ البلد (رئيس العُمّال) عشرين جلدة، وقد أوكل بهذا لمندور صديق مسعود.
هُنا يصوّر الكاتب لحظة من أجمل اللحظات الإنسانية والأخلاقية التى يُمكِن أن يمر بها إنسان ويتعلّمها، فتقول الرواية: " ورفع يده بالكُرباج، لكنّه فى تلك اللحظة تردّد، أحسّ كأن الشلل أصاب ذراعه، تذكّر أن الشيخ مخلوف  هو قبل كل شىء شيخ بلدة شارونة... قريته " (ص 45).
ماذا يُريد أن يقول الكاتب عبر هذه العبارة خاصة؟ إنه يُريد أن يقول الكثير مما لا يُقرأ مُباشرة.. هل يُريد أن يقول (العفو عند المقدرة)؟ هل ليُعلّمنا قيمة التسامح؟ ربما..
هل يُريد أن يقول إن مندور الطفل أو هذا المراهق لم يزل يحترم من هو أكبر سنًّا منه رغم ما فعله من ظــُـلم؟ ربما..
إن هذا الموقف قد رسمه الكاتب دون أن يُفصح بشكل مُباشر عن دوافعه، ليكون لنا الحُكم والقراءات المُختلفة للنص، وربما أراد أن يقول كل ذلك..
 وأيًّا كان ما يود أن يطرحه الكاتب، فلا خلاف على أن القيمة الضمنيـة لهــذا الموقــف فى مُنتهى النبــل والإنسانية وكرم الأخلاق، وهذا ما يجب أن تبثـّه القصص فينا من التأكيد على مكارم الأخــلاق والتسامح والعفــو عنِد المقدرة واحترام الكبار... إن يد مندور لم تطاوعه على جلد شيخ بلده رغم كل أفعاله، استجابة لواقع أخلاقيات القرية.
لكن هل نترك المُذنب والمُسىء والظالم يعيث فسادًا؟ بالطبع لا... لذلك وُفِّق الشارونى تمامًا فى هذه اللقطة حيث لم يترك المُذنب بلا عِقاب، لكنّه جعل العِقاب بيد أخرى يكون العِقاب منها مقبولاً وهو حمدى بك، حيث " أحسّ حمدى بك بتردّد مندور، فانتزع السوط من بين يديه وهو يسبّه فى غضب: فلاّح جبان.. فلاّح ضعيف، وسلّم حمدى بك السوط إلى رئيس القوّاصة، وعند الضربة التاسعة تهاوى جسد مخلوف وسقط على جنبه فوق الأرض، لكن حمدى بك أمره أن يواصل الضربات حتى العشرين، وعندما جاءوا بالطبيب قـرّر أن الرجل لفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن تصيبه الضربة  العشرون. قال حمدى بك فى  استهانة: ادفنوه! " (ص 45)
ويكتمل مشهد ختام حياة شيخ البلد بأن أهل البلد الذين قاسوا الكثير على يديه فلم يحبوه أبدًا، تعاونوا على غسله " وأقاموا عليه صلاة الجنازة، ثم حفروا فى الرمال حفرة وأهالوا فوقه التراب.. لقد قامـوا بما يفرضه الواجب عليهم، لكن عينًا واحدة لم تذرف دمعة على شيخ البلد الذى لم يعرف فى حياته العدل أو الرحمة " (ص 45).
*          *          *
وفى الفصل الرابع عشـر والأخيـر يختم الشارونى الرواية بأن ينقلنا من دنيا الحُزن والدمع إلى النهاية السعيدة، حيث الفرح باجتماع الشقيقين اللذين عاونهما الطبيب على التعارف وعلى اللقاء، وعلى تدبير أمورهما لكى لا تحدُث أيّة مُشكلات أو عوائق جديدة.
وأخيرًا ذهب مصطفى ومسعود لأمهما، فاطمأن قلبها وفرحت بعودتهما إليها وبأنهما على قيد الحياة.ثم يشير الكاتب إلى أن هذه " الغُمة استمرّت حتى وفاة أفندينا " سعيد "، وفى عهد خليفته  " إسماعيل "، وبعد سنوات طويلة من العذاب، أوقفت مصـر أعمال السُّخـرة، لكن بعد أن مات من أبناء مصر مائة وعشرون ألف فلاّح، ضحايا هذا النظام الرهيب الذى فرضه " الوالى سعيد " على شعب مصر، هدية بغير مُقابل لصديقه "  دليسبس " مُدير شركة حفر قناة السويس " (ص 48).
*          *          *
وأخيرًا يختم الكاتب فى إيجاز وبلاغة ليؤكّد على العمل البطولى الذى قام به " الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم القناة فى 26 يوليو عام 1956 ". فليس أجمل ولا أروع ولا أصدق من هذه النهاية لهذه الروايــة التى رصــدت بصــدق فترة مُهمّــة من تاريخ مصــر، لم يتناولهــا قلم بجُــرأة وصــدق كمــا تناولهــا قلــم يعقوب الشارونى رائد أدب الأطفال..
    إننى أدعو من خلال هذه السطور وزارة التربية والتعليم، لتــُـقرّر هذه القصة على تلاميذ الصف الخامس أو السادس الابتدائى، لما تحمله من قيم وتاريخ ومشاعر إنسانية.

هناك تعليق واحد: