الغربال
بقلم : طلال حسن
سمعتُ أحدهم يهتف بي ، كأنما
يوقظني من نوم عميق : جحيح .
وأفقتُ مذهولاً ، وإذا أنا في السوق ، أخوض بين الناس ، وتلفتُ حولي ، لعلي
أرى من هتف بي ، لكن دون جدوى .
وتوقفتُ ، ترى ما الذي أفعله هنا ، في السوق ؟ وراجعتُ عقلي ، راجعته
مراراً ، فلم يفدني بشيء يذكر، وكما يقول أبي جحا ، أم إنها أمي ؟ إن عقلي غربال ،
وأي غربال ، وبقدر ما يبقى الماء في الغربال ، يبقى الكلام في .. ، آه ماء ، ربما
أرادت أمي ماء ، لا .. لا .. هذا جنون .. إنني في السوق .. وليس في النهر .
ومشيتُ متلفتاً ، أحملق في الدكاكين ، فقد أتذكر ما أرادته أمي ، وأرسلتني
بسببه إلى السوق ، أهي حقاً أرسلتني إلى السوق ، أم أن قدميّ اللعينتين قادتاني ،
في غفلة مني ، إلى هذا المكان ؟ آه ، يا لغربالي ، الذي لا تعلق فيه كلمة واحدة .
ووقع نظري صدفة ، على مجموعة من قرب الماء ، معلقة في طرف إحدى الدكاكين ،
وتوقفتُ مفكراً ، القرب تستخدم لنقل الماء
من النهر إلى البيوت ، آه .. الماء مرة أخرى ، لابد أن أمي ، أرسلتني لأجلب
لها ماء ، ماذا ! ماء من السوق ؟ سأجن .
وخطرت لي فكرة ، نعم ، فلأذهب إلى النهر ، وأستحم ، لعل برودة الماء ، تنشط
مخي الخامل ، وأتذكر ما قالته لي أمي .
ومشيتُ ، أخوض بين الناس ، متجهاً صوب النهر ، وتراءى لي أبي ، وكدتُ أنفجر
مقهقهاً ، فقد تذكرته ينقر على جمجمتي
بإصبعه ، ثم يقول لأمي : إنها فارغة ، فارغة تماماً .
وتناهى إليّ من بعيد ، نهيق حمار ، ذكرني بنهيق حمارنا ، وتوقفتُ منصتاً ،
يا لي من أحمق ، هذا حمارنا نفسه ، لابد أن شمّ رائحتي ، وراح يناديني .
وأسرعتُ نحو مصدر الصوت ، وإذا حمارنا نفسه ، لعنه الله ، يقف عند شاطىء
النهر ، والقِرب فوق ظهره ، وحدقتُ فيه ملياً ، لعلي أتذكر ما قالته لي أمي ، لكن
غربالي اللعين ، لم يسعفني بكلمة واحدة ، مهما يكن ، فمادام الحمار هنا ، والقرب
هنا ، وأنا أيضاً هنا ، فلأملأ القرب بالماء ، وأركب الحمار ، ثم أعود إلى البيت.
واقتربتُ من الحمار ، وأخذت القرب من على ظهره ، أهو أبي أم أمي ؟ لا أذكر
بالضبط ، المهم أن لا أملأ القرب من الشاطىء ، فمياه الشاطىء ملوثة ، وعليّ أن
أملأها من وسط النهر .
وشعرتُ بأسنان قوية ، تطبق على كتفي ، وتشدني إلى الوراء ، كأن صاحبها يريد
منعي من التوغل في النهر ، والتفتُ غاضباً ، وإذا هو حمارنا ، فصحت به دعني وإلا
..
وقبل أن أنتهي من كلامي ، وجدتني أغوص إلى الأعماق ، ومعي القرب والحمار ،
وحاولتُ عبثاً أن أخرج إلى سطح النهر ، لأستنشق الهواء ، و .. وغبتُ عن الوعي .
ورأيتني ، ويا للعجب ، أركب الحمار ، وأطير به فوق الحقول والبساتين
والبيوت و .. ، وفتحتُ عينيّ ، وإذا مجموعة من الناس تحتط بي ، وقال أحدهم ،
والماء يقطر منه : انظروا ، هاهو قد أفاق .
وقال آخر : كاد المسكين يغرق ، لو لم تنقذه في اللحظة الأخيرة .
ونهضتُ ملسوعاً ، وصحتُ : أين الحمار ؟
وتساءل أكثر من واحد " أي حمار ؟
وربت شيخ على كتفي ، وقال : أنت متعب ، يا بنيّ ، الأفضل أن تذهب إلى البيت
، وتنال قسطاً من الراحة .
وحملتُ القرب الفارغة ، ومضيت أولول مدمدماً : يا ويلي ، لقد غرق الحمار .
وفوجئتُ ، حين وصلتُ البيت ، بالحمار يقف بين أمي وأبي ، والماء يقطر منه ،
ووقفنا متواجهين ، أنا والحمار ، يحدق أحدنا في الآخر ، ولم أفق إلا على أمي تصيح
: جحيح .
والتفتُ إليها ، وقلتُ بارتياح : لم يغرق .. الحمار .
وبدل أن ترتاح أمي لارتياحي ، صاحت منفعلة : أين الماء ؟
وتطلعتُ إلى أبي متعجباً ، وسألته بناظري: ماء ! أي ماء ؟
ويبدو أن أمي فهمت ما قلته بناظري ، فصاحت مغتاظة : لقد أرسلتكما ، أنت
والحمار ، لتأتيني بالماء من النهر، فعاد الحمار أولاً ، وعدت أنت أخيراً ، بدون
الماء .
وفغرتُ فمي على سعته ، وراجعتُ غربالي ملياً ، ثم قلتُ : أنت مخطئة هذه
المرة ، يا أمي ، صحيح إنني كثير النسيان ، لكن ..
والتفتت أمي إلى أبي ، وقالت بنبرة تأنيب : الذنب ذنبك ، فمنذ أن ضربته
بجمع يدك على أم رأسه ، صار عقله كالغربال .
وصمتت لحظة ، ثم صاحت منفعلة : والآن ، من يأتيني بالماء من النهر ؟
وتحرك الحمار ، متجهاً صوب الباب ، فحمل أبي جحا القرب ، ولحق به ، وهو
يقول : لا تصيحي ، سآتي أنا بالماء ، وأمري لله .

هناك تعليق واحد:
guuifiing15
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
golden goose outlet
إرسال تعليق