السبت، 7 يوليو 2018

"الــــــوديــعــــة " قصة للشباب بقلم: وهيبة سقاي



الــــــوديــعــــة
وهيبة سقاي
قسنطينة / الجزائر
(اليوم هو الخامس من جويلية / تموز، عيد استقلال بلدي (5جويلية /يوليه 1962). هذه القصّة الواقعية، مهداة إلى الشباّن  و الشابات الجزائريات..كلّ عام ووطني بألف خير.
تمنياتي القلبية بدوام  الازدهار، و الأمن و الأمان لجزائرنا الحبيبة.)

منطقة "الأوراس"  الجزائرية  ، تُنسب للسلسلة الجبلية  المحيطة بها و التّي تحمل هذا الاسم ،       و جبال "الأوراس " هي جبال عالية القمم تقع شمال شرق الجزائر . كانت هذه المنطقة  خلال  الثورة الجزائرية ملجأ  للثوار والمجاهدين، و جبالها مخبأ لهم . فتاريخ الجزائر الحديث والقديم مرتبط بهذا الإقليم.
القصّة الآتية تروي أحداث عائلة فرنسية  كانت تقطن هذه المنطقة ،و هي تتكوّن من الزوج " برنار" تاجر ،و الزوجة "نيكول" ماكثة بالبيت .
دعا "برنار" زوجته ذات مرّة ،و قال لها :
ـــ "نيكول" العزيزة ،تعالي هنا ،فإنّي أحّب أن أسّر لك بخبر،و اكشف لك  على سّر دفين ،فقد حان الوقت الّذي لا بّد أن تعلمي فيه، ما غيّبَته عنك  الظروف ،و أزفت السّاعة التّي لا ينفع فيها الكتمان.
عجبت "نيكول" كّل العجب من لهجة زوجها ،و نظرت إليه نظرة استغراب،و على وجهها علامات اليأس و القنوط و الخوف. و لكن "برنار" كان يبدو ثابتاً في كلامه، رابط الجأش ،واسع الصّدر، عابس الوجه، و على قسمات وجهه علامات الحزن الأليم، و  الكآبة  و التفكير العميق، كمن يقدم على أمر خطير و خطب جلل.
لم يسع "نيكول" إلاّ أن تجيب  نداء زوجها ،فتقّدمت إليه مسرعة، و جلست على مقعد بجانبه ،       و بادرته بالكلام :
ـ إنّي أعلم يا "برنار" ما تريد أن تقوله لي، و إنّ قلبي ليّحدثني بما تخفيه نفسك عنّي ،و إنّه  ليلوح لي كثير ممّا أهمّك. فكيف لا تقرأ نفسي ما يجوب بذهنك ،و نحن نشعر بشعور واحد أيّها الزوج الغالي؟.
اندهش الزوج لكلامها و قال :
ـ أحّقاَ تعرفين ما أريد أن أقوله ؟ و كيف علمت بذلك ؟
فرّدت في هدوء :
ــ نعم إنّ فؤادي  يشعر بكّل شيء . حدِّث بما تشاء ،فإنّي كّلي آذان صاغية .
مرّت على مجلسيهما سحابة  صمت و سكون ،و لكن لم يلبث الزوج أن خرج من صمته، و قال :
ــ أغلقي الباب أيتها الزوجة العزيزة، لكي لا تسمع ابنتنا "ماري" بما يدور بيننا من كلام، فيدّب اليأس إلى قلبها، و تسوّد الدّنيا في وجهها، و يُخّيلُ لها أنّ المستقبل  الباسم الذّي كانت تحلم به ،              و تنتظره و ينتظرها قد صار جحيما .


التفتت " نيكول" إلى زوجها ،و قالت و الاطمئنان بادٍ على وجهها :
ـ لا تخف فإنّ "ماري" خرجت لشراء بعض من  لوازم  البيت ، ثق أنها لن تعلم من حديثنا شيئا، ما دامت بالخارج .و ما إن شرع "برنار" في التحّدث إلى زوجته، حتّى  قاطعته  هذه الأخيرة :
ـــ انتظر ! سأفصح لك  عن ما يدور بخلدك، و يجول في نفسك ،و في وسعك إن أخطأت أن تصّحح كلامي.
منذ إن اندلعت الثورة في هذا البلد، من طرف الفدائيين الجزائريين ضّد جيشنا  المغوار ،الجيش الفرنسي ،و لم يسكن لك خاطر، أو تطمئن نفسك لحظة واحدة .

لقد اضطربت أعصابك ، و ضاق صدرك ،و تغيّرت طبيعتك الهادئة ،و كيف لا ،و قد أُغتيل  أخوك الأصغر، في هذه الحرب القذرة ،من طرف هؤلاء الذّين يطلقون على أنفسهم لقب "مجاهدين "، و ما هم إلاّ شرذمة من سفّاحين، و مجموعة من ذئاب متوّحشة شرّيرة، عضّوا أيادي "فرنسا" العظمى التّي امتدت إليهم بالخير، فخانوا الأمانة ، و تنّكروا للمعروف الذّي قدّمته لهم  هذه الدّولة الأبّية ،     و هم الآن يطالبون برحيلها من الأرض التّي عمّرتها ،و بنتها بسواعد  أبنائها المعّمرين .
إنّك يا "برنار" تريد أن تنظّم إلى كتائب جيشنا، و تكون واحداً من جنودنا البواسل ، لتطهير أرض "جزائرنا الفرنسية"، و تحافظ على ما جاءت به "الجمهورية الخامسة    من مبادئ و قيّم .
تريد أن تذهب إلى ميدان الشّرف ،لترويَ ظمأ نفسك دفاعاَ عن "فرنسا "، الأم العزيزة  الغالية.
 إنّك لجدير بهذا ،جدير بأن تملأ الفراغ الذّي تركه أخوك الأصغر"ميشال". هذا ما تريد فعله،أليس كذلك أيّها الزوج  العزيز ؟ أظّنني مصيبة فيما أقوله،أليس كذلك ؟.
ما كادت الزوجة تتّم حديثها حتّى وثب "برنار" من مجلسه ،و هو يقول بصوت اختنقته عبرات حزن كبير:
ــ لقد أصبتِ في كّل ما قلته يا "نيكول" ، و كأنك قد اطلعتِ على مكنونات صدري ،إذ ليس لي القدرة الكافية على وصف  شعوري كما وصفتهِ. ثم اعتدل في مقعده و استجمع قوّاه ،و أضاف :
ــ أريد أن أُخبركِ بأنّي  قد قدّمتُ اليوم طلبا ألتمسُ فيه التطّوع في الجّيش  الفرنسي ، للدّفاع عن هذه الأرض التّي هي جزء لا يتجّزأ من "فرنسا" العظمى . لقد اشتركتُ في الحرب العالمية الأولى ،        و بالرّغم من أنّ سنّي صار الآن خمسا و خمسين سنة، إلاّ أنّي كما ترين لا زلتُ أتمّتع بقوّة الشباب ، و تجارب الشيوخ ،و ليس من الشهامة أن استمّر في متجري بعد اليوم، كما انّه ليس لدي  الآن من  الوقت  ما يسمح لي بالانتظار ، فهيّا لمساعدتي لحزم أمتعتي .
ــ استرح و هدّئ من روعك ،و سأقوم بربط أمتعتك و إعداد حقائبك ، فهناك شيء آخر أوّد أن أقوله لك ،و اعتقد أنّه سيسّرك .سآخذ مكانك في المتجر ،فما زلت قادرة على العمل ،و ما فتئ قلبي ممتلئاً بالنّشاط و الحيوية ،و في استطاعتي أن أقوم بهذا الواجب، فلا تشغل بالك بالمتجر، فلقد منحني الّله عقلا يفّكر و يدا تعمل، و قلباً يشعر،  و إرادة قوّية تنّفِّذ.
و أنا بفطرتي أميل إلى العمل و لا أحب الكسل، و سأحّل محلّك في غيابك، إنّي كما تعلم،  لم أترك العمل إلاّ من أجل ابنتنا و التفّرغ لتربيتها، تربية سليمة، جسمية و عقلية. فلا تفّكر في شيء  مطلقاً،        و اذهب إلى الجبهة مطمئن البال، هادئ الخاطر، مستريح الضمير .
ـــ و لكن "ماري" لا زالت صغيرة ،لا يمكنها الاعتماد على نفسها ،فماذا بوسعها فعله إذا ذهبت أنت إلى المتجر؟ سألها "برنار".
ـــ إنّ "ماري" بلغت من العمر اثنتي عشرة سنة، إنّها فتاة و ليست بطفلة. لا تشغل بالك بأمرها لقد فكّرت في المسألة ،و اهتديتُ إلى الحّل  الذّي سيريحك و يعجبك لا محالة .
إنّ لي صديقة جزائرية من أيّام الدراسة تقطن بالرّيف المجاور لمدينتنا ،سأرسل لها "ماري" ، و أقول لها أنّنا سنرحل لزيارة أقاربنا في "فرنسا"، و أنّنا سنمكث هناك مدّة غير محدّدة. إنّ لديها أطفالا يقربون ابنتنا سنّاً، سأطلب منها أن تعتني بها لحين رجوعك من الجبهة، و مباشرة عملك في المتجر، يجب أن ننصرف لنجدة " الجزائر الفرنسية " من هؤلاء الأوغاد، و لا نترك لهم الفرصة للاستيلاء على هذه الأرض ،التّي تحمل كّل بقعة منها ، بصمة من بصمات أنامل  "فرنسا العظمى" .
اندهش "برنار "من اقتراح زوجته، وكأنه لم يصّدق كلامها ،و قال :
ــ و لكنّهم جزائريون مسلمون، ما هذا التناقض يا "نيكول"؟. أألتحق أنا بجبهة لمناصرة الجيش الفرنسي، و أحارب بكّل ما أوتيتُ من قوّة "المجاهدين الجزائريين"، و في الأخير أستودع ابنتي الوحيدة لعائلة جزائرية مسلمة،  أستودع أعّز ما أملك لعدّوي؟!. ما هذا الهراء ؟ هل جننتِ؟ .
ـــ إنّه فعلا تناقض ،و لكن هذا هو الحّل الوحيد لمعضلتنا .لا تخش على ابنتنا يا عزيزي ،فبالرّغم من أنّ صديقتي هذه جزائرية و مسلمة ،إلاّ أنّها هي و زوجها ، معروفان بأمانتهم ،و حسن خُلُقهم، أرجوك وافق،و دعنا نتأّهب لمباشرة مهّامنا .
ووافق "برنار" على اقتراح زوجته، و أودعا ابنتهما للعائلة الجزائرية التّي رحّبت بها أشّد الترحيب ، و اهتمت بها أكثر من اهتمامها بأبنائها .
وبعد شهر من التحاق الأب بجبهة القتال، نصّب المجاهدون الجزائريون كميناً لدورية عسكرية فرنسية كان من ضمنها "برنار" فمات كّل الجنود، ووقع هذا الأخير أسيرا لديهم.
علمت "نيكول" بما وقع لزوجها، أغلقت المتجر، و اختبأت في مكان بعيد، خوفا من أن تقع هي الأخرى في قبضة الفدائيين الجزائريين  .
و راح هؤلاء يستجوبون "برنار" عن مخطّطات الجيش الفرنسي، و عن الأمكنة التّي تّم فيها اعتقال إخوانهم، فلم يفصح لهم عن شيء،  و التزم الصّمت .
لم يجد المجاهدون بُّدًا من جعل "برنار" يبوح بما يعرفه سوى أن يلجئوا إلى تهديده بأعّز ما يملك، خّاصة بعد ما أثبتت لهم تحّرياتهم، أنّ له  ابنة هي أعّز عليه من قرّة عينه، و أنّه قد أودعها إلى عائلة جزائرية في المكان الفلاني، من الرّيف الفلاني.
فبعثوا باثنين من عناصرهم إلى عين المكان لإحضار الطفلة، علّ والدها يضعف لرؤيتها، و يدلي بما في جعبته من معلومات عسكرية.
وصلا المجاهدان إلى البيت المنشود فسلّما على صاحبه الذي كان يدعى " علي"، و قصّا عليه القصّة و طلبا منه تسليمهما الطفلة. نظر إليهما هذا الأخير بدهشة يشوبها كثير من الغضب، ثمّ قال :
ــ و الّله العظيم لو لم تكونا من بني وطني، تجاهدان  للدّفاع عن هذه الأرض الكريمة ،لكنت طردتكما من بيتي كما تُطردُ الكلاب! كيف سوّلت لكما أنفسكما هذه الجرأة، و تطلبا هذا الطلب؟ !.


صُدم المجاهدان لما سمعاه من "علي"، و راحا يلّحان عليه بأن يسّلم لهما "ماري" :
ــ كيف  ترفض طلبنا ؟ ألستَ جزائرياً يا هذا ؟ أترفض أن تُسدي بخدمة إلى وطنك المسلوب الحرّية، وطنك الذّي داسته أرجل الأعادي؟ أليست لك بذرة من الوطنية ؟ أتغلق الباب في وجه الجزائر من أجل الحفاظ على بنت ،من بنات العدّو ؟.
لم يتأثّر هذا الأخير بخطابهما ،و رّد عليهما قائلا :
ــ الجزائر وطني أفديه بروحي، بأبنائي ، بزوجتي و  بكّل ما املك من نفيس و غال .أنا أكثر وطنية من أيّ أحد يريد أن يُثبتَ العكس، و لكن ليس على حساب ديني و مبادئي و أخلاقي الإسلامية، التّي حضّت على المحافظة على الأمانة، ووجوب تأديتها .
أو لم يأمر نبيّنا الحبيب –عليه الصلاة و السلاّم - هو الآخر بهذا الأمر ،و حذّرنا بالتلاعب بالأمانة،   و جعلها من مقوّمات إيمان المرء، أم أنّكم تتعمّدون تجاهل ما أتى به القرآن و السُّنة ،متستّرين بالوطنية و الكفاح ،..
ـــ ما تقوله يا هذا، قاطعه أحدهم "متسّترّين بالوطنية و الكفاح " ؟.هل بلغت بك الوقاحة أن تعتدي بكلامك اللّاعقلانيّ، على ما جاءت به مبادئ و قيّم  جبهة التحرير الوطنية ، بنعتِ فدائييها بهذا الوصف المخزي.  لِعلمك نحن لا نتسّتر وراء أيّ شيء،  و لا نخشى إلاّ الّله الواحد الأحد، و لا نريد أن نخوض في أمور الدّين التّي هي ليست من اختصاصنا، جئنا إليك باسم "الجزائر"، و باسم "الكفاح المسلّح"،  طالبين منك أن تسلّمنا ابنة  المستعمر "برنار" لا أكثر و لا أقّل ،فهل أنت مسّلمنا إيّاها ؟!.
قام "علي" من مجلسه ،و بصوت عال ،و نبرة عنيفة :
ــ لن أسلّمكم وديعتي مهما فعلتم و مهما كان رّد فعلكم، و ليس لي كلام آخر معكم، تناولوا قهوتكم،    و توّكلوا على الّله، ثّم اتجه ناحية الباب، ففتحه و أضاف  قائلا، في أمان الّله و رعايته.
ــ أتطردنا من بيتك يا أيّها الخائن، يا عميل المستعمر، صاح المجاهد في وجه "علي".و أخرج  مسدساً من جيبه و صوّبه  إلى رأس "على ". هيّا أحضر البنت، و إلاّ نسفت دماغك برصاص مسّدسي هذا، هيّا لا تضّيع وقتنا بعنادك العقيم ..

نظر إليه "علي" بنظرات هادئة مطمئنة، و قال :
ــ يمكنك أن تقتلني أو تقتل أولادي، و حتّى زوجتي أمام عيني ، افعل ما تشاء، لن أحضر "ماري"،إلاّ إذا جاء احد من أهلها يستلمها ،لا تصّروا معي، إنّك أنت و صاحبك، تضيّعان وقتكما الثمين هباءً !.
تبادل المجاهدان النظرات فيما بينهما ،ثّم خرجا من بيت "علي"، بعد أن أدركا قوّة شخصية الرّجل،    و إيمانه البالغ بالمبادئ الإسلامية ،التّي جُبِلَ عليها منذ نعومة أظافره.
و مرّت الأيّام، واشتدت وتيرة المقاومة للقوّى الاستعمارية في الجزائر، من طرف الشّعب ،إلى أن استجاب القدر،و انجلى الّليل، و استعاد الوطن عزّته و كرامته .
كبرت "ماري" في بيت "علي" و صارت فتاةً يافعة. و في يوم من أيّام الجزائر المضيئة بشمس الحرّية جاءت والدتها ، و أخذت تلك الأمانة التّي استودعتها في يوم ما، لدى زوج جزائري نبيل، عرف كيف يحافظ على الأمانة، و يصون الوديعة بنزاهة  بالغة  .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق