الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

"عند فتحة التنفس " قصة للفتيان بقلم: طلال حسن



عند فتحة التنفس
قصة للفتيان
بقلم: طلال حسن
     " 1 "
ــــــــــــــــــــ
    تهاوت الشمس ذابلة وراء الأفق ، كما تتهاوى شعلة على الأرض ، وينطفىء دفؤها وضوؤها الخافت ، النهار القطبي يكاد ينتهي ، والشتاء الطويل ، القاسي ، الموحش ، يلوح في الأفق .
وبعد العشاء ، تهيأ انغوسينا للنوم ، عندما ناداه اتونغيت من خارج الخيمة : انغوسينا ،  لحظة من فضلك .
ورفعت زوج انغوسينا رأسها مستغربة ، وكانت ترتب الفراش استعداداً للنوم ، وقالت : إنه  اتونغيت، لم يأتك من قبل ، ترى ماذا يريد الآن ؟
واتجه انغوسينا إلى الخارج مسرعاً ، وهو يقول : هذا ما سنعرفه في الحال .
وخرج انغوسينا من الخيمة ، ورأى اتونغيت يقف على مقربة من المدخل ، فقال مرحباً : أهلاً ومرحباً اتونغيت ، تفضل إلى الداخل ، تفضل .
فنظر اتونغيت إليه ، وقال  : لا ، أشكرك ، الوقت غير مناسب الآن .
وسكت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : علمت أنك ستخرج غداً لصيد الفقمة .
ونظر إليه انغوسينا مستفسراً ، وقال : نعم ، سأخرج غداً مع الفجر .
فاقترب اتونغيت منه ، وقال : أنت صياد ماهر ، أريد أن أرافقك ، إذا سمحت .
وبدون تردد ، قال انغوسينا : لماذا لا ؟ اثنان في الصيد خير من واحد .
فقال اتونغيت بارتياح : سأنتظرك غداً مع الفجر ، عند شاطىء البحر .
فقال انغوسينا : حسن ، فلنلتق هناك غداً مع الفجر .
واستدار اتونغيت ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : تصبح على خير .
ودخل انغوسينا الخيمة ، وإذا زوجته تقف جامدة ، تتطلع إليه ، فقال : سنخرج معاً إلى الصيد غداً .
وقالت زوجته ، وهي تعد الفراش : إنني غير مرتاحة إلى خروجه معك .

      " 2 "
ــــــــــــــــــــــ
    عاد اتونغيت إلى خيمته ، بعد أن تجول طويلاً في الظلام ، بعيداً عن المخيم ، حتى هدّه التعب ، وانتظرته أمه قلقة في الخيمة ، وحين أقبل عليها ، تنفست الصعداء ، وقالت : تأخرت ، يا بنيّ .
وردّ اتونغيت ، دون أن ينظر إليها : لم أعد طفلاً صغيراً ، يا أمي .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : مهما يكن ، مازلتُ أقلق عليك ، ولا أرتاح حتى أراك عائداً .
لاذ اتونغيت بالصمت ، فقالت الأم : بنيّ ، انتظرتك حتى الآن ، لنأكل معاً .
وتمدد اتونغيت في فراشه ، وهو يقول : كلي أنت ، يا أمي ، لا أشتهي شيئاً .
وتوقفت الأم ، تنظر إليه ، وقالت : أنت لم تأكل شيئاً منذ الصباح ، يا بنيّ .
ولاذ اتونغيت بالصمت ، ثم نظر إلى أمه ، وقال : سأخرج غداً لصيد الفقمة مع انغوسينا .
وخفق قلب الأم قلقاً ، فهي تعرف طبيعة علاقته مع انغوسينا ، ونظرت إليه ، وتساءلت قائلة : ولماذا انغوسينا بالذات !
فردّ اتونغيت قائلاً : إنه صياد ماهر .
وقالت الأم : انغوسينا غريب ، وهو ليس أكثر مهارة في صيد الفقمات من شباب القرية .
ومدّ اتونغيت يده ، وسحب الغطاء على وجهه ، وهو يقول : دعيني أنم ، عليّ أن أخرج غداً مع الفجر ، والتقي بانغوسينا عند شاطىء البحر .
وتمددت الأم في فراشها ، ثم قالت : لعلي أذهب غداً إلى أختي ، في المخيم القريب .
وأدرك اتونغيت ما ترمي إليه أمه من كلامها ، فلاذ بالصمت ، وتابعت الأم قائلة : ابنتها شابة ، وهي أجمل فتاة في المخيم ، سأخطبها لك ، إذا وافقت قبل أن يخطفها منك أحد شباب المخيم .

     " 3 "
ـــــــــــــــــــــ
    مع الفجر ، عند شاطىء البحر ، التقيا ، وقد حضر اتونغيت ، قبل انغوسينا ، وحربته القديمة ، التي ورثها عن جده ، مركونة في قاربه .
وما إن أقبل انغوسينا ، وحربته في يده ، حتى خاطب اتونغيت قائلاً : الجو مناسب اليوم ، فلننطلق .
وبالفعل كان البحر ساكناً ، والرياح تهب هادئة ، وإن كانت شديدة البرودة ، ولا عجب ، فالشتاء القطبي الطويل القارس على الأبواب .
ودفع كلّ منهما قاربه إلى الماء ، وقفزا فيه ، وراحا يجذفان ، متجهين إلى عرض البحر ، وبدا البحر بزرقته وهدوئه ، وكأنه سماء الصيف .
ونظر اتونغيت إلى انغوسينا ، وتساءل قائلاً : هل في نيتك ، مكان معين نذهب إليه ؟
وهزّ انغاسينا رأسه ، وقال : جزيرة صغيرة ، منعزلة بعض الشيء ، على شواطئها فقمات كثيرة .
والتمعت عينا اتونغيت ، انه المكان المناسب ، من يدري ، لعل الفرصة قادمة ، ورمقه بنظرة سريعة ، وقال : هذا أفضل ، فلا شك أن الصيادين ، الذين يرتادونها ، ليسوا كثيرين .
ومضى انغوسينا يجذف بهمة ، وهو يقول : نعم ، إنهم قلة ، وهذا يتيح لنا فرصة أكبر للصيد .
وتلفت حوله ، ثم أضاف قائلاً : بدأ البحر يجمد شيئاً فشيئاً ، يا اتونغيت ، وسنركن قواربنا قريباً ، بعيداً عن الشاطىء ،  حتى الربيع القادم .
وبعد منتصف النهار ، لاحت جزيرة صغيرة من بعيد ، فأشار انغوسينا بيده إليها ، وقال : انظر ، يا اتونغيت ، تلك هي الجزيرة ، سنقضي فيها بضعة أيام ، وسنعود منها بصيد وفير .
وتطلع اتونغيت إلى الجزيرة ، ثم رمق انغوسينا بنظرة خاطفة ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة . 

     " 3 "
ــــــــــــــــــــ   
    خلال أربعة أيام ، اصطاد انغوسينا و تونغيت عدداً لا بأس به من الفقمات ، لكن معظمها اصطاده انغوسينا ، حتى أوشك قاربه على الامتلاء .
وحاول اتونغيت جهده ، أن يجاري انغوسينا في الصيد ، لكن دون جدوى ، إنها ليست فقط القوة ، والصبر ، والذكاء ، وإنما أيضاً الخبرة .
وطوال هذه الأيام الأربعة ، سواء في الليل أو النهار ، وسواء في الصحو ، وربما حتى في النوم ، كان اتونغيت مشغولاً بأمر آخر ، غير الصيد ، استغرق كلّ مشاعره وأفكاره .
إن انغوسينا شاب ليس من قريتهم ، بل وليس من قومهم ، جاء ذات يوم ، لا أحد يدري من أين ، فأحبه الجميع ، وأسر قلوبهم ، وفي المقدمة قلب الفتاة التي صارت فيما بعد زوجته  .
صحيح إنها اختارته بارادتها ، وأنه حتى لم يحاول اغواءها ، لكن لو لم يأتِ ، ولم تره ، لكانت تلك الفتاة    له ، وليس لأحد غيره .
وحتى اللحظة الأخيرة ، ظلّ اتونغيت على أمل ، أن تكون     له ، وبعد زواجها ، توقع أن تفتر رغبته فيها ، ويسلم بالأمر الواقع ، لكن ما حدث هو العكس ، وظل ينتظر الفرصة ليستردها .
لم تأتِ الفرصة ، رغم تحينه لها ، لابد إذن من خلقها ، وها قد سنحت الفرصة ، وعليه أن يستغلها ، وإلا أفلتت منه ، ولن يحظى بها ثانية حتى النهاية .
وأكثر من مرة ، وخاصة عندما يكون انغوسينا نائماً ، يرمق اتونغيت حربته بنظرة سريعة ، ويتراءى له أنه ينهض ، ويمسك بالحربة ، ويطعن بها انغوسينا ، كما لو كان يطعن فقمة .
لكن اتونغيت كان يتراجع في اللحظة الأخيرة ، في انتظار فرصة أخرى ، ليست بعيدة ، قد لا تضطره إلى استخدام الحربة القاتلة .

     " 5 "
ــــــــــــــــــــ
    في ليلة اليوم الرابع ، وقد تمددا بعد العشاء ، في خيمتهما الصغيرة ، قال اتونغيت : لنعد غداً إلى القرية ، فقد امتلأ قاربك بلحم الفقمات .
ولاذ انغوسينا بالصمت لحظة ، ثم قال : دعنا نخرج غداً للمرة الأخيرة ، ونصطاد لك ، ولو فقمة واحدة ، نضيفها إلى ما اصطدته ، ثم نعود .
فالتفّ اتونغيت بغطائه الدافىء ، وقال : حسن ، كما تشاء ، لنبقَ غداً أيضاً .
في صباح اليوم التالي ، استيقظا مبكرين ، وتناولا طعام الإفطار ، ثم أخذ كلّ منهما حربته ، وتوغلا في الطرف المتجلد من البحر .
وتجولا معاً في أول الأمر ، دون أن يعثرا على فقمة واحدة ، فتباطأ انغوسينا ، وقال : لنتابع فتحات التنفس ، لعلنا نحظى بفقمة .
وردّ اتونغيت قائلاً : هذه فكرة جيدة .
وتابعا فتحات التنفس ، التي تطل الفقمات منها أحياناً لتتنفس ، بعد أن تبقى فترة في أعماق البحر ، مطاردة الأسماك ، التي تتغذى عليها .
وغالبا ما حاولا التسلل إلى الفقمات ، التي تخرج من فتحات التنفس ، لتتمدد تحت الشمس الدافئة ، لكن ما إن يقتربا منها ، حتى تهب خائفة ، وتقفز عبر فتحة التنفس إلى البحر ، وتغوص إلى الأعماق .
وعند حوالي منتصف النهار ، لمحا فقمة صغيرة ، تتشمس على مقربة من إحدى فتحات التنفس ، فتوقف انغوسينا ، وأشار لاتونغيت أن يتوقف ، وهو يهمس له بصوت خافت : ابقَ أنت هنا ، سأتسلل وحدي إلى تلك الفقمة ، وأصطادها .
وجلس اتونغيت القرفصاء ، والحربة في يده ، وتابع انغوسينا وهو يمشي بخطى متلصصة ، والحربة في يده ، حتى غدا على بعد خطوات من الفقمة .
ورفع انغوسينا يده بالحربة ، استعداداً للإجهاز على الفقمة ، وإذا هي تهبّ صارخة ، وتسرع إلى فتحة التنفس ، وتلقي بنفسها إلى البحر  .
وعلى الفور ، طاردها انغوسينا بسرعة ، وكاد أن يصل إليها ، ويطعنها بحربته ، لكنه تعثر ، وتهاوى إلى البحر ، عبر فتحة التنفس .
ونهض اتونغيت ، نهض بهدوء شديد ، هذه فرصته ، التي طالما تمناها ، لكنه لم يتصور ، أنها قد تأتي بهذه الصورة ، وتوقف متردداً ، وهو يرى انغوسينا يجاهد للصعود إلى السطح ، لكن دون جدوى .
وتراجع اتونغيت إلى الوراء ، وقبل أن يستدير ، ويمضي عائداً إلى حيث القاربين ، المحملين بلحم الفقمات ، التي اصطاداها خلال الأيام الأربعة الماضية ، رآه يغيب متخبطاً داخل فوهة التنفس .

     " 6 "
ــــــــــــــــــــ
    قطرَ اتونغيت قارب اغوسينا ، المليء بلحم الفقمات ، بقاربه الذي لم يضع فيه أكثر من ثلاث فقمات ، اصطادها خلال الأيام الأربعة الماضية .
ودفع القاربين إلى البحر ، وركب قاربه ، وراح يجذف بصعوبة بالغة ، فهو بالكاد يجذف قاربه ، فكيف به وقد قطر إليه قارب انغوسينا المليء باللحم .
وعند منتصف الليل ، والقمر يطل من أعالي السماء الصافية ، توقف اتونغيت مرهقاً ، والنعاس يثقل جفنيه ، فتمدد في ركن القارب ، وأغمض عينيه المتعبتين ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وأفاق اتونغيت من النوم ، قبيل شروق الشمس ، فأخذ المجذافين ، وراح يجذف بكلّ ما تبقى له من قوة ، وراح قاربه يشق الماء بصعوبة شديدة ، ساحباً معه قارب اغوسينا ، المليء باللحم .
ومالت الشمس للغروب ، وبدت كقنديل ضخم ، يوشك أن ينطفىء ، عندما لاحت له خيام القرية ، القريبة من شاطىء البحر ، وفوجىء بعدد كبير من الناس ، يقفون على الشاطىء ، وعيونهم تتطلع إليه .
ووصل اتونغيت إلى الشاطىء ، وقد هده التعب والقلق ، وسحب قاربه وقارب انغوسينا من الماء ، ومما زاد من قلقه ، أن الناس ظلوا يحدقون فيه صامتين ، دون أن يمدّ له أحدهم يد المساعدة .
وتوقف اتونغيت حائراً ، يحدق في من حوله ، الذين ظلوا جامدين في أماكنهم ، وبصمت ، وشعور مفعم بالقلق ، راح يشق طريقه بينهم ، دون أن يتفوه أحد منهم بكلمة واحدة .
وفجأة جمد اتونغيت مصعوقاً في مكانه ، إذ وجد نفسه ، وجهاً لوجه ، مع انغوسينا ، أهذا ممكن ! لقد رآه بأم عينيه ، يسقط في فتحة التنفس ، ويغوص شيئاً فشيئاً إلى الأعماق المظلمة الباردة .
وأفاق على رجل ضخم ، يتقدم منه ، ثم يقول : لي الشرف أنني أنقذته .
ونظر اتونغيت إلى انغوسينا نظرة منكسرة حائرة ، فتابع الرجل الضخم قائلاً : رأيته في فتحة التنفس ، في الرمق الأخير ، ولو لم أره في تلك اللحظة ، وأسارع إلى نجدته ، لفارق الحياة .
وصمت الرجل الضخم ، وران صمت قاتل ، عندئذ تقدم انغوسينا من اتونغيت ، وقال بصوت خافت : أشكرك ، لقد جئت بقاربي .
وظلت عيناه المتهمتان تحدقان في اتونغيت ، فأطرق اتونغيت رأسه ، وقال بصوت خافت ، لا يكاد يُسمع : لي خالة في مخيم وسط الغابة ، سآخذ أمي غداً ، ونذهب للعيش هناك .
واستدار انغوسينا ، واتجه إلى خيمته ، ويده في يد الرجل الضخم ، وهو يقول : الشمس غابت ، أنت ضيفي ، تعال معي ، يا صديقي .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق