الاثنين، 19 نوفمبر 2018

" تطور صورة الأطفال ذوى الإعاقة فى أدب الأطفال المصرى والعربى" دراسة بقلم: يعقوب الشارونى

" تطور صورة الأطفال ذوى الإعاقة فى أدب الأطفال المصرى والعربى "
 دراسة بقلم: يعقوب الشارونى
الجيل الأول من مؤلفى أدب الأطفال، بداية من الرائد الكبير كامل كيلانى، لم يتنبهوا إلى أن كتاباتهم كانت، فى كثير من الأحيان، مجرد انعكاس لوجهات النظر الشائعة عندئذ فى المجتمع، مهما كنا نراها اليوم غير سليمة، مثل النظرة السلبية إلى المرأة، أو إلى الطفولة بوجه عام، أو إلى الأطفال من ذوى الإعاقة على وجه خاص.
    لم يطف بخاطرهم، على الرغم من ريادتهم ومواهبهم المتألقة، أن أدب الأطفال يمكن أن يحمل وجهات نظر جديدة، يمكن أن تساهم فى التغيير، بل كانت أعمالهم تؤكد ما كان شائعًا عندئذ عدد من وجهات نظر سلبية، اجتماعيًّا وتربويًّا.
- ففى قصة "عمرون شاه"، لمحمد فريد أبو حديد التى صدرت عام 1960[ 1 ]، جعل المؤلف الجدة، فى بداية القصة، تصيح ببطل القصة "عمرون شاه" قصير القامة: "اذهب من وجهى أيها الولد الذى لا يصلح لشىء... فما أنت إلا "عقلة أصبع" كما يسمونك، ولا فائدة منك"، وهذه صفات تصيب الأطفال- والمعاقين على وجه خاص- بالإحباط، وتعطل نموهم نحو النضج الاجتماعى والنفسى. وعلى مدى صفحات الرواية (160 صفحة)، يجعل المؤلف من تصرفات عمرون سببًا لسخرية كل من يقابله عندما ينادونه باسم "عقلة الأصبع"، فيفقد سيطرته على نفسه وينفجر غاضبًا: "لست عقلة الأصبع... اسمى عمرون"، فيضحكون منه ساخرين، لأن طوله كما تقول الرواية "لا يزيد على شبرين".
وعلى هذه الصورة تقدم الرواية بطلها شخصًا أحمق، لا يستفيد من حجمه الصغير، يقوده غضبه إلى مواقف فيها هلاكه، ولا يتعلم أبدًا أن الغضب والحمق يسببان له الأذى.
لقد اعتمد المؤلف فى استحضار عنصر الفكاهة طوال الرواية، على السخرية من هذا "الشذوذ الجسدى" أو "الإعاقة" التى وُلِدَ بها عمرون شاه- ولم يطف بذهن المؤلف أن مثل هذه السخريات، التى تكررت عشرات المرات على مدار الرواية، ستشكل موقف القراء الصغار فى مواجهة من يقابلونهم فى حياتهم من أصحاب الإعاقات.
* قصة "غفلة بهلول" [ 2 ]، لكامل كيلانى:
وهذه القصة تدور حول صبى صغير، تعود أن يسير فى الطريق وعينـاه ناظرتـان إلى أعلى. وقد يكون هذا السلوك نوعًا من حب الاستطلاع، أو يكون أحد مظاهر تخلف عقلى، ذلك أنه نتيجة سير بهلول من غير انتباه، نجده فى نهاية القصة يسقط فى مجرى ماء، ويطلق المؤلف على ما حدث أنه "غفلة وبَلَهْ" و"ضعف عقل"، على نحو يدين فيه سلوك ذلك الصغير، وذلك فى قصة موجهة إلى الأطفال الصغار.
** أما فى أدب الأطفال الحديث، فمن أهم ما نلاحظه، هذا التفهم والتقبل لأصحاب الإعاقات بل نجد منها قدوة لمعاملتهم على قدم المساواة مع بقية الأطفال.
فقصة "حكاية طارق وعلاء" (2002) للشارونى[ 3 ]، تقول عنها د. ماريا ألبانو أستاذ الأدب العربى بالجامعات الإيطالية: إحساس الكاتب يُركّز خصّيصًا على الأطفال "ذوى الاحتياجات الخاصة". ففى قصة "حكاية طارق وعلاء"، يحكى الكاتب عن مُقابلة علاء مع طفل آخر، هو طارق، الذى يُعانى من "احتياج خاص". (جَمَعَهُما مشروع "الدمج" فى فصل مدرسى واحد). الشارونى لا يتكلّم أبدًا عن الإعاقة بشكل صريح ، لكنه يصف شخصية طارق الموهوب جدًّا فى الرسم. وفى النهاية سوف يقوم طارق نفسه بمُساعدة علاء وليس العكس. إن التركيز لا يكون على احتياج طارق للتواصل مع الآخرين، لكن على كفاءة "الآخرين" فى التواصل مع طارق. وتتضمّن القصة طرقًا دقيقة للتصرّف والتفاعل مع ما يُسمَّى "الاختلاف"، وذلك بهدف اكتشاف "المهارات" وليس "الإعاقات" للأشخاص الذين يظهرون وكأنهم "غير طبيعيين".
* ومن أجمل القصص المعاصرة التى تقدم شخصية الطفل المختلف، قصة "الأقدام الطائرة" (من الإمارات) لفرج الظفيرى (2015)[ 4 ]. بطل القصة صبى مختلف عن الآخرين– يعانى من تقوس شديد فى ساقيه جعله يمشى على جوانب قدميه على نحو مختلف عن الآخرين، لكنه كان واثقًا من نفسه، يمازح الجميع، ولا يشعر بالحرج بسبب قدميه، أصدقاؤه يتقبلونه بحب ويقولون: "لم نسخر منه، بل كان يدهشنا ببعض أعماله التى لا نستطيع القيام بها"، فقد كان موهوبًا فى القفز العالى والقفز الطويل. ومع ذلك حدث أنهم استبعدوه من اللعب مع فريق كرة القدم.. قال قائد الفريق: "أنت لا تستطيع الجرى.. لا يمكنك اللعب معنا". قال بطل قصتنا: "يمكننى أن أكون حارس المرمى"، ووافق الزملاء.. تقول القصة: "لم يكن يجرى كثيرًا.. يكفيه أن يخطو خطوة أو خطوتين، ثم يطير لالتقاط الكرة ببراعة". وأخيرًا كان الفوز لفريقه، فقد تم التنبه إلى مهاراته وليس إلى إعاقته.
* كذلك قصة "معاق فوق الريح" (من الشارقة) لعبد المطلب أحمد السح[ 5 ]. ففى هذه القصة نتعايش مع بطلها الذى لا يسير إلا بمساعدة "العكازة"، لكنه يعيش مغامرة،           ما بين الفانتازيا والخيال العلمى، يحلم فيها بالتغلب على إعاقته، ويسافر إلى "بلاد الريح" التى توصلت إلى اختراعات وأجهزة تنطق للأبكم، وترى لفاقد البصر، وتعمل بدلاً من الساق المشلولة فيمشى صاحبها مثل الإنسان السليم. وفى مدارس هذه البلاد، يجلس الجميع، الأسوياء والمعاقون، جنبًا إلى جنب. ولا توجد فى هذه البلاد مدارس خاصة للمعاقين، فقد تم دمجهم بشكل كامل فى المجتمع. وقد فازت هذه القصة عام 1998 بجائزة الشارقة للإبداع الأدبى، لتؤكد تغير نظرة المجتمع إلى المعاقين.
* كذلك قصة "مَى تضحك" لمحمد عبد الحافظ ناصف (مصر)[ 6 ].. نقابل فى هذه القصة تلميذة صغيرة تتغلب على مشاعرها تجاه إعاقتها، فقد كانت لها يد بغير أصابع، تخجل منها وتخفيها. لكن فى غرفة الصف الدراسى، جعلها المدرس، أمام بقية تلاميذ الفصل، ترى قدمه المصابة من آثار حرب أكتوبر 1973، فأزال هذا خجلها، وحدث لها تحول كبير فى شخصيتها وسلوكها.
* وأيضًا قصة "الولد الغامض"، للدكتورة حنان نصار (مصر)[ 7 ]، التى تدور حول اختلاف طفل عن الآخرين، فهناك تلميذ صغير يضع "كاب" على رأسه، ونظارة سوداء على عينيه، ويتجنب الاختلاط ببقية التلاميذ. ثم نكتشف أنه يخجل لوجود "ندبة" كبيرة بنية اللون فى جبهته بجانب عينه، يتصور أنها ستجعل الآخرين يسخرون منه ويشعرون أنه مختلف. ولهذا الطفل ثلاثة زملاء: واحد له أصبع زائد فى يده، والثانى أذناه كبيرتا الحجم جدًّا، والثالث أحول العينين ويضع نظارة، أقنعوا بطل القصة أنهم لا يخجلون مما فيهم من اختلافات عن الآخرين، ويشجع هذا البطل على خلع "الكاب" والنظارة، والاشتــراك فى مبـاراة لكرة القدم بغير خجل.
* وفى قصص "حكايات لنور القلب"، للكاتبة نعم الباز، وهى مجموعة قصصية كتبتها المؤلفة للمكفوفين، تعتمد كل قصة منها على البطل والبطلة اللذين كف بصرهما، وأصبحت لديهما حواس أخرى قوية. وتظهر فى هذه الحكايات صورة الفتاة القادرة على مواجهة المشكلات الصعبة وعلى اتخاذ القرار، والتى تتحمل المسئولية وتعرف حقوقها وواجباتها. كما أنها تتحدى التصورات القديمة، وتفكر بأسلوب موضوعى وعصرى فى القضايا المختلفة على الرغم من فقدانها حاسة البصر.
كما نجد الفتاة القادرة على الاختيار، والتى تمارس حقوقها فى اختيار                الزوج ومواجهة التصورات القديمة. فعندما طلب عماد "هنية" للزواج، رفضت أمها               وقالت لها: "لابد أن تتزوجى مكفوفًا مثلك، حتى لا يأتى يوم يتضايق فيه زوجك أو يغار            من المتزوجين من فتيات لم يفقدن البصر"، لكن "هنية" صممت على الزواج من                  "عماد"، كما ظل "عماد" مصممًا على الزواج منها رغم أنها كفيفة، ولم يهتما بالأفكار الشائعة
القديمة.." 
* وفى قصة "مرمر وبابا البجعة" للشارونى، تشارك مرمـر الصغيـرة فى العنايـة ببجعـة فـى إحدى حدائق حيوان الأطفال، وكانت هذه البجعة قد فقدت النصف الأمامى من الجزء العلوى من منقارها، فأصبح من المتعذر عليها الإمساك بأية سمكة، وأصبحت عاجزة عن الصيد وعن إطعام نفسها، ثم ساعدتها بطلة القصة لتأكل. وبهذا أصبحت قصة الحيوان تقدم قدوة حول دور الأطفال فى التعاون مع المعاق.
* ثم هناك قصة "سر الاختفاء العجيب" للشارونى، التى فاز عنها مؤلفها عام 1981، منذ 37 سنة، "بجائزة أحسن كاتب للأطفال" من مصر[ 8 ]، وفيها نتعايش مع طفل مصاب بعرج فى ساقه بسبب إصابته بشلل الأطفال، لكنه استطاع أن يحقق ما لم يستطع رفاقه من الأصحاء أن يحققوه، عندما أنقذ صديقًا له سقط فى بئر مقبرة فرعونية مجهولة، بين التلال القريبة من قريتهم فى (الصعيد) جنوب مصر.
- وتحت عنوان "الساق المصابة" و"سر الاختفاء العجيب" يقول الكاتب القدير الذى فقدناه، فريد محمد معوض، عن هذه القصة:[ 9 ]
يُبرز الشارونى مشكلات الطفل بشكل متميز، وأعنى بالتميز تمكنه من إثارة الموضوع دون ضجيج، ثم مناقشته عبر الأحداث دون مباشرة، كما أنه يقدم الواقع الذى يرجوه أكثر مما يقدم ما يراه فى الواقع، إنه يرجو عالمًا أجمل للطفل، ويهيئ فى كتابته أجواءً لذلك، ويضرب مثلاً للاحتفاء بالطفولة، ويجسد هذا الاحتفاء من خلال شخوصه، لذا نرى دائمًا ومضات الضوء فى شخوص العمل باعتبارها عناصر لتحقيق الأمل. ورغم تعقبه لمشكلات الطفل عبر كتاباته، فإننا نجد نظرته المتفائلة وقد تفاعلت مع حسه القصصى، فرغم كل شىء فإن أجواء الطفولة ما تزال نقية، والإحساس بالانتماء ما يزال موجودًا، والوعى يتشكّل عبر السطور جليًا واضحًا.
    وفى قصة "سر الاختفاء العجيب" يطرح الكاتب مشكلة الطفل محمود، الذى ينظر إليه المجتمع على أنه أقل من رفاقه بسبب الإصابة التى فى قدمه والتى كانت من أثر شلل الأطفال، فعندما يكف الجميع عن البحث عن صديقه سعيد المختفى، يتحدث محمود عن ضرورة مواصلة البحث عنه، فيقول له صديقه:
"هل تظن أنك بهذه الساق العرجاء سوف تفعل ما لم يفعله الرجال الأشداء؟‍"              
    ومحمـود الـذى يـراه الناس معاقًا، يشهد له أصدقاؤه بالمهارة فى استخدام عقله
 وأصابع يديه، "فهو يستطيع إصلاح الراديو الترانزستور، ولا يتفـوق عليـه أحد فى تركيب
أسلاك الكهرباء ومصابيحها".
ومحمود أيضًا عاشق لقراءة الكتب، "ويعرف الكثير من المعلومات التى لا يعرفها الكبار". ورغم هذه المهارات التى تفوق فيها محمود، لم تتغير نظرة أهل القرية إليه، "فقـد
تعودوا أن ينظروا إلى سلامة الجسم باحترام أكثر من نظرتهم إلى أية مواهب أخرى".
    وتلك مأساة نستشعرها جيدًا، ولا ندرى سببًا لهذه النظرة، ربما احتاجت إلى دراسات نفسية شارحة.. لكنه تقرير لواقع.
 وقد ساهم الإعلام للأسف فى دعم تلك النظرة، وساهمت الأعمال الكوميدية الرخيصة فى ترسيخ هذه النظرة أيضًا، فنرى مثلاً استخدام القزم كوسيلة لإضحاك الجمهور دون مراعاة لمشاعر هذه الفئة.
     إن مشكلة محمود فى "سر الاختفاء العجيب" أن الناس لا يؤمنون به ولا يقدرون مواهبه، ويتعرض للسخرية عندما يشارك رفاقه فى اللعب، ويتهامسون عليه ضاحكين لطريقته فى السير. ويُجمل الكاتب نظرة أهل القرية إلى محمود عندما يقول: "أصبح معظم أهل القرية ينظرون إليه نظرتهم إلى شخص عاجز لا يستطيع أن يقوم بما يقدر عليه الآخرون"...
وهذه نقطة التحدى التى انطلق منها محمود، فيقول:
     "سأجعلهم يرون مقدار ما أستطيع أن أفعل.. أنا صاحب الساق العرجاء!"           
واستثمر محمود فرصة الاختفاء العجيب لصديقه سعيد، وزاده حماسًا وإخلاصًا أن صديقه سعيد لم يسخر منه أبدًا، بل وأنقذه ذات يوم من الغرق أثناء تعرضه للسخرية من أحد الرفاق.
أى أن الصغار أيضًا- وليس الكبار فقط- يساهمون معًا فى تأكيد عجز محمود، لذا سيتحدى محمود الكبار والصغار وصُنَّاع الأعمال الكوميدية الهابطة، وسيؤكد للجميع أنه قادر، ليس فقط على أن يجارى الآخرين، بل سيأتى بما لم يأت به الآخرون.
 ولن يجد ظروفًا ملائمة لطموحه أكثر من ظروف الاختفاء العجيب لصديقه سعيد:
     "ما إن لاح الفجر حتى تسلل محمود خارجًا من القرية يحمل معه كيسًا من القماش به زجاجة مملوءة بالماء، وكمية من الخبز، وبعض قطع الجبن، ولم ينس عصاه الغليظة فالجبل به ذئاب وضباع وإن كانت لا تخرج عادةً إلا ليلاً، كذلك أخذ حبلاً ربما يحتاج إليه"                 (ص 27).
    وهذا الاحتشاد للرحلة، والاستعداد لها بالأدوات الملائمة، يؤكد به المؤلف موهبة محمود، ليس فى إصلاح الراديو وتركيب أسلاك الكهرباء فحسب، وإنما بالوعى الذى يناسب المهمة الطارئة التى استجاب على الفور لأدوات التعامل معها. وعلى نحو ما نرى فى الحكايات الشعبية العظيمة، نواجه ما يقابل البطل من صعوبات فى الطريق قبل أن يصل إلى هدفه، فيقابله الضبع وينتصر عليه، وتصادفه معوقات داخل المغارة لكنه يتجاوزها ويرفض أن يتراجع أمامها. إن له هدفًا أساسيًّا هو إنقاذ صديقه، ثم إثبات وجوده فى مجتمع لا يعبأ به، وينجح محمود فى إنقاذ صديقه وفى اكتشاف أثر فرعونى عظيم، ويقرر مع صديقه إبلاغ الجهات المختصة، وتكتم الأمر حتى يكون فى هذا حماية لهذا الاكتشاف. وهكذا ينجح صاحب الساق المصابة فى أن يصبح بطلاً تشيد به الصحافة وتتردد الأحاديث فى القرية عنه وعن بطولته.
 وهكذا تؤكد القصة أن العلة لم تكن فى ساق محمود، وإنما كانت فى تلك النظرة القاصرة التى كانوا ينظرون بها إليه.
    وتؤكد أيضًا أن هناك مستقبلاً أفضل للأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، إذا قدمنا لهم يد العون، ومنحناهم الثقة، وهيأنا لهم فرصًا للإبداع.
* قوة تأثير ما نكتبه على القراء الصغار:
- "سر الاختفاء العجيب" فى مدرسة النور:
وحول هذه الرواية، أذكر أننى تلقيت دعوة من مدرسة "النور" بالإسكندرية، للحديث مع الطالبات فى لقاء ثقافى.
ومدرسة النور يلتحق بها من فقدن البصر، أو صاحبات البصر الضعيف جدًّا الذى                لا يمكنهن من القراءة، وبها فصول من الروضة إلى نهاية المرحلة الثانوية.
وجدت أمامـى جمهورًا تتراوح أعمارهن بين السابعة والخامسة عشرة، اختـرت أن أحكى لهن بعض قصصى، وأعطيت معظم الوقت لرواية "سر الاختفاء العجيب"، التى اخترت لأحداثها قريتى "شارونة"، وبطلها فتى عمره (11) سنة مصاب بشلل أطفال فى إحدى ساقيه، فأصبح يعرج فى سيره، لكنه كان أكثر أطفال القرية اطلاعًا، وأقدرهم مهارة لإصلاح الأجهزة الكهربائية. ومع ذلك كان يعانى من نظرة أهل القرية إليه التى لا تعطى الاحترام الكافى لمن يعانى عجزًا فى قدراته الجسدية.
حكيت القصة، واستمعت إلى كثير من الأسئلة، ودار بينى وبينهن حوار حول                ما تحتاجه هؤلاء الفتيات من تفهم أكثر لاحتياجاتهن من المجتمعات التى يعيشون فيها.
وعندما انتهى اللقاء، طلبت منى بعض الطالبات أن أترك للمدرسة نسخة الرواية.
بعد بضعة أشهر، فوجئت بالمدرسة تدعونى إلى لقاء آخر.
عندما بدأت اللقاء، فوجئت بالأسئلة تنهال من طالبات مختلف المراحل، حول أحداث وشخصيات "سر الاختفاء العجيب"!!
سألت فى دهشة: "من أين أحاطت الطالبات بهذا الكم من المعلومات حول الرواية وشخصياتها؟!"
هنا تقدمت مديرة المدرسة تعرض أمامى نسخة من الرواية، مكتوبة بطريق "برايل"،
التى تعتمد على الحروف البارزة.
فبعد اللقاء الأول، طلبت الفتيات من إدارة المدرسة كتابة نسخة (أو عدة نسخ) من الرواية بهذه الطريقة، التى تمكنهن من القراءة. فاستجابت المدرسة ووفرت لهن عدة نسخ، قدمن لى واحدة منها هدية.
قالت لى مديرة المدرسة تشرح ما حدث: "فوجئت برد فعل كبير بعد أن حكيت لهن فى اللقاء الأول موضوع روايتك. وأستطيع تأكيد أنه لا توجد الآن طالبة فى المدرسة لم تقرأ سر الاختفاء أكثر من مرة".
سألتها فى دهشة: "لكن بطل الرواية مصاب فى ساقه، وطالباتك مشكلتهن البصر!"
أجابت وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة كبيرة: "المسألة ليست نوع الإعاقة، لكن فى تصميم بطل قصتك على التحدى، فعلى الرغم من اختلافه عن الآخرين، استطاع أن ينجز وحده ما لم يستطع الكبار إنجازه، فخرج وحده يبحث عن صديقه الذى تاه بين التلال القريبة من القرية، بعد أن بحث عنه الكبار لكنهم عادوا وقد يئسوا من العثور عليه- إلى أن وجده بطل القصة وأنقذه من الموت بعد سقوطه فى بئـر مقبرة فرعونية قديمة، وأثبت بذلك أن المختلف يمكن أن يتفوق على غيره ممن
يتمتعون بسلامة كل الأعضاء".
ثم أضافت فى تأكيد: "إننا فى حاجة إلى أعمال أدبية كثيرة، جذابة ومشوقة مثل هذه القصة، فقد لمست بنفسى قوة تأثيرها فى تأكيد ثقة بناتى بأنفسهن ومستقبلهن".

* الحكايات:
وفيما يلى عدد من الحكايات ، تكتمل بها هذه الدراسة:

* مرمر وبابا البجعة [ 10 ]

فى إشفاقٍ وشىءٍ من الألمِ، جاءَتْ مرمر تهمسُ فى أذنى: "كيف تستطيعُ هذه البجعةُ أن تأكلَ أو تصطادَ السمكَ؟"
    وجَّهْتُ بصرى إلى الناحيةِ التى تُشيرُ إليها بيدِها..
    كانَ النصفُ الأمامِىُّ من الجزءِ العلوِىِّ من المنقارِ الطويلِ العريضِ، مكسورًا عند منتصِفهِ وغير موجودٍ.. وامتلأتُ أنا نفسى بالدهشةِ وقلتُ:
    "مستحيلٌ أن تتمكَّنَ بجعةٌ من الإمساكِ بأيةِ سمكةٍ مستخدمةً الجزءَ الأسفلَ وحدَهُ من منقارِها.."
    وأمسكْتُ بيدِ مرمر، وذهَبْنا إلى عمِّ فتحى، حارسِ حديقةِ حيواناتِ الأطفالِ، المُلحَقةِ بأحدِ الفنادقِ المقامةِ على جزءٍ من جزيرةٍ رائعةِ الجمالِ وسطَ النيل،ِ قُرْبَ الأقصرِ.
    قالَ عمِّ فتحى بصوتِهِ الهادئِ، وكلُّ ملامحِ وجهِهِ تنطقُ بالأبوةِ والحنانِ: "عِنْدَنا بجعتانِ، نستخدم المقص لنقصُّ منهما الريشَ كلَّ أسبوعٍ، لنمنعَهما من الطيرانِ إلى حيث لن تعودا.
    لكنْ حدثَ ذاتَ يومٍ، منذُ خمسِ سنواتٍ، أن استطاعَتْ تلك البجعةُ الطيرانَ، فتخطَّتِ الحاجزَ حولَ بحيرتِها، ولم يساعدْها الجناحانِ إلا لتسقطَ فى البحيرةِ المُخصَّصةِ للتمساحِ.
وانقضَّ التمساحُ عليها، فلم يمسكْ منها إلا بالنصفِ الأمامىِّ من الجزءِ العلوِىِّ من المنقارِ.
ولم تستطعِ التخلُّصَ منه إلا بأن تركَتْ له ذلك الجزءَ، الذى تَحطَّمَ تمامًا بينَ أسنانِ الوحشِ، أكبر الزواحف، وطارَتِ عائدةً إلى بحيرتِها وهى تُطلِقُ صيحاتِ الرعبِ.
وحاولَ عدد من الأطباءُ البيطريين تثبيتَ منقارٍ صناعىٍّ لتعويضِ الجزءِ المفقودِ، لكنَّ محاولاتِهم لم تنجحْ".
سألَتْ مرمر عمِّ فتحى فى دهشةٍ: "تقول إن هذا حدثَ هذا منذُ خمسِ سنواتٍ، فكيف عاشَتْ البجعة إلى الآنَ؟ كيف تأكلُ؟!"
    هنا تَدخَّلَ فى الحديثِ المُشرِفُ على حديقةِ حيواناتِ الأطفالِ، ليقولَ: "عمِّ فتحى يعتبُر هذه البجعةَ ابنتَهُ.. إنه يُطعِمُها فى كلِّ يومٍ كيلو ونصف كيلو جرام من الأسماكِ، يضعُها فى الجرابِ الواسعِ الذى نراه تحتَ الجزءِ الأسفلِ من المنقارِ".
"وإذا تغَيَّبَ فتحى فى إجازةٍ ، يتصلُ بنا تليفونيًّا مرةً أو مرتَيْنِ كلَّ يومٍ،               ولا يهدأ إلا بعدَ أن يتأكَّدَ أن أحدَ زُملائِهِ قد قدَّمَ للبجعةِ المصابةِ طعامَها اليومِىَّ".
هنا التفتَتْ مرمرُ إلى عمِّ فتحى فى إعجابٍ، ثم قالت وهى تبتسم: "أتمنَّى أن أحتفظَ بصورةٍ لى مع البجعةِ وأنا أساعد عمِّ فتحى، بابا البجعةِ، فى إطعام بجعته".
والتقَطْنا الصورةَ، ومرمرُ تعرضُها الآنَ على الأصدقاءِ وتقولُ: "الآن أصبحْتُ أعرفُ مع أنه يُمكِنُ أن تكونَ لبعضِ الطيورِ آباءٌ من البشرِ، مثلُ بابا وماما!!"

* مختلف فى شىء ويشبهك فى بقية الأشياءِ [ 11 ]

    فى كلِّ يومٍ أقابلُ أطفالاً يُشبِهونَنى فى كلِّ شىءٍ.
    أحدُهم قد لا يمشى بنفسِ الطريقةِ التى أمشى بها، أو قد لا يسمعُ الأصواتَ التى أسمعُها، وقد لا يرى الأشياءَ التى أراها.
    لكنه مثلى تمامًا، يستطيعُ أن يتذوَّقَ الشيكولاته، وأن يشمَّ رائحةَ الوردِ، وأن يستمتعَ باللعبِ على الأرجوحةِ أو بالمكعباتِ أو بالعومِ فى الماءِ..
    إنه يُحِبُّ الذهابَ إلى المدرسةِ، والتلوينَ بالأقلامِ أو التشكيلَ بالصلصالِ.
    إنه يتعلَّمُ كيف يتحدَّثُ بأصابعِ يدَيْهِ إذا لم يكنْ يسمعُ، وأن يقرأَ بهما إذا لم  يكنْ يرى، أو يجلسَ على مقعدٍ بعجلاتٍ إذا لم يكُنْ يمشى. لكنه مثلى يتناولُ                الطعامَ، ويغسلُ وجهَهُ، وينامُ، ويذهبُ إلى الطبيبِ، ويغسلُ أسنانَهُ بالفرشاةِ، ويلعبُ مع قطةِ البيتِ.
    إنه يبتسمُ لك، ويكونُ سعيدًا عندما تُقبِّلُهُ أمُّهُ أو يحتضنُهُ أبوه.
    هذه عباراتٌ فى كتابٍ مُصوَّرٍ اسمُهُ "إنهم يشبهونَكَ تمامًا".
    ويقولُ المؤلفُ: "هذا كتابٌ عنَّا جميعًا، صغارًا وكبارًا، فكلُّ واحدٍ منا معاقٌ بشكلٍ أو بآخرَ"، مثلاً فى عزفِ الموسيقى، أو أداءِ لعبةٍ رياضيةٍ، أو رسمِ لوحةٍ.
    لكنَّ كلَّ واحدٍ منَّا له ناحيةٌ يتفوقُ فيها، وجوانبُ أخرى لا حصرَ لها يتشابَهُ فيها مع الآخرينَ.

* كوب شاى من فوق كرسى متحرك [ 12 ]

هذه قصةٌ سمعتها من فتاةٍ من تونسَ، عمرُها 11 سنةً، اسمُها "مروى الشواشى".. تقولُ مروى:
    سامى طفلٌ فى التاسعةِ، دائمًا يتملَّصُ من واجباتِهِ المنزليةِ.
    ذاتَ يَوْمٍ طلبَتْ منه أمُّهُ الذهابَ إلى السوقِ لكنه رفضَ، فقالَتْ أمُّهُ: "ولكنْ يا سامى انظرْ إلى حالتى.. أنا أتعبُ وأعدُّ لك الطعامَ".
    قالَ سامى: "بابا يقولُ إن هذا واجبُكِ يا أمِّى".
    قالَتِ الأمُّ: "أبدًا يا سامى، فأنت عليكَ واجباتٌ كما أن لك حقوقًا".
    أجابَ سامى: "بابا لا يذهبُ أبدًا إلى السوقِ، وأنا لن أذهبَ".
    وبعدَ العصرِ ذهبَ سامى إلى صديقِهِ أحمد لزيارتِهِ، فطرقَ البابَ. وفتحَ له أحمد البابَ بنفسِهِ مع أنه يتنقَّلُ بكرسِىٍّ مُتحرِّكٍ.
    ولم يتكلَّمْ سامى، وجلسَ مع صديقِهِ فى غرفتِهِ. وفجأة استأذنَ أحمد وغابَ لحظاتٍ، ثم عادَ بكوبٍ من الشاىِ.
    قال سامى لصديقِهِ: "لماذا تقومُ بهذه الأعمالِ؟ اتركْ أُمَّكَ تقومُ بها واسترِحْ أنت".
    قالَ أحمد: "لا يا سامى، فترتيبُ غُرَفِنا والقيامُ بشئونِ ضيافةِ أصدقائنا من واجباتِنا وليسَتْ من واجباتِ أُمَّهاتِنا".
    وفى اليومِ التالى دخلَتْ أمُّ سامى غرفةَ ابنِها، فدهشَتْ مما رأت.
    لقد وجدَتِ الغرفةَ مُرتَّبةً على أحسنِ ما يُرامُ!! ‍‍‍‍‍

* دب على كرسى متحرك [ 13 ]

تاهَتِ البنتُ فى الغابةِ، ودخلَتْ بيتَ الدببةِ الثلاثةِ، فكسرَتْ أصغرَ مقعدٍ، وأكلَتِ الطعامَ
من أصغر طبقٍ، ونامَتْ فوقَ أصغر سريرٍ.      ثم استيقظَتْ فجأةً لتجدَ ثلاثةَ دببةٍ تُحملِقُ فيها: الدبُّ الأبُ والدبةُ الأمُّ والابنُ الصغيرُ.      وقبلَ أن تفكرَ فى القفزِ من النافذةِ والهربِ، سألَها الدبُّ الصغيرُ فى رقةٍ: "لماذا فزعْتِ؟"      قالَتْ: "كنتُ تائهةً، مُتعبةً، جائعةً، ثم وجدْتُ سريرَكَ فنمتُ فوقَهُ".      قالَ لها الدبُّ الصغيرُ: "لا تخافى.. سأرشدُكِ إلى طريقِ بيتِكِ".    
ولاحظَتِ البنتُ أن الدبَّ الصغيرَ يجلسُ على كرسِىٍّ يتحركُ بعجلاتٍ، فسألَتْهُ: "لماذا تستخدمُ هذا المقعدَ؟"      قالَ الدبُّ: "إنه يُساعِدُنى على الحركةِ بحريةٍ.. هل تُحبِّينَ تجربتَهُ؟"      وجربَتِ الفتاةُ أن تجلسَ على المقعدِ وأن تُديرَ عجلتَيْهِ، فآلمَتْها يديها.      قالَ لها الدبُّ: "فى البدايةِ كنتُ أتألَّمُ، أما الآنَ فقد اعتدْتُ عليه".
واصطحبَها بين أشجارِ الغابةِ وأعادَها سالمةً إلى بيتِها.      قالَتِ البنتُ لنفسِها:
"جلوسُـهُ على كرسىٍّ متحركٍ لم يمنعْهُ من مساعدتى على العودةِ، أما أنا التى
تمشى على ساقَيْنِ سليمتَيْنِ، فقد تعذَّرَ أن أعودَ وحدى".    
وكان هذا هو بدايةَ صداقةٍ قويةٍ بين البنتِ والدبِّ الصغير.        
* الكفيفات يطالبن بإذاعة الأفلام [ 14 ]

    فى معهدِ الكفيفاتِ بالإسكندريةِ، الذى يشملُ المراحلَ الدراسيةَ من الروضةِ إلى الثانويةِ العامةِ، التقَيْتُ بخمسين من المُتفوِّقاتِ فى الموسيقى والغناءِ، ووقفْتُ أستمعُ إلى أغربِ الأسئلةِ والتعليقاتِ.
سألَتْ منال وصابرين: "لماذا اهتممْتَ أن تأتِىَ إلينا، فى حينُ يرفضُ غيرُكَ مُجرَّدَ التفكيرِ فى اللقاءِ بنا؟"
وسألَتْ لوسى: "لماذا يتصوَّرُ الناسَ أننا جُهلاءُ، لمُجرَّدِ أننا فقَدْنا البصرَ؟"
وقالَتْ شيماءُ: "لماذا يسخرُ منَّا الأطفالُ المُبصِرونَ، وينادون قائلينَ:  يا أمَّ أربعِ عُيونٍ"، أو يضعونَ العقباتِ فى طريقِ سَيْرِنا ليضحكوا علينا؟"
وقالَتْ نرمين: "لماذا لا يشرحُ لنا التلفزيونُ الأفلامَ التى يعرضُها، أو على الأقلِّ لماذا لا تُقدِّمُ الإذاعةُ برنامجًا خاصًّا نستمعُ من خلالِهِ إلى حوارِ الأفلامِ، ويشرحُ المُذيعُ ما يحتـاجُ
إلى رؤيةٍ؟"
    وسألَتْ هبة: "لماذا يعزلُنا المُجتمَعُ فى مدارسَ خاصَّةٍ، ويمنعُنا من الاختلاطِ ببقيةِ الأطفالِ؟"
وسألَتْ جوزفين: "ماذا تتوقَّعُ فى الألفيةِ الثالثةِ لفاقدى البصرِ؟"
    وعن هذا السؤالِ الأخير قلْتُ: "قرأْتُ عن اختراعِ جهازٍ يُؤدِّى وظيفةَ العينِ البشريةِ إذا كانَ العصبُ البصرِىُّ سليمًا، لذلك أتوقَّعُ أن يستطيعَ عددٌ كبيرٌ من فاقدى البصرِ أن يُبصِروا خلالَ العشرِ سنواتٍ القادمةِ".

* كرسى متحرك يركب الأتوبيس [ 15 ]

    كنتُ فى الأتوبيسِ المتجهِ إلى بدايةِ خطِّ مترو الأنفاقِ فى أحدِ أحياءِ نيويورك، وكانَتْ كلُّ المقاعدِ مشغولةً.
    وفجأةً، عندما اقتَربْنا من إحدى محطاتِ الأتوبيس، وجدْتُ الثلاثةَ الذين يجلسون على المقاعدِ الجانبيةِ خلفَ السائقِ قد وقفوا، ثم بدأَتِ المقاعدُ تنطوى على نفسِها حتى التصقَتْ تمامًا بجانبِ الأتوبيسِ. وكانَ كلُّ هذا يتمُّ بأزرارٍ يضغطُ عليها السائقُ.
    وتنبَّهْتُ إلى أنه على المحطةِ ينتظرُ شابٌّ يجلسُ فوقَ مقعدٍ له عجلاتٌ.
    وبالضغطِ على زرٍّ آخرَ اختفَى سلمُ الصعودِ بدرجاتِهِ ودخلَ تحتَ قاعدةِ الأتوبيسِ، وظهرَتْ بدلاً منه قطعةٌ مُسطَّحةٌ من المعدنِ ارتكزَتْ حافتُها على رصيفِ المحطةِ، بينما ظلَّتْ حافتُها العلويةُ عند مستوى أرضيةِ مقاعدِ السيارةِ.
وعندئذٍ صعدَ صاحبُ المقعدِ بعجلاتِ مقعدِهِ على ذلك السطحِ المُنحدِر، واستقرَّ فى المكانِ الذى أصبحَ خاليًا بعدَ اختفاءِ مقاعدِ الركابِ الثلاثةِ.
    وتمَّ كلُّ هذا فى سرعةٍ وهدوءٍ، فكلُّ واحدٍ يعرفُ دورَهُ وواجبَهُ، وعلى استعدادٍ للقيامِ به راضيًا، بل متحمسًا، من أجلِ شخصٍ قد يختلفُ عنهم فى شىءٍ، لكنه قد يتفوقُ عليهم فى عددٍ من الأشياءِ الأخرى، فليسَ هناك إنسانٌ معوقٌ، بل صاحبُ "احتياجٍ خاصٍّ".

* أم لألف طفل [ 16 ]

    بعدَ حوارٍ ساخنٍ حولَ العلمِ والمستقبلِ والكتبِ والفنونِ، مع ثلاثمائةِ فتىً وفتاةٍ بالمرحلةِ الابتدائيةِ بإحدى المدارسِ الكبرى بالقاهرةِ، خرجْتُ من المسرحِ الكبيرِ معَ مديرةِ المدرسةِ، نتحدَّثُ عن أساليبِ تنميةِ عادةِ القراءةِ، وقوةِ الملاحظةِ، والتفكيرِ العلمِىِّ.
    وفجأةً لم أجدِ المديرةَ بجانبى، والتفتُّ أبحثُ عنها، فوجدْتُها انشغلَتْ بطفلةٍ فى السابعةِ تنحدرُ الدموعُ فى صمتٍ من عينَيْها الملونتَيْنِ الجميلتَيْنِ.
    كانَتِ المديرةُ تضمُّ الطفلةَ فى حنانٍ وقد انحنَتْ عليها تحدِّثُها فى رقةٍ.
ومددْتُ يدى لأصافحَ الطفلةَ ، لكنها لم تمدَّ يدَها.
    وفجأةً لاحظْتُ الذين حولى ينبِّهونَنى بالإشاراتِ إلى شىءٍ غابَ عنِّى… فأخذْتُ أحملقُ غيرَ مُصدِّقٍ فى الوجهِ الصغيرِ الجميلِ..
    كانَتِ الطفلةُ الذكيةُ لا ترى!
وعندما اقترَبَتْ زوجتى ناحِيَتنا، حَوَّلَتِ الطفلةُ وجهَها إليها بسرعةٍ وهى تقولُ: "طنط.. أريدُ منكِ وردةً".
    وامتلأتْ زوجتى دهشةً لقدرةِ الطفلةِ على تحديدِ الشخصِ الذى يحملُ وردةً، وأسرعَتْ تُعطيها الوردةَ التى قدَّمَتْها لنا الطالباتُ منذُ قليلٍ.
    وفى شغفٍ اقتربَتْ أصابعُ الصغيرةِ بالوردةِ من وجهِها، تستنشقُ العبيرَ فى سعادةٍ حقيقيةٍ وقد جفَّتْ دموعُها.. هنا فقط أطمأنَّتِ المديرةُ على الطفلةِ فأستأنَفْنا سَيْرَنا.
    سألْتُها: "كم عددُ الأبناءِ فى مدارسِكِ؟"
    قالَتْ: "ثلاثةُ آلافٍ".
    قلْتُ لنفسى: "شىءٌ رائعٌ أن نجدَ مثلَ هذه الأمِّ الحقيقيةِ لكل هؤلاء الصغارِ من أبنائنا".

* حادث لطفلة لا تسمع ولا تتكلم [ 17 ]

    فتاةٌ عمرُها 12سنةً، تعثَّرَتْ قدماها وهى تسيرُ أمامَكَ على رصيفِ  الشارعِ، وسقطَتْ بعنفٍ على الأرضِ، فأسرعْتَ إليها تحاولُ مساعدتَها على الوقوفِ، لكنها لم تستطعْ.
    كانَتْ تصرخُ من الألمِ، فسألْتَها: "ماذا يؤلمُكِ؟"
    فلم يظهرْ عليها أنها سمعَتْكَ.
    ولاحظْتَ أنها تحاولُ التعبيرَ بأصابعِ يدَيْها عن شىءٍ.
    وأخيرًا فهمْتَ أنها لا تسمعُ ولا تتكلمُ، وأنها صمَّاءُ بكماءُ، وأنت لا تعرفُ كيف تسألُها عن اسمِها أو عنوانِها، ولا عن مكانِ الألمِ فى جسمِها.    
وتَجمَّعَ حولَكما عددٌ كبيرٌ من الناسِ، بغير أن يستطيعَ أحدٌ أن يفهمَ أيةَ معلوماتٍ من البنتِ المُصابةِ.
    ولمثلِ هذا الموقفِ، صدرَكتابٌ بعنوانِ "كيفَ أستطيعُ تقديمَ المساعدةِ"، وهو كتابٌ يحاولُ أن يعلِّمَ الطفلَ العادِىَّ كيف يفهمُ معنى أهمِّ الإشاراتِ التى يستخدمُها الصمُّ
 والبكمُ فى حالاتِ الطوارئِ.
    فقد يضلُّ الطفل ويتوهُ، ويحتاجُ لمن يُرشِدُهُ إلى الطريقِ. وقد يسقطُ من فوقِ دراجـةٍ
 يركبُها، وقد يُصابُ فى حادثٍ من حوادثِ المرورِ.
ومثلُ هذه الكتبِ تفتحُ الطَّريقَ أمامَ الطفلِ العادِىِّ لمساعدةِ الطفلِ الذى لا يسمعُ ولا يتكلمُ.
    لكنها أيضًا تجعلُ الطفلَ العادِىَّ أكثرَ تقبُّلاً لوجودِ طفلٍ قد يختلفُ عنه فى شىءٍ ما.

* فى المتحف على كرسى متحرك [ 18 ]

    قالَتِ الإخصائيةُ بقسمِ التربيةِ المتحفيةِ بالمتحفِ اليونانىِّ الرومانىِّ بالإسكندريةِ:
    "عندما كنتُ أقفُ فى إحدى قاعاتِ المتحفِ ، جذبَ انتباهى ثلاثةُ أصدقاءٍ من الشبابِ الصغيرِ يتأملون المعروضاتِ، وبينهم صديقٌ رابعٌ يجلسُ على كرسىٍّ متحرِّكٍ، وقد انهمكوا فى قراءةِ البطاقاتِ التى تُجاوِرُ معروضاتِ المتحفِ".
    وعندما بدأتُ الحديثَ معَهم قالَ لى أحدُهم: "نحن أربعةُ أصدقاءٍ بالصفِّ الثانى الإعدادِىِّ: إبراهيم وعصام وإيهاب وعماد، وهذه زيارتُنا الأولى للمتحفِ".
    قلْتُ لهم: "بعد أن تُكمِلوا جولتَكم، ما رأيُكم فى أن تشتركوا معى فى الرسمِ، أو فى تشكيلِ قِطَعٍ مُجسَّمةٍ من الصلصالِ تُعبِّرونَ بها عما أثارَ إعجابَكم من معروضاتٍ؟"
فتَحمَّسوا لاقتراحى ، خاصةً إيهابَ الجالسَ على الكرسىِّ المتحركِ، والذى كانَ بريقُ الذكاءِ يُطِلُّ من عينَيْهِ إلى جانبِ خفةِ ظلِّهِ. وتَسابَقوا فى عملِ عدةِ أشكالٍ من الصلصالِ.
    وكانَتِ النتيجةُ رائعةً خاصةً ما أبدعَهُ إيهاب. لكنَّ صداقتَهم كانَتْ أكثرَ روعةً،            فقد رأيْتُ فيها المبادرةَ بالمساعدةِ، والمشاركةِ فى المشاعرِ، والتفاهمِ والإخلاصِ، معَ نجاحِهم فى توفيرِ الصحبةِ التى اندمجَ فيها زميلُهم إيهاب بمشاعرهِ مع أنشطتِهم.

* الأطفال يفهمون [ 19 ]

كانَتْ زوجتى مع حفيدتِنا فى حديقةِ الحيواناتِ، وجذبَ انتباهَها فتاةٌ صغيرةٌ تجلسُ على كرسِىٍّ له عجلتانِ كبيرتانِ، وتنظرُ فى أسى إلى عددٍ كبيرٍ من الأطفالِ السعداءِ يمرحون بالقربِ منها على العشبِ الأخضرِ.
    وراقبَتْ زوجتى صبِيًّا فى مثلِ سنِّ الفتاةِ ، قد تركَ اللعبَ ووقفَ ينظرُ إلى الفتاةِ من بعيدٍ.
ثم اقتربَ منها وقد ارتسمَتِ ابتسامةٌ على وجهِهِ وشفتَيْهِ ، وقالَ لها فى إعجابٍ: "ما أجملَ شعرَكِ الطويلَ!"
    وفى الحالِ أشرقَتْ من خلالِ دموعِ الصغيرةِ، ابتسامةٌ كبيرةٌ سعيدةٌ!!

* أولاد القمر [ 20 ]

ذهبْنا إلى أحدِ مراكزِ ذوى الاحتياجاتِ الخاصةِ التى يتحدَّى أطفالُها الإعاقةَ العقليةَ، ليشتركَ معنا بعضُ الأطفالِ فى تقديمِ مسرحيةٍ للعرائسٍ.
وعندما تََقدَّمَ إلينا "كريم"، أشارَتِ المشرفةُ بأنه لن يكونَ مُفيدًا فى تحريكِ العرائسِ، لأنه لا يستطيعُ أن يتحكم فى حركة يدَيْهِ، لَكنَّ كريم كان متحمسًا جدًّا ليشتركَ معنا فى "لعبةِ التمثيلِ بالعرائسِ"، فأخذْناه مَعنا.
وكم كانـَتْ دهشتـُنا عندما وَجدْنا أنه بدأ شيئًا فشيئًا يستخدمُ يدَيْهِ، لأن حماسَهُ جعلَهُ يتغلَّبُ على إعاقتِهِ.
وها أنت تراه اليومَ يُمسِكُ بيَدْيهِ الاثنتينِ العصا التى يرفعُ بها الوردةَ التى هى إحدى شخصياتِ مسرحيةِ "الوردةُ الزرقاءُ"، ويحرِّكُها بمهارةٍ مع نغماتِ موسيقى وكلماتِ الأغانى".
شاهـدْتُ هذا الطفلَ وسمعْتُ هذه الواقعةَ من رئيسةِ المركزِ القومىِّ لثقافةِ الطفلِ، بعد
أن قدَّمَ الأطفالُ ذو الاحتياجاتِ الخاصةِ المسرحيةَ التى كانَتْ أحد عَناصرِ فيلمِ "أولاد القمر"، الذى فازَ بشهادةِ لجنةِ تحكيمِ مهرجانِ سينما الأطفال، "تقديرًا لهذه التجربةِ الرائدةِ فى فيلمٍ يقومُ ببطولتِهِ الأطفالُ ممن يتحدَّوْنَ الإعاقةَ".
بل اشتركَ فى الفيلمِ طفلٌ جاءَ إلى الدنيا بغير أصابعِهِ العشرةِ، وكانَ يحرِّكُ العروسةَ فى مهارةٍ بما بَقِىَ من ذراَعْيهِ.

* سمكة نهاد التى لم تَرْسِم من قبل!! [ 21 ]

    حدَّثَتْنى أمينةُ التربيةِ المتحفيةِ بالمتحفِ اليونانِىِّ الرومانىِّ بالإسكندرية، قالَت:
استقبلْتُ والدةً تدخلُ المتحفَ وهى تحملُ ابنتَها المُصابةَ فى ساقَيْها بشلل الأطفالِ، والصَّبيَّةُ تدفنُ وجهَها فى كتفِ أمِّها.
وعندَما سألَتْ الابنةَ عن اسمِها وعمرِها، لم أسمعْ صوتَها، وبدلاً منها أجابَنى والدُها قائلاً:
"نهاد، 8 سنواتٍ، فى الثانية الابتدائيةِ، من محافظة الشرقيةِ".
وقمْتُ بإحضارِ كرسِىٍّ بعجلاتٍ، فجلسَتِ الصبيةُ عليه، لكنَّ الخوفَ ظلَّ يمنعُها من الكلامِ.
وعندما بدأنا نتجوَّلُ بالمتحفِ، اخترْتُ من المعروضاتِ ما يُثيرُ اهتمامَها، مثلَ الحيواناتِ والأسماكِ، فبدأتْ تتحدَّثُ مُتردِّدةً.
لكنها عندما أحسَّتْ أننى سعيدةٌ بتعليقاتِها، مهتمةٌ بأسئلتِها، اندمجَتْ معى فى الحديـثِ، وابتسمَتْ، بل وانطلقَتْ تضحكُ.
وفى نهايةِ الجولةِ، طَلَبْتُ منها أن ترسمَ شيئًا، لكن الأمَّ أسرعَتْ تقولُ فى تأكيدٍ: "نهاد لا تعرفُ الرسمَ‍!"
لكننى أحضرْتُ ورقةً وألوانًا، فانهمكَتْ نهاد فى الرسم، وكلما أضافَتْ بعضَ الخطوطِ أو الألوانِ، كلما ازدادَ شعورُها بالثقةِ والسعادةِ، وهى تراقبُ انبهارى بالسمكةِ التى              أبدعَتْها.
ثم سِرْنا حتى اختارَتِ المكانَ الذى تعلِّقُ فيه لوحتَها، بالمعرضِ الذى يُقيمُهُ              المتحفُ.
وعندَ بابِ الخروجِ، التفتَتْ نهاد ناحِيَتى ضاحكةً مرفوعةَ الرأسِ، وقالَتْ فى ثقةٍ: "سنعودُ مرةً أخرى!"

* إنه معاق لكن الله اختارنا لرعايته [ 22 ]

كان الدكتور محمد رضا بسيونى، الأستاذ بكلية الطب جامعة المنصورة، يتحدث فى مؤتمر تربية الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، وذكر أن مهندسًا معروفًا وزوجته الأستاذة الجامعية لم يكن لهما أطفال، فطلبا منه أن يدلهما على رضيع يمكن أن يقوما بتربيته.
وحدث أن أهالى إحدى القرى عثروا على طفل حديث الولادة ملقى فى الطين على حافة ترعة، فأخبر الطبيب الزوجين بذلك، لكنه قال لهما:
"الأمل ضعيف فى قدرة هذا الطفل على مواصلة الحياة، فهو ضعيف جدًّا بسبب طول الوقت الذى قضاه بغير رعاية".
لكن الزوجين طلبا منه وضع الطفل فى العناية المركزة، وقالا إنه إذا عاش تكون هذه إشارة إلى أن هذا الطفل هو الذى اختاره لهما الله.
واستجاب لهما الطبيب، واستمر الطفل فى الحياة كأنها معجزة، فأخذه الزوجان فى حضانتهما.
وبعد أربعة أشهر، اتضح أن الطفل معاق إعاقة كاملة بسبب معاناته من نقص الأكسجين عند الولادة.
قال الطبيب للزوجين: "يمكن أن تتخليا عنه، فالعناية بمثل هذه الحالة تحتاج إلـى
وقت ومجهود يستمر طوال الحياة".
لكن الزوجين تمسكا بالطفل بإصرار وهما يقولان:
"لأنه معاق، فقد اختارنا الله لرعايته وتربيته!"



المراجع

[ 1 ] أبو حديد، فريد، "عمرون شاه"، القاهرة: دار المعارف، سلسلة "أولادنا"– 1960.
[ 2 ] كيلانى، كامل، "غفلة بهلول"، القاهرة: دار مكتبة الأطفال، غير مبين تاريخ النشر لكن الكتاب نشر فى حياته قبل 1959.
[ 3 ] الشارونى، يعقوب، "حكاية طارق وعلاء"، القاهرة: دار المعارف، 2002.
[ 4 ] الظفيرى، فرج، "الأقدام الطائرة"، دبى: الإمارات العربية المتحدة، دار العالم العربى للنشر والتوزيع، 2015.
[ 5 ] السح، عبد المطلب أحمد، "معاق فوق الريح"، الشارقة: دولة الإمارات العربية المتحدة، نشر دائرة الثقافة والإعلام، 1999.
[ 6 ] ألبانو، ماريا، "القصة المصرية الحديثة للأطفال، مختارات"، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009.
[ 7 ] مرجع سابق، ألبانو، القصة المصرية الحديثة للأطفال.
[ 8 ] الشارونى، يعقوب، "سر الاختفاء العجيب"، دار المعارف- سلسلة "المكتبة الخضراء للأطفال- رقم (79).
[ 9 ] معوض، فريد محمد، "أفراح وأحزان طفل هذا الزمان"، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008.
[ 10 ] الشارونى، يعقوب، "مرمر وبابا البجعة"، القاهرة: دار البستانى للنشر والتوزيع، 2005.
[ 11 ] صحيفة الأهرام، 28- 1- 2001، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 12 ] صحيفة الأهرام، 7- 5- 2000، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 13 ] صحيفة الأهرام، 22- 1- 2001، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 14 ] صحيفة الأهرام،21- 1- 2001، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 15 ] صحيفة الأهرام، 21- 2- 2000، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 16 ] صحيفة الأهرام، 19- 3- 1994، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى القاهرة.
[ 17 ] صحيفة الأهرام، 20- 1- 2000، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 18 ] صحيفة الأهرام، 18- 4- 1999، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 19 ] صحيفة الأهرام، 16- 6- 1986، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 20 ] صحيفة الأهرام، 14- 3- 1999، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 21 ] صحيفة الأهرام، 7- 12- 1996، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.
[ 22 ] صحيفة الأهرام، 4- 4- 2004، باب "ألف حكاية وحكاية"، يعقوب الشارونى، القاهرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق