الأحد، 3 ديسمبر 2017

الواقعيَّة الاجتماعيَّة فى قصص يعقوب الشاروني قضاياها وخصائصها الأدبيَّة بقلم : د.عبد المجيد زراقط



الواقعيَّة الاجتماعيَّة فى قصص يعقوب الشاروني
قضاياها وخصائصها الأدبيَّة
أ.د.عبد المجيد زراقط
مقدِّمة
يعقوب الشاروني، أحد روَّاد أدب الأطفال الكبار، في الوطن العربي والعالم، يمتلك خبرة خمسين عاماً من الكتابة للأطفال وعنهم، تجاوز ما نشر من مؤلفاته الأربعمئة عمل، تتوزَّع ما بين رواية وقصة قصيرة ومسرحية، أُعيد نشر عدد منها أكثر من خمس عشرة مرَّة، وتُرجم عشرون منها إلى ست لغات أجنبيَّة، وحصل بعضها على أهم جوائز أدب الأطفال المصرية والعربيَّة والعالمية([1]).
الشاروني، كما تقول أ.د. أميمة جادو، «ليس مجرَّد كاتب للأطفال، ولكنه باحث في الطفولة وقضاياها، وهو عالم نفس طفل محنَّك مدرَّب، صقلته الخبرات الحياتية الواسعة، وهو كاتب ملتزم، شديد الاحترام لقلمه ولقارئه وجمهوره من الأطفال»([2]).
إن يكن الأمر على هذا النَّحو، فإنَّه من غير الممكن، في هذا المقام، دراسة هذه الأعمال جميعها، وإنما يمكن اختيار اتجاه من اتجاهات إنتاجه القصصي، ودراسة نماذج قصصيَّة تمثِّله. والاتجاه الذي اخترناه هو الواقعيَّة الاجتماعيَّة، والنَّماذج التي تم اختيارها لتمثل هذا الاتجاه هي:
«قليل من الرَّاحة فوق السلالم»، «منيرة وقطَّتها شمسة»، «أسرار بيت الطَّالبات» «سرّ الجدَّة ومعركة طبيب»، «معجزة في الصحراء»، «ليلة النار».
في تسويغ اختيار اتجاه الواقعيَّة الاجتماعيَّة، يمكن القول: إنَّ الشَّاروني يستجيب، في كتابته القصَّة الاجتماعية، لشروط الحياة المعاصرة، وهو يتحدَّث عن ذلك بوضوح، في كتابه: «قصص وروايات الأطفال، فن وثقافة»، وهذا ما سنوضحه بعد قليل.
وقد كان له الفضل الكبير، كما تقول د. ماريو البانو، «في إدخال الرِّواية الاجتماعية في أدب الأطفال في العالم العربي»([3]).
ويعود اختيار النَّماذج المذكورة إلى عدَّة أسباب هي:
أولاً: إنه لا بدَّ من اختيار نماذج، وثانياً: إن هذه الأعمال من الأعمال الصادرة مؤخراً، وثالثاً: هذه الأعمال تمثِّل عدَّة سلاسل، ورابعاً: إنَّ فضاءها القصصي دالّ على المشكلات الاجتماعية، التي يعانيها أبناء العشش القاهرية والصحراء وأولاد الشَّوارع، والأطفال العمَّال....
إقبال القرَّاء على الرِّوايات الاجتماعيَّة
يلاحظ الشاروني، في ما يتعلق بإنتاج دور النَّشر العالمية، إقبالاً متزايداً من الشباب الصغير على الروايات التي تدور في أجواء معاصرة، أو تتداول موضوعات اجتماعية، بعد موجة من الاهتمام بروايات «الفانتازيا»، أو الخيال العلمي.
ويعيد ذلك إلى ثلاثة أسباب: أولها «طغيان أخبار الأحداث اليومية، شديدة الإثارة، والمرتبطة بواقع الناس وحياتهم في مختلف بقاع العالم على موضوعات الصحف ونشرات الأخبار في الإذاعة والتلفزيون ووسائل الاتصال الحديثة التي أصبحت في جيب كل شاب صغير (من عمر 9 إلى 18 سنة»، وثانيها برامج تلفزيون الواقع التي طغت كثيراً على برامج الخيال أو «الفانتازيا»، واجتذبت أعداداً غفيرة من الأطفال الشباب، وثالثها تزايد اهتمام جماهير الناس والإعلام، في مختلف المجتمعات، بقضايا التنمية البشرية وحقوق الإنسان.
ويستشهد بقول «بروجودرين»، الوارد في كتابه: «كتب الأطفال: «على الرغم من أن عنصر الخيال يعدّ أحد جوانب أدب الأطفال الذي ظل سائداً، خلال السبعينيات والثمانينيات (من القرن 20)، فإن الواقعية الاجتماعية أصبحت هي الموضوع المهيمن على الكتابة...»([4]).
نشير، في ما يتعلَّق بالخيال، إلى أن قصص الواقعية الاجتماعية هي قصص متخيَّلة على مستوى البنية القصصيَّة، وإن كان مرجعها واقعيَّا.
وكما أثَّرت شروط الحياة المعاصرة في توجُّه الكتابة إلى الواقعية الاجتماعية، يبدو أنها أثرت أيضاً في تشكيل نصوص هذه الواقعية، فاتخذت شكل الرواية القصيرة والأقصوصية الطويلة، وكل منهما يمكن أن يقرأ في جلسة واحدة، والفرق بينهما أن الرواية القصيرة تنظم تفاصيل حياة كاملة تمتدُ طويلاً في سياق قصصي نامٍ بفعل عوامله الداخلية، والأقصوصة الطويلة تلتقط اللحظة المهمة من الحياة الممتدَّة وتقدِّمها للقارىء في سياق قصصي، لا يتجاوز زمن الأحداث فيه اليوم، ما يقتضي استخدام تقنيات قصصية تفضي إلى التكثيف.
هذان الشكلان من قصص الواقعية الاجتماعيَّة مثلا تطوُّراً حدث في مفهوم أدب الأطفال. وقد كان الشاروني، وهو يكتبهما مدركاً ذلك، فهو يقول على سبيل المثال:
إن أدب الأطفال لم يعد مقتصراً على الأدب المخصَّص للأطفال، وإنما أصبحت الحدود بينه وبين أدب الكبار مرنة متداخلة، لهذا فإن الكتب التي تصلح للصِّغار والكبار، في الوقت نفسه، أصبحت تمثّل كتباً مهمَّة في مجال تسويق الكتب، وهي تشكِّل ما يطلق عليه بعضهم «روايات تجاوزت الحدود الفاصلة بين خيال الأطفال والكبار»، نظراً لمحتواها المناسب لمرحلة النُضج وأساليب روايتها مرتفعة المستوى([5]).
قليل من الرَّاحة فوق السلالم:
عنوان هذه القصَّة جملة غير مكتملة، يُتْرِك للقارىء أن يكملها، ويتمكَّن من ذلك بعد أن يقرأ القصَّة، ما يعني أن هذا العنوان مشوِّق، ويحثُّ على القراءة والمشاركة، وإذ تُقرأ القصَّة، يكمل القارىء الجملة، فتكون، على لسان الشخصيَّة الرئيسيَّة، الطفل فتحي: أحتاج إلى قليل من الرَّاحة فوق السلالم، أو قليل من الراحة فوق السلالم هو ما أحتاج إليه.
خطاب الطِّفل هذا يمثِّل اللحظة المهمَّة التي التقطها القاصُّ من حياته، لتمثِّل عذاباته طوال يوم من أيام هذه الحياة التي تتوالى أيامها متشابهة، وينتهي كل يوم منها بقول الطفل، كما جاء في نهاية القصَّة: «لا بدَّ من أن أستمرَّ في العمل، وأن أتحمّل آلام ساقي، ومشقَّات صعود السلالم، مع تأجيل الرغبة في مشاهدة صور الكتب، والامتناع عن محاولة الحصول على أية راحة بالجلوس فوق سلالم البيوت!!».
يلتقط القاصُّ هذه اللحظة المهمَّة، ويقصُّ وقائعها في نصِّ لا يتجاوز زمن أحداثه اليوم الواحد، ما يجعلنا نصنِّف هذا النَّص في نوع قصصي هو الأقصوصة الطويلة. وصفة الطُّول تعود إلى طول الحجم فحسب.
يتخذ هذا النَّص بنيةً مقطعية، أو بنية مشهدية، تتتابع كما تتتابع مشاهد الفيلم السينمائي، أو مشاهد الدراما التلفازية، ما يجعلنا نلاحظ تأثير هذين الفنّين في تشكُّل بنية النصِّ العامَّة.
يبدأ القصُّ بمشهد وقوف الطفل أمام باب الشقَّة التي يريد أن يوصل أغراض البقالة إليها، يضغط جرس الباب، وينتظر...، ما يعني البدء من وحدة قصصيَّة سبقتها وحدات قصصيَّة أخرى يُترك للقارىء أن يتخيَّلها، وهي حاجة الأسرة لأن يعمل الطفل، اتخاذ القرار بترك المدرسة، البحث عن عمل، بدء العمل...
وفي أثناء انتظاره، يسترجع مواقف عن إغلاق البيوت في وجهه، وما قاله صاحب البقالة وأمُّه عن ذلك، فيرتدُّ القصُّ إلى الماضي، ثم يُفتح الباب، ويُستأنف القصُّ في الحاضر، مترافقاً بحديث الطِّفل لنفسه.
يتدحرج من فوق السلالم، تصاب رجله، يصرخ به رجل، يواصل إيصال الطّلبات، يمنعه البواب من استخدام المصعد، يمنعه رجل من الجلوس على السلالم، ويصفعه صفعة شديدة على وجهه... يعود إلى البقَّال، يحسم هذا جنيهاً من يوميَّته لادعائه ضياع جنيه من ثمن الطلبات.
يعود إلى البيت، تحاسبه أمَّه... ويفكر في ما يريده، ويعلن القرار الذي اتُّخذ سابقاً بتركه المدرسة وبدء العمل: إن لم أعمل لن نأكل، ويقرر: لا بدَّ من أن أستمر في العمل والامتناع عن محاولة الحصول على أية راحة...
تتخذ القصَّة، كما يبدو، بنية خطيَّة تتكسَّر بالاسترجاع. وتتقطَّع بالتعليق، وتنتهي بإعلان القرار الذي اتخذ بترك المدرسة والعمل، وبتجديد اتخاذ هذا القرار، مع انتفاء محاولة الحصول على أية راحة، ولو بالجلوس فوق سلالم البيوت التي يوصل الطلبات إليها.
تصِّور هذه القصَّة عذابات طفل عامل. لا يتيح له عالمه «محاولة» الحصول على أية راحة، ولنلاحظ دقة اللغة، فالمحاولة لا الجلسة ممتنعة، وهكذا تنطق القصَّة بالدلالة الصَّارخة من طريق الفعل/ الحركة/ الخطاب. وهذه هي ميزة القصِّ الجيِّد الأساس.
يؤدي القصَّ الطِّفل العامل، وهو الشخصيَّة الرئيسيَّة في القصَّة، الأكثر قدرة على الأداء. الواضح أن ليس من وصف مباشر له، وقد يكون هذا مقصوداً، إذ تترك هذه المهمَّة للصور المرافقة للنّص، غير أن القارىء يستطيع أن يتبين من طريق الفعل والحوار هويَّته، فمن طريق الحوار نعرف اسمه وعمره.. فمنذ البداية يُلاحَظ أنَّه ذكي دقيق الملاحظة، فعندما يضغط الجرس تفتح له الباب فتاة صغيرة، فيشاهد رفوف الكتب ويعلِّق.
وإذ تغلق الفتاة الباب في وجهه، يتأثَّر، ويسترجع مواقف، وحوارين: أحدهما مع صاحب البقالة والآخر مع أمِّه عن هذه الحادثة، ما يدل على رفضه الإهانة التي شعر بها عند إغلاق الباب، ويقارن بين ما يحدث له الآن، وما كان يحدث معه عندما كان تلميذاً، يزور زملاءه، ما يجعله يشعر بتدنِّي منزلته، ثم يواصل ملاحظاته وتعليقاته، فيرى أن هذه العائلة طيِّبة عندما تعطيه مبلغاً إضافياً، لكنه يبقى في سرده للوقائع موضوعياً، فلا ينال ممَّن صرخ في وجهه، أو ضربه، أو منعه من استخدام المصعد، وإنما يروي الوقائع كما حدثت، وهذا دليل على وعي طفل عاقل، يفصح خطابه لنفسه عن ذلك. ونلاحظ دقة تعبيره الدال على واقعه، ومن نماذج ذلك قوله عن أمه: «لتشتري الخبز والفول المدمَّس لعشاء إخوتي وإفطارهم». ما يعني اقتصار الطّعام على هذين النَّوعين، وعلى وجبتين فحسب، وقوله إنه يحبَّ أن يتفرَّج على صور الكتب الملوَّنة، ما يعني أنه لا يعرف القراءة، وتالياً أنه ترك المدرسة قبل أن يعرف القراءة، ثم نراه يقبل مواصلة العمل لأنه: «إذا لم نعمل لن نأكل»، فهو يضحِّي من أجل أمِّه وأخوته، ويتخذ القرار بمواصلة العمل في ظروف الامتناع عن محاولة الحصول على أية راحة.
هذا القرار الذي يتخذه تفرضه شروط واقعه، فالعامل الموضوع، أو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، ليس هو من اختاره بحرِّية، وليس هو ما يحتاج إليه فعلاً، فهو يفكِّر «في شيءٍ واحد: هل أستطيع أن أطلب كتاباً من هذه الشقَّة التي تشبه المكتبة؟»، الكتاب هو ما يريده ويحتاج إليه، لكن عالمه لا يوفِّر له تلبية هذه الحاجة، ما يفيد أن المطلوب من أولي الأمر تغيير هذا العالم، هذا ما تقوله هذه القصَّة، فإن كان هذا الطفل عاجزاً عن إحداث التغيير، فعلى من يقدر/ الدولة ومؤسسات المجتمع المدني أن تحدثه.
ثم إن هذا العالم فظيع، كأنه الجحيم، إذ إنه يخلو من أي عامل مساعد، ليس لتوفير ما يحتاجه فحسب، وإنما لتوفير قليل من الرَّاحة، والأم نفسها لا تملك إلاَّ البكاء، إنه العجز إزاء واقع عالم لا يطاق، غير صالح للعيش، وكأن لم يكف غياب المساعد ووجود المعوَّقات حتى نلاحظ ما يشير إلى أن البقَّال يستولي على جنيه، وهو نصف يومية الطِّفل بادِّعاء ضياع جنيه من ثمن الطَّلبات، يحدث هذا كل يوم، فهل يصادف أن هذا الطفل يضيَّع كل يوم جنيهاً؟
هذه أقصوصة طويلة، يلتقط فيها القاص اللحظة المهمَّة من حياة طفل عامل، العنوان موظف في بيان هذه اللحظة المهمَّة، وهي حاجة هذا الطفل إلى قليل من الراحة، لكنه، ولأنه إن لم يعمل لا يأكل أخوته وأمَّه، يقرر مواصلة العمل، ويرغب في الحصول على كتاب، في عالم يغيب فيه العامل المساعد.
تتخذ القصَّة بنية مقطعية، متأثرة ببنية الفيلم أو الدراما، بنية خطية، متكسرة متقطعة، يشكلها راوٍ هو الشخصية الرئيسية، يؤدِّي السرد بموضوعية، لا تخلو من تدخّل كاشف لهويته ورغباته وآرائه، تصوِّر هذه القصَّة عالماً غير صالح للعيش الإنساني، ما يقتضي تغييره، وإن كان الطِّفل وأمه عاجزين عن ذلك، فالمسؤولية تقع على الدولة ومؤسَّسات المجتمع المدني لتقوم بذلك، وبهذا تنتمي هذه القصَّة إلى اتجاه الواقعية الاجتماعيَّة النقديَّة التي تقدم نصَّاً ينطق بالدلالة في مناخ من المتعة الأدبيَّة.
منيرة وقطَّتها شمسة
عنوان هذه القصَّة يثير فضول القارىء، فهو يريد أن يعرف قصة منيرة وقطتها شمسة، وإذ يبدأ القراءة يلاحظ أن بنيتها العامَّة مقطعيَّة، يمثِّل كل مقطع مشهداً، كما يحدث في الأفلام أو في المسلسلات الدراميةَّ.
تبدأ القصَّة بمشهد التعريف بالراوي وأبيه ومنيرة الطفلة التي تؤدِّي أعمال البيت من دون أن تتكلم، أو يظهر عليها أي انفعال، ثم يتم استرجاع يقدِّم معرفةً بحاجة الأب الذي بلغ الثمانين من عمره، وفقد زوجته، إلى من يلبّي طلباته، وحاجة الطفلة منيرة إلى بيت تأوي إليه بعد وفاة والدها، واختفاء أمّها، وتخلّي زوج أمها عنها، وإذ تلتقي الحاجتان تأتي الطفلة لتعيش في منزل الأب، لكنها تبقى تتصرف كأنها إنسان آلي، إلى أن تهتم بقطة، تلجأ إلى باب الشقة التي تعيش فيها فتتغير، وتستعيد توازنها. ونعرف، من طريق الحوار الذاتي، سبب انطوائها على نفسها، ثم تفصح للأب عن قصتها مع زوج أمها الذي كان يعذِّبها، وعندما تأتي أمها تفضِّل البقاء في منزل الأب هي وقطتها لأنها تعدّ هذا المنزل بيتها.
تنتهي القصَّة بخاتمة/ خطاب يفصح عن الهدف من روايتها، وقد رواها للراوي صديقه القاضي، في إشارة إلى أنها قصَّة حقيقيَّة.
سواءً أكانت هذه القصَّة حقيقية أم متخيّلة، فإنَّ مرجعها واقعي، وبناءها متخيَّل، إذ إنها تتخذ بنية خطية متكسِّرة بالاسترجاع، متقطّعة/ متكسّرة بالحوار المؤدي وظيفة الاسترجاع، وأحداثها تمتد زمناً طويلاً، ما يجعلنا نصنِّفها في نوع الرواية القصيرة.
يؤدِّي القصَّ راوٍ من خارج أحداث القصَّة، يروي ما رواه له راوٍ آخر هو شخصيَّة من شخصيات القصَّة، ويمكن أن نصنِّفه في نوع الراوي الشخصية الشاهد، ولعل الهدف من إيكال القصِّ إلى الراوي الأول هو إكساب القصَّة صفة القصة الحقيقية، والهدف من إيكال القصِّ إلى الراوي الثاني الشَّاهد إكساب القصِّ صفة الموضوعية والإيهام بصدقية ما يُروى، فهذا الراوي يكتفي بسرد الوقائع، ونقل ما جرى، من دون أن يتدخَّل، ولكنه يبدو في حالات كأنه الراوي العليم، فهو يعرف ما يدور في داخل الشخصية. من دون أن يسوِّغ معرفته هذه.
العالم الذي تأتي منه منيرة عالم غير صالح للعيش الإنساني، إذ إنَّه يحوِّلها إلى كائن آلي، غير أنَّها، وعلى عكس فتحي في قصة «قليل من الرَّاحة...»، تجد المساعد الذي يمكِّنها من النمو والتحوُّل، يتمثل هذا المساعد في عالم الأب وأبنائه وأحفاده، ومن القطَّة، وهنا يبرز الشبه بين الفتاة منيرة والقطَّة شمسة، فكل منهما محروم من حقوقه، وحرمان منيرة، وإحساسها بهذا الشبه جعلها تتعاطف مع القطَّة.
هذا التعاطف مع الحيوان والرِّفق به، نجده في قصص أخرى للشاروني، كما في قصة «مرمر وبابا البجعة»؛ إذ نلحظ فيها تنمية حسِّ الاهتمام بالحيوان، والإعجاب بالشخص الذي يعني به، وإن كان من ذوي الحاجات الخاصَّة، واهتمام الشاروني بهذه الفئة معروف...
وهذا كلّه يتم، في قصَّة «مرمر...»، في فضاء الفرح والنَّشاط، وهذان هما ما اكتسبتهما منيرة من علاقتها بالقطَّة شمسة، فقد تحوَّلت وغدت مقبلة على الحياة، تريد أن تبقى في المنزل الذي شعرت بأنه بيتها، وتريد أن تتعلَّم، فأصبحت فتاة تتخذ القرار، وتسعى إلى تنفيذه، وقد حدث هذا عندما توافرت لها شروط العيش الكريم، فكأن هذه الرواية القصيرة تقول: إن أبناءنا، مهما كانت حالاتهم يمكن أن يتحولوا، ويصبحوا فاعلين، إن توافرت لهم شروط العيش الكريم، وأحسُّوا بأنَّهم مقدَّرون، ويمتلكون أشياءهم. وليس من دون دلالة أن منيرة كانت تشعر بالفرح عندما كانت تقول: «قطتي»، هذا إضافة إلى إعطاء الحيوان، وبخاصَّة الأليف، حقَّه في الحماية والرعاية، ليؤدي دوره في إعادة التوازن إلى حياة كثيرين ممن يعيشون بعض الحالات الخاصَّة. إن منيرة تضيف تطوراً إلى شخصية الطِّفل الذي يعيش ظروفاً صعبة، فهي قبلت كما فتحي قدرها، في البداية، وعندما توافرت لها شروط التحوُّل أقدمت، وغدت فتاة تعي ظروفها، وتتخذ قرارها وتسعى إلى تنفيذه.
تحوَّلت منيرة إلى شخصية إيجابية فاعلة تعتمد على الخبرة والعقل والقدرة على تحمّل المسؤولية، وهذا ما حدث في رواية أخرى هي رواية «رادوبيس»، وذلك أن هذه الرواية هي إعادة صياغة لحكاية رادوبيس. في هذه الحكاية، وهي الأصل لحكاية «سندريللاّ»، تعتمد الشخصيَّة على المصادفة من نحو أول، وعلى جمالها من نحو ثانٍ، لتغيير مسار حياتها، أما في القصَّة فإنَّها، كما يقول الشاروني، استناداً إلى آراء خمسة نقاد: تحوَّلت «إلى شخصية إيجابية فاعلة، تعتمد على الخبرة والعقل والحكمة والذكاء والقدرة على تحمل المسؤولية، ما أهَّلها لأن تتحول حياتها. باستحقاق، من مجرَّد عبدة في بيت إلى ملكة تحكم مصر»([6]).

سرُّ الجدَّة
يثير العنوان فضول القارىء، فيسأل: «ما هو هذا السِّرِّ؟» ويبادر إلى القراءة ليعرفه. تتخذ هذه القصَّة بنية مقطعيَّة كما في القصتين السابقتين، لكن المقاطع في هذه القصَّة، مرقَّمة، وتبدأ بإيقاظ الأم لابنتها ابتسام، التي نعرف أنها سهرت لتكتب مذكراتها، ويأتي الهاتف بمفاجأة إصابة الجدَّة بشلل نصفيّ، واضطرار الأم للسفر إلى القرية لمعرفة ما حدث لأمِّها التي تعيش وحيدة في قريتها.
يُقْطع القصُّ هنا، وتتولى الفتاة دفَّته، فتعرِّف بحدَّتها وبما أصابها، وبإيكال أمها لها تدبير شؤون البيت، ونعرف أن هذا ما كتبته ابتسام في مذكراتها.
يستأنف القص، فتعود الأم مصطحبة الجدَّة، تراقبها ابتسام، وتتذكر ما قاله والدها، في اليوم السابق عن هذا المرض وشفائه؛ تستقر الجدَّة فوق فراش ابتسام. يُقْطع القص، فنقرأ ما كتبته هذه الفتاة في كراستها، بعد أن لم تصبح لها غرفة، وتلاحظ أن جدَّتها لم تفقد النطق نهائياً، كما تظن والدتها. وإنما هي تصدر أصواتاً، وتبدو أنها غير راغبة في الكلام. وإذ تلاحظ ما لم يلاحظه الآخرون تقول لأمها: «سأتولى أنا أمور جدتي» تسكت أمها، علامة الموافقة، من دون أن تخفي مفاجأتها بقرار ابنتها. ثم يستأنف القصُّ، وتفاجأ الأم بالجدَّة تجلس في فراشها. وتسأل، وتكاد الجدة تجيب: «ابتسام فكّرت، وفعلت كلَّ شيء». تخبر ابتسام أمها بما فعلت. ثم نقرأ في مذكرات ابتسام سرداً لما قامت به، وتسترجع ما كانت الجدة تقوله وتفعله، ثم يستأنف السرد، فتقرأ ابتسام قصَّة لجدتها، وتخبرها بما سمعته من اتفاق بين رجلين عن ابتزازها، لتبيع أرضها بقصَّة ملفّقة عن أخوَّة الرضاعة بين الأم ـ ابنة الجدة وزوجها، ثم نقرأ مذكرات ابتسام، وفيها استعادة الجدَّة لقدرتها على الكلام فالوقوف، وإذ تقرأ لها القصَّة التي كتبتها، وهي قصَّة الاتفاق بين الرجلين، يشرق وجه الجدَّة، وتشفى...
تمتد هذه القصَّة زمناً طويلاً، فهي رواية طويلة، وتتخذ بنية سردية خطية، تتقطع بمذكرات فتاة تنمِّي السرد الخطِّي، وتسترجع، كما أن السرد يتكسر في حالات بالاسترجاع، وهي تكشف عن شخصية فتاة تفكر وتعمل وتحقق إنجازاً لم يتمكن الكبار من تحقيقه.
يؤدِّي القصَّ، في هذه الرواية، الرَّاوي العليم، ويتنحَّى ليتيح للفتاة أن تروي من منظورها، باستخدام تقنيَّة المذكرات، ما يعني أن ثنائية الراوي تتمثل في هذه الرواية، وهذا يتيح للفتاة أن تعبِّر عن رؤيتها إلى عالمها بوصفها أنموذجاً للفتاة في مجتمع يميِّز بين الجنسين، وهي تفعل ذلك في الوقت نفسه الذي تثبت فيه، بقدراتها الذَّاتية، تفوُّقها العقلي والإرادي الذي مكَّنها من تحقيق إنجاز لم يتمكَّن الآخرون من تحقيقه.
تلاحظ الفتاة أن لا شأن لأبيها وأخويها، من منظور أمِّها، بأمور البيت، فهذه الأمور من اختصاص البنات، ولهذا توكل أمها لها أمر أدائها (ص10)، في الوقت نفسه الذي لا يهتم أحد بأن يصغي إلى رأي تقوله أو سؤال تلقيه، (ص11). وإذ تلجأ إلى الكتابة لتعبِّر عن نفسها. يعدُّ الأب كتابة البنت لمذكراتها شيئاً يدخل في دائرة العيب (ص12)، وهي تعرف جيِّداً أن أي سؤال تلقيه هو تجاوز لحدودها وتدخُّل في ما لا يخصّها، أو يعد احتجاجاً غير مباشر منها على شيءٍ لم يعجبها. يحدث هذا في أسرة الأستاذ مصطفى شوقي، المدرِّس الأوَّل للمواد الاجتماعيَّة، وليس هذا التعريف بالأب من دون دلالة، فإن كان هدا المدرِّس هكذا فكيف يكون الآخرون!؟ (ص16). لكنها، وبعد أن تحقِّق إنجازها تسمع جدَّتها تقول لأمِّها: «إن لديك ابنة اسمها ابتسام عندها من الموهبة والذكاء ما لن تجديه في عشرة رجال» (ص57)، وتضيف الجدَّة، فتتحدَّث عن تبادل الأدوار بينها وبين حفيدتها، فتقول: «جاء دوري، لأستمع أنا إلى ما تكتبين أنت، يا ابتسام، من قصص وروايات» (ص58). وإن كانت الجدَّة قد تبينت تميُّز حفيدتها، فإن الأم سألت نفسها: كيف غاب عنِّي أن أقوم بما فكرت فيه ابتسام ونفَّذته (ص25).
أعادت ابتسام استجابة جدّتها لها إلى إحساسها بأنه لا يزال لها دور في الحياة (ص26)، فهذا الإحساس هو الدافع للعيش، وإن كان المرء عاقلاً، ذا إرادة وعزم يتمكن من أداء دوره بنجاح، وهذا ما قامت به ابتسام.
تنتمي هذه القصَّة إلى الواقعية الاجتماعية النقدية، فمحورها هو قضيّة تمييز المجتمع بين الجنسين، وبيان خطأ هذا التمييز، وقد أجاد القاصّ في بيان ذلك من طريق وقائع تم أداؤها بموضوعية الرَّاوي العليم، ومعايشة الراوي/ الشخصيَّة الفتاة الأكثر قدرة على معرفة ما لا يعرفه أي راوٍ آخر عنها.
من هنا ندرك سرَّ اعتماد تقنية الراويين، وسرّ الجدة وشفائها، هذا إضافة إلى اكتشاف الفتاة لتآمر الرَّجلين اللذين أرادا ابتزاز جدتها، وكتابة ما اكتشفته قصَّة مشوِّقة.
معركة طبيب
تتخذ رواية معركة طبيب البنية المقطعية المرقّمة نفسها، ويؤدِّيها راوٍ شاهد هو طفل في الحادية عشرة من عمره، مريض في مستشفى قرية «العاطف» في محافظة الجيزة، وهو راوٍ شاهد، يروي ما يشاهده بموضوعية وحيادية وبراءة. وهي إذ تقدِّم ما يحدث في هذه المستشفى تصوِّر واقع الفساد في مؤسسة عامة من نحو أوَّل، وواقع الفلاحين الذين هم أساس حضارة مصر خلال خمسة آلاف سنة (ص73) من نحو ثان. وفي الوقت نفسه، تقدِّم أنموذجاً يقاوم الفساد.
وهو «أول طبيب يطبّق على أرض الواقع ما نقرأ عنه في الكتب» (ص74). فكأن الرواية تلحظ ظاهرة أخرى، وهي ظاهرة الازدواج المتضادَّ بين القول والفعل، وهي ظاهرة من ظواهر الفساد.
كان الراوي شاهداً على الاهتمام الذي ملأ قلب الطبيب ماجد بأهل البلد، وأتاح للشخصيات أن تتبادل الحوار فتنمِّي السرد، وتكشف الواقع، كما كان شاهداً، أدلى بما رآه وعرفه لدى محاكمة الطبيب.
موضوعة هذه الرواية اجتماعيَّة، وهي تقدِّم الطبيب الأنموذج الذي يعمل من أجل الفلاحين ومقاومة الفساد في الوقت نفسه، فالفاسد، كما تقول سوسن زوجة الطبيب ماجد له، هو مثل «هذا الكلب الشّرس الذي حاول أن يعضّك، وأنت تقدِّم له الطعام» (ص78) والمخلص يقول ما قاله الطبيب ماجد لزوجته التي قررت ترك القرية، ودعته إلى مرافقتها: «أنتِ بهذا تحققين للشرِّ أهدافه...، كل مخلص في عمله سيجد من يقف في طريقه، ولا بد من الصلابة والمقاومة، على الأقل لأجل الناس الذين وضعوا ثقتهم فيّ». ويقرِّر أمام الجميع: «لا بدَّ للخير من أن ينتصر...» (ص92).
معجزة في الصحراء
هذه رواية قصيرة تجري أحداثها في واحةٍ «الجارة»، وإذ ينطق العنوان بحدوث معجزة في الصحراء، فإن القارىء يقبل على القراءة ليعرف ما هي هذه المعجزة، وإذ ينتهي من القراءة يتبيَّن له أنَّها معجزة حققتها إرادة الإنسان، القادر على الملاحظة والتفكير والصَّبر والتَّصميم...
تتخذ هذه الرواية بنية سردية خطِّية لا تخلو من استرجاع، وتتشكَّل من مقاطع متتالية مُعَنونة، تروي قصّة مواجهة الإنسان للطبيعة الصحراوية، وانتصاره في هذه المواجهة. تبدأ الرواية بوحدة الفقد، فقد انسدَّت البئر الوحيدة في الواحة، وبات الناس مهدَّدين هم ومواشيهم وحقولهم بالموت، لم يفكروا بالرَّحيل، وإنما فكروا في تعويض الفقد، وكان لهم ما أرادوا، إذ عملوا متعاونين في سبيل تحقيق هذا الهدف، وكان للأطفال دور أساس في الوصول إلى الهدف. يقول الضابط محمود في بيان ذلك «... حمزة يقود بشجاعة زملاءه الصِّبيان، كل يومٍ إلى عين الماء، يتحمّلون في ذلك مشقّة لا يستطيع تحمّلها أمثالهم في أي مكانٍ آخر...، هم أبطال حقّاً...، إنهم الذين حفظوا حياة أهل الواحة حتى الآن...» (ص52).
يبدو واضحاً أن الكاتب يملك معرفة بفضاء روايته، وقد حصَّل هذه المعرفة اقتناعاً بقوله: «لا بد لكاتب الأطفال، من أن يمتلك المعرفة والخبرة بما يكتب عنه، ويشبِّه ما يقوم به بما تقوم به النحلة التي تجمع الرحيق من ثلاثة آلاف زهرة أو أكثر لتصنع غراماً واحداً من العسل..، ويرى أنَّه لا بدّ من الرحلات والزيارات للبيئات المختلفة، مثل الزيارات إلى الصحراء أو المناطق الساحلية، أو المناطق الصناعيَّة، أو الرِّيفية، أو العشوائية... إضافة إلى تحصيل مختلف صنوف المعرفة([7]).
البطولة المعاصرة
وإن كان من بطولة تحدَّث عنها الضابط، فهي بطولة من نوع خاصٍّ، يمكن بيانها كما يأتي:
الطِّفل الذي يواجه المشكلات بشجاعة، ويتمكن من حلِّها من طريق استخدام العقل والذكاء، والإرادة، والعزم والتصميم، فيحقق الإنجاز/ الانتصار، يقدِّم أنموذجاً للبطولة، لا يقل أهمية عن نماذج البطولة التي قدّمتها القصص القديمة. إننا إذ نقرأ قصصاً تجسِّد هذا النوع من البطولة نجد أنفسنا أمام صور من البطولة المعاصرة، وهي بطولة الإنسان العادي الذي ينتصر في مواجهته مشكلات حياته وصعوباتها بقدراته هو، مستفيداً من كل ما يقدِّمه له واقعه من عوامل مساعدة.
كنَّا قد لمسنا هذه الشخصيَّة في القصص السابقة، كما لمسناها في هذه القصَّة، ونلمسها في قصص أخرى، كما في قصة «جزيرة عروس البحر» التي تمت ترجمتها إلى الإيطاليَّة، فنكتشف، في خاتمة هذه القصَّة، «أن قدرة الأطفال على الإبداع هي طريقهم للتخلُّص من ضغوط تسلُّط الكبار وقلقهم عليهم»، وذلك بعد أن تنشر الصحف كلها صورة الفتاة بجانب والدها. تحت العناوين الرئيسية التي تقول بالخطوط الحمراء العريضة: «العقل المبدع لفتاة صغيرة يكشف أسرار الماضي»، وتتساءل الفتاة البطلة: «هل يمكن لوالدتي، بعد كل هذا، أن تتمسَّك بممنوعاتها»([8]).
وفي رواية «مغامرة زهرة مع الشجرة»، يحمي الأطفال بقيادة فتاة شجرة من القطع، وذلك لأنهم كانوا يلعبون في فيئها، ما يدل على قدرة الأطفال على اتخاذ قرارات صائبة، وعلى قدرة الفتاة على القيادة، إضافة إلى التَّركيز على حماية البيئة، وهذه موضوعة من الموضوعات التي يركِّز الشاروني عليها.
أسرار بيت الطَّالبات
«أسرار بيت الطالبات» رواية قصيرة، تتخذ بنية روائية مقطعية، مرقمة المقاطع، يثير عنوانها فضول القارىء، ويدفعه للقراءة ليعرف أسرار بيتٍ ليس بعادي، وإنما هو بيت الطالبات، ما يوحي بأن الأسرار تتعلَّق بجانب مثير من جوانب حياة الطالبات في بيتهنَّ، وهو في هذه الرواية، البيت التابع لكلية التربية من جامعة قنا، لكن قراءة الرواية تفيد أن هذه الأسرار تتمثل في مواجهة الطالبة رجاء لفكّي كمَّاشة والانتصار عليهما. يقول الراوي: «كانت ترتسم أمام خيالها صورة فكّي كماشة: التقاليد مع الإشاعات تتضافر لتسدّ أمامها الطريق التي تصوَّرت أن أقدامها قد ثبتت عليها» (ص33).
مفاد حكاية هذه الرواية، أو متنها الحكائي، أنَّ رجاء الطالبة في كلية التربية تشاهد مع رجل في عربة حنطور، في الأقصر، فيستغل ابن عمِّها هذه الحادثة التي شاع خبرها، ليسعى إلى تنفيذ رغبته في الزَّواج منها، بعد أن رفضته مراراً، وبقي يمارس الضغط على والدها، وخصوصاً بعد أن لم يستطع هذا الأخير من سداد دين المصرف الذي رهنت الأرض لديه.
لكنَّ الفتاة تكشف السرَّ، وهو أنها كانت مع والد زميلتها، مدير المصرف، لتنجز معاملة قرضٍ لتسدد به دين والدها، فيتحرَّر من ضغوط عمِّها وابنه.
هذه هي أسرار رجاء، إذ تمكَّنت بحسن تفكيرها، وشجاعتها، وإقدامها من الإفلات من قبضة الكمَّاشة، ومواصلة دراستها.
هذه هي الحكاية/ المتن الحكائي، أمَّا المبنى الروائي، فيتمثل في بنية روائية متخيلة تصدر عن مرجعها وتغايره، فتبدأ، على لسان الراوي العليم، بمشهد تأخَّر رجاء عن المجيء إلى غرفتها، وقلق زميلتيها شيماء وياسمين عليها، تأتي مديرة بيت الطالبات، وتسأل عنها، فوالدها جاء يسأل عنها، وهو الآن في مكتبها...، يستمر القصُّ خيطياً، فنعرف أن رجاء قادرة على مواجهة المشكلات التي تثيرها، يلح الوالد في طلب رؤية ابنته، ويتم استرجاع تعرِّف فيه المديرة بالوالد كما تعرفه منذ أربع سنوات، يفتح باب الإدارة وتدخل الدكتورة هناء، أستاذه علم النفس، في الكلية، ويجري حوار يصرّ فيه الوالد على رؤية ابنته، ويعلن أن لا مفرّ من عودتها معه إلى قريته، ثم يسأل: كيف تسمحون لطالبة أن تسافر إلى الأقصر بغير علم أهلها؟ تفاجأ السيدتان، تخرجان، وتعودان ومعهما رجاء، ويصفها الراوي: «يشعُّ ذكاء واضح من عينيها الواسعتين، متناسقة الملامح سمراء. تؤكد تعبيرات وجهها قوَّة الشخصية والاعتزاز بالنفس» (ص22).
يوظَّف هذا الوصف في تقديم شخصيَّة قادرة على مواجهة الموقف، يطلب منها والدها العودة إلى القرية، لأن ابن عمها ينتظرها، ويسألها عن ذهابها إلى الأقصر، يخبرها بامتلاء قريته بالإشاعات، ومجيء ابن عمِّها ليأخذها بالقوَّة، وتهديده بغسل العار. بكت، وأخبرها والدها أن زواجها من ابن عمها هو الحل.
يقدم الراوي معرفة بالأقصر، بوصفها مدينة تموج بالأغراب، وبتقاليد الناس في القرية، ثمّ تسترجع رجاء رفضها لابن عمها مرات، ثمّ يعرِّف الراوي بعلاقة والدها الذي لم ينجب سواها بعمها وابنه وطمعهما بأرضه. يقتنع الأب بالبقاء حتَّى الصباح، وتخبر رجاء الدكتورة هناك بأن ذهابها كان لسبب.
وهنا تجدل الحبكة، فما هو سرّ الذهاب إلى الأقصر ويتم استرجاع تعلمها، وعلاقة أمها بأبيها وأسرته، ووفاة أمها وتقديم أبيها ذهب أمها لها...
يأتي ابن عمِّها هائجاً، ويُستدعى إلى الجلسة في الإدارة، وتنطق رجاء بالسرِّ، وهو رهن الذهب مقابل قرض مصرفي ساعدها والد صديقتها شيماء، مدير المصرف، في الحصول، عليه، وقد جاء ليقدم لها «الشيك» في الجلسة نفسها، فانسحب ابن العم خائباً، وفرح الأب، وهكذا تمكنت رجاء من التخلص من الكماشة والانطلاق إلى تحقيق ذاتها، مؤكدة ما قالته أستاذتها د. هناء: «كل هذا سيتغيَّر يوماً، وبأسرع ممَّا تتصورين...» (ص45)، «ثقي، يا رجاء، أن التغيُّر قادم وبسرعة، ولن يتوقَّف أمام من يحاولون تعطيله» (ص47). إن للتعليم دوراً أساساً في إحداث هذا التغيير وهنا نتذكَّر ما جاء في رواية «منيرة وقطها شمسة»، من أن التعليم يفتح أمام الإنسان كل النَّوافذ والأبواب» (ص58).
يبدو واضحاً أن الشاروني، منحاز إلى الفقراء، في مختلف بيئاتهم، ويرى أنَّ «العامل المهم، في مواجهة الفقر، هو النَّظر إلى نصيب الفقراء من المعرفة، والمعلومات، وليس من الموارد المالية فقط، وفي ظل اقتصاد المعلومات الذي يعيش فيه، فإنَّ المعرفة تتحوَّل إلى ثروة، والكتاب سيظل أهم أوعية المعرفة»([9]).
هذه الرواية اجتماعيَّة، وقد اتخذت عنواناً مثيراً، بنيتها هي بنية البحث عن معرفة السرّ، وقد أجيد بناء حبكتها، كما بقية الروايات، فجاء السرد مشوِّقاً، مشكِّلاً لبنية سردية خطِّية لا تخلو من استرجاعات محدودة، وتمثل بطولة حديثة تحدّثنا عنها قبل قليل.
ليلة النَّار
هذه الرِّواية متميِّزة، فقد اختارها «المجلس العالمي لكتب الأطفال في سويسرا»، ضمن قائمة الشَّرف التي يصدرها كل عامين، في مجالات التأليف للأطفال ورسم كتبهم، أو ترجمتها، وقد أرسل هذا المجلس كتاباً يُهنِّئ فيه مؤلفها يعقوب الشاروني رائد أدب الأطفال في مصر والوطن العربي بفوزه بمرتبة الشرف، بوصفه واحداً من أفضل من يكتبون للأطفال في العالم، ثمَّ كرَّمه في مؤتمره الذي أقيم في 18/8/2016 في كندا.
يقول المجلس المصري: إن هذه الرواية «تستحق هذا الفوز بجدارة؛ إذ إنها تتناول موضوعاً في غاية الأهميَّة، لم يسبق طرحه في أدب الأطفال من قبل، وهو الطبقات الاجتماعية المهمَّشة».
تجري أحداث هذه الرواية في أفقر أحياء القاهرة، وهو حي «منشيَّة ناصر»، تحترق، في هذا الحي، «سوق القلعة»، وتهدِّد الحياة الاقتصادية لكثير من العائلات، ويُتَّخذ القرار بإعادة بناء السوق بالطوب بدلاً من الخشب، لتتم تسوية الأمر مع الحكومة، يُنفّذ أصحاب الدكاكين القرار بناءً لاقتراح طفلين: فتى وفتاة وحثهما والدهما على قيادة الناس، وإذ يكتشف الأب أن الأرض التي تقام عليها السوق يمكن أن تعود له، يقرر هو وابنه أن الناس أولى بها، ويتلف الوثيقة التي يمكن أن تثبت له ملكية الأرض.
هذه هي حكاية هذه الرواية، أو متنها الحكائي، وإذ نتتبَّع تشكل بنائها نلحظ أنه يصدر عن هذه الحكاية ويغايرها في آن. فالروائي يوكل القصَّ إلى الراوي الشخصيَّة وهو الفتى الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، فيشكِّل بناءً يتألف من مقاطع متتالية مرقّمة ومعنونة، وهذا كما قلنا آنفاً بناء يتأثر بالبناء الدرامي، ويبدأ بعنوان يثير أسئلة عن هذه الليلة التي تضاف إلى النار، ما يجعله عنواناً يشدُّ الانتباه والاهتمام ويحرِّض على القراءة.
تبدأ الرواية بوحدة الفقد، المتمثلة باحتراق السوق، وهذا يعني فقد الطَّعام: «غداً لن يجد الطعام طريقه إلى أفواه ألفين أو أكثر، معظمها من الأطفال والنِّساء...» (ص18).
يتعزَّز هذا الفقد بفقد المساعد، فسكان البيوت المجاورة يتفرَّجون، وكانوا «مثل النمل عندما يتدافع فوق حشرة ميتة فلا يظهر منها شيء» (ص12)، وهذا التشبيه أنموذج للغة يستخدمها الراوي في بعض الحالات، في حين أن لغته في معظم الحالات تكون سردية موضوعية، ويتفاقم الفقد، عندما يتقرَّر أن لا إمكانية لطلب المساعدة من الشرطة، فالسوق عشوائية ومقامة على أرض الحكومة. وإذ يجد أصحاب السُّوق أنفسهم أمام هذه المعضلة، يقرِّرون؛ على لسان شيخة السَّوق: «ليست الكارثة الأولى، ولن تكون الأخيرة...، سنعيش...» (ص15)، «لن نسمح لهم بأن يقتلونا ونحن أحياء» (ص16). يقود هذا القرار إلى التأمُّل والتفكير، فالمشكلة تتمثل في أن السوق مقامة على أرض الحكومة، واكتسابها الشرعية يقتضي أن تبنى بالطوب وتُنظَّم، وتثار هنا مسألة ملكية الأرض، فاسمها هو خرابة الشهاوي، والأب هو ربيع الشَّهاوي. ويعلن القرار بتبريد الحريق، ويتم الخروج للتنفيذ، ويقترح الفتى والفتاة على أبيهما البناء بالطُّوب في الليل. ويتم استرجاع يعرِّف بالأب ومجيئه بأسرته إلى هذا المكان، والتعريف بوعاء أثري عليه خربشات، يتواصل الخروج، فتقتنع شيخة السوق بالاقتراح، ويتم التنفيذ. يتعاون الجميع وتنجز المهمَّة، غير أنَّ عوامل ذكرت سابقاً تبرز، فالخربشات الموجودة على الوعاء تمثِّل وثيقة تثبت أن الخربة للشهاوي، لكن الأب، وريث الشهاوي، يقرر أن يتخلى عن حلمه الشخصي، فيتلف الوثيقة، على الرغم من الاغراءات التي تُقدّم له. وهكذا يتحقق انتصار يمثل إنجازه بطولة لأناس مهمشين يتعاونون، لتنفيذ قرار يتخذه قائد يقتنع باقتراح فتيين: فتى وفتاة يفكّران، ويعملان بصبر وشجاعة وإقدام.
تتخذ هذه الرواية بنية خطيّة، تتكسَّر بالاسترجاع، يؤدي القصّ فيها راوٍ هو شخصيَّة مشاركة، يقظة الحواس، حادَّة الذَّكاء، تعمل وتواصل الدِّراسة، وتفكِّر في الحلول الدَّائمة، وتقدِّم اقتراحاً عملياً يبدو في البداية كأن تحقيقه حلم، غير أن العمل الجماعي المنظَّم يحقق هذا الحلم، وهذه هي البطولة الحديثة التي تحدَّثنا عنها آنفاً.
يؤدِّي الراوي السرد، فيأتي، كما في بقية القصص، رشيقاً، تتتابع الأحداث في حركة ينمِّيها تفاعل العوامل الدَّاخلية، فالمبدأ المحرك لها هو هذا التفاعل الذي يجعل القارىء يتابع الأحداث إلى نهاية الرواية. ويبدو أن الشاروني يقصد إلى إجادة ذلك، فهو ينطلق في قَصِّه من منظور لعناصر القصِّ يمكن أن نتبيَّنه في ما يأتي:
يقول الشاروني: إن ما يدفع القارىء إلى نهاية الكتاب هو الأحداث والحركة، واكتشاف المواقف الجديدة للشخصيات، وليس مجرد تراكم المعلومات، ويستشهد بقول كاتبة أطفال مشهورة، مفاده: «إذا كنت تستمتع بالوصف، فأنت كاتب مقال، وإذا كانت الجمل المتناغمة، بطريقة جميلة، تعطيك المتعة، فقد تكون شاعراً. لكن إذا كانت المواقف وما يقوم به الناس وسلوكهم وانفعالاتهم في تلك المواقف هي ما تثيرك، إذن فأنت راوي قصة»([10]).
وهو إذ يرى إلى عناصر القصِّ رؤية تركِّز على الأحداث والحركة، وهو ما تركِّز عليه السِّينما والدراما، يرى إلى البنية العامّة من هذا المنظور، فيقول:
لا شك في أنه كلما اقترب بناء العمل القصصي، أو الرِّوائي، وإيقاعه من البناء الفني الذي تحرص عليه أفلام السينما، والذي تعوَّد الأطفال على مشاهدته والتفاعل معه، كان ذلك عاملاً مهماً في جذبهم إلى القراءة وتذوُّقهم لما يقرأون من أعمال قصصية، ثم يقرِّر أنَّه ليس من حاجة إلى إطالة الوصف، إذ يترك ذلك للرسوم، كما أنه ينبغي استخدام الحوار المباشر، وليس سرد مضمون الحوار([11]).
خاتمة:
في الختام، يمكن القول: إن يعقوب الشاروني، أحد كبار روَّاد أدب الأطفال العرب والعالميين، غزير الإنتاج، ويتوزّع إنتاجه على اتجاهات عديدة، وقد اقتضت منهجية البحث، في هذه الدراسة، محدودة عدد الصفحات، اعتماد التصنيف والنّمذجة، فاخترنا دراسة اتجاه الواقعية الاجتماعية النقدية من اتجاهات إنتاجه.
واخترنا من هذا الإنتاج الواقعي الاجتماعي القصص الآتية: «قليل من الراحة فوق السلالم»، «منيرة وقطَّتها شمسة»، «سرُّ الجدَّة»، «معركة طبيب»، «معجزة في الصحراء»، «أسرار بيت الطالبات»، «ليلة النار»، بوصفها نماذج للدِّراسة، وإذ نتوصل إلى نتائج نستشهد بنماذج أخرى، وسوَّغنا اختيارنا هذا الاتجاه بأن الشاروني يعد أبرز روَّاده في أدب الأطفال العربي.
ميّزنا، بداية، بين الأقصوصة الطويلة، والرواية القصيرة، فالأولى تلتقط اللحظة المهمة من الحياة، الكاشفة موقفاً ورؤية، والثَّانية تنظم تفاصيل حياة طويلة، وقد اختار الكاتب هذين النَّوعين القصصيين مستجيباً لشروط الحياة المعاصرة، ثم تبيَّنا خصائص قصِّه، فبدا واضحاً أنه يجيد استخدام العناوين الجذابة المثيرة للاهتمام، وأن بنية هذا القصِّ العامة بنية مقطعيَّة/ مشهديَّة تقترب من البناء الفنِّي الذي تتخذه أفلام السينما، أو المسلسلات الدرامية، وأن الرواة متنوِّعين يختار القاصُّ ما يقتضيه المقام منهم ليؤدِّي القصَّ. لم يكن هذا الرَّاوي مهيمناً أو متحكِّماً، وإنما كان يشكِّل السياق في مسار تنميَّة العوامل الدَّاخليَّة، فينمو في حركة أفعال تنشىء مواقف وترسم شخصيات، وتفضي إلى نهاية قصَّة/ رواية تتشكل لتنطق بدلالة من دون أي تدخل من الراوي، فتُشِع الدلالة في فضاء المتعة القصصيَّة، التي يوفِّرها البناء القصصي المتخيَّل ذي المرجع الواقعي الاجتماعي، والبنية المفارقة للمرجع والصادرة عنه في آن، والناطقة برؤية إليه.
كما بدا واضحاً أن الفضاء القصصي، في قصص الشاروني، هو فضاء الإنسان المعاني، في العشوائيات، والصحراء، والرِّيف، والأحياء الفقيرة، حيث يكثر الأطفال العمَّال. في هذا الفضاء يحقق الأطفال المتميزون بطولة يمكن أن نسمِّيها بالبطولة المعاصرة، فهي بطولة الطِّفل العاقل، الذكي، المفكر، المبادر، الساعي إلى تحقيق هدفه بإرادة وعزم وصبر...
يتساوى في ذلك الفتى والفتاة، فكلٌّ منهما قادر على الإنجاز، ما يقتضي توفير فرص هذا الإنجاز ليس المادية فحسب، وإنما المعرفية أيضاً.
تنطق قصص الشاروني، كما قلنا، بالدلالة النَّصِّية، أي أن النَّص القصصي نفسه يرشح بها كما ترشح الزهرة بعطرها، في فضاء تهيمن فيه الوظيفة الجمالية القصصيَّة، وتنتظم هذه الدلالات في منظومة قيم إنسانيَّة، منها تقدير الإنسان بوصفه إنساناً، وتوفير حقوق الإنسان له، وبخاصَّة حقه في العيش الحر الكريم، وتحصيل المعرفة العلمية، وتنمية التفكير العلمي، وعدم التمييز بين الفتى والفتاة، وقبول الآخر، وحماية البيئة، والانتماء إلى الأهل والوطن، وتحقيق الإنجاز من طريق العمل، وقيمة الوقت، وتنمية روح الإبداع، والرفق بالحيوان...
ميزة أخرى أساسيَّة تتصف بها قصص الشاروني، وهي اللغة التي يستخدمها، فهي لغة متميِّزة، بمعجمها المأخوذ من لغة الحياة اليوميَّة، المتداولة، والتركيب البسيط، القصير في الغالب، وإن كان من ألفاظ مأخوذة، من المحكية أو الأجنبيَّة، فإنَّها تُضبط وفاقاً لقواعد اللغة العربية، وهذا ما أقرته مجامع اللغة العربيَّة، ويصدق هذا على تركيب العبارة، إذ لم نلحظ تأثراً بالتراكيب الأجنبيَّة، فقد تمكن القاصُّ من الجمع بين البساطة والمتانة والسهولة في آن.
نقول صواباً إذ نختم حديثنا، بتأكيد القول: إن هذه الخصائص جعلت يعقوب الشاروني رائداً كبيراً من روَّاد أدب الأطفال والمنظرِّين له في الوطن العربي والعالم، لا ينفك عن التجديد المواكب للعصر وتطوراته.



 ([1])       راجع: يعقوب الشاروني، قصص وروايات الأطفال: فن وثقافة، القاهرة: دار المعارف، سلسلة اقرأ (768). د.ث، د.طـ. ص5.
 ([2]) نفسه، ص164.
 ([3]) د. ماريا ألبانو، القصَّة المصرية الحديثة للأطفال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ط.1، 2009، ص27.
 ([4]) قصص وروايات الأطفال: فن وثقافة، م.س، ص26 و27.
 ([5]) المرجع نفسه، ص28.
 ([6]) المرجع نفسه، ص158.
 ([7]) المرجع نفسه ص48 و49.
 ([8]) راجع: المرجع نفسه، ص139 و140.
 ([9]) قصص وروايات الأطفال: فن وثقافة، م.س. ص8 و9.
 ([10]) المرجع نفسه، ص83.
 ([11]) المرجع نفسه، ص52 و53.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق